أقلام فكرية
علي محمد اليوسف: فائض التجريد في الفلسفة

تمهيد اولي: لا نجانب الصواب لا بالفلسفة ولا بالعلم اذا قلنا ان تعاملنا مع العالم الخارجي الطبيعة والوجود والكوني انما هي علاقة تجريد لغوي معرفي. كل شيء في الوجود من حولنا مدركات وموضوعات وظواهر نتعامل معها في تعبير لغوي تجريدي، فالعقل ذاته جوهر قائم على ثنائية لا انفكاك بينها هي (بيولوجيا اللغة وتجريد الفكر).. وحين نذهب مع وليفريد سيلارز الفيلسوف الامريكي في مقولته الرائعة المكتنزة علميا وفلسفيا (الوجود لغة) نكون في الجانب الصائب من التفكير الفلسفي وحتى العلمي. واذا ما علمنا ان الانسان اهمية ننعته اليوم بكائن لغوي اوكائن ميتافيزيقي اوكائن خيالي اوكائن علمي ذكي قبل ان نقول عنه كائنا اجتماعيا هو عين الصواب بالاهمية الانثروبولوجية التاريخية لتطور وجود الانسان وليس في التراتيبية التي تكون فيها الاولوية والغلبة لانثروبولوجيا الانسان كائنا اجتماعيا قبل ان يخترع اللغة، وقبل ان ينشغل خياله بميتافيزيقا البحث عن الاله الخالق المعبود. عرف الانسان اللغة حوالي 250-300 الف قبل الميلاد. واصبح الانسان كائنا ميتافيزيقيا في اختراعه الاديان الوثنية حوالي 750 الف ق.م. في ابان ظهور العصر الزراعي الذي يعتبره المؤرخون بداية صنع الانسان للحضارة. ونستطيع اليوم المجاهرة بأن مقولة الانسان كائن اجتماعي انتفت الحاجة لها اليوم وتراجعت امام الانسان كائن علمي او كائن فوق ذكاء اصطناعي اوكائن فضائي اوكائن سبراني وهكذا.
العلة والجوهر
يقول جان فال الفيلسوف الفرنسي (العلة والجوهر ليسا تجريدان وليسا افكارا، كما انهما ليسا اشياءا او موضوعات من الخارج). أولا الجمع بين العلة والجوهر عملية إعتسافية. ثم اذا كانتا العلة والجوهرليسا تجريد ولا اشياء ولا موضوعات، فما هما اذن؟ الصحيح الذي ناخذ به من العبارة هو ان العلة والجوهر كمبحثين يلازمان عالمنا الشيئي داخليا كونهما تجريدان لغويان لا يدركان ماديا. والحقيقة ان السببية او العلة تتوزع الوجود الداخلي والخارجي لعالمنا بعلاقات بينية (سبب ونتيجة)، اما الجوهر فملازمته داخل الموجود فقط.. الجوهر هو الدفين بالاشياء والموجودات الذي لا تحكمه العلّية السببية. كون الجوهر مفهوم مطلق تغلب عليه ميتافيزيقا التفكير . وهو السبب الذي جعل كل من ديفيد هيوم وجورج بيركلي ينكران السببية العلية ان تحكم العلاقة البينية بين الاشياء وهذا هراء اذ يعزو هيوم رفضه السببية بانها ظاهرة تحكمها العادة بالتكرار. وينكرهيوم ايضا وجود العالم الخارجي اصلا ما لم يكن موضوعا لادراك قبلي بالفكر (مثالية ابتذالية). فالفكر يسبق الواقع عندهما بيركلي وهيوم وكل شيء بالفكر موجوديته قبلية اولا قبل وجوده المادي. والجوهر دفين وراء الصفات الخارجية فالذي ينكر مادية الوجود كاملا يكون طبيعيا لا يوقفه عائق حين ينكر موجودية الجوهر الجزء المحتجب خلف الصفات الخارجية في تركيب الكينونة المستقلة لكل مدركاتنا المادية... الجوهر مطلق ميتافيزيقي اكثر منه جزءا بيولوجيا في مادية الموجودات كما نتعامل معه.
نعتقد اسبينوزا تناول الجوهر في تجريد لغوي ميتافيزيقي كي يهرب من الاستحقاق المطلوب فلسفيا هو خطأ (الجوهر موضوع للعقل)، تجنبه اسبينوزا بنجاح في تجريده ميتافيزيقيا الجوهر بموجودات واشياء عالمنا الخارجي، ونسبه لله الخالق التام الازلي اللانهائي في جوهره غير المدرك وليس في تكوينه الالهي، كما لم يهتم اسبينوزا بالجوهر بعيدا عن ربطه بميتافيزيقا مذهب وحدة الوجود. والا كان سقط بالمحذور الذي نبّه عليه جدا كانط قوله الجوهر ميتافيزيقا وليس موضوعا يدركه العقل. مذهب وحدة الوجود كل شيء في الله، والله في كل شيء. مبدأ اسبينوزي بعيدا عن الايمان بالمعجزات الدينية وتغليبه لمقولته اننا بدلالة الجوهر الالهي ندرك الوجود. (هذه المقولة لاسبينوزا لم يقل بها ولا فيلسوف واحد قبله وتعارضه كلا من الافكار الوجودية وافكار الماركسية بشدة).
من المهم التذكير انه بالفلسفة ادراك كل شيء والتعبير عنه تجريدا لغويا إنما يكون خاضعا لمنطق ان الوجود برمته علاقتنا واتصالنا به هو تعبير صوري تمثّلي تجريدي في تفكير عقلي يتم بتوسيط (اللغة). بمعنى ان كل ادراكاتنا من اشياء وموضوعات وظواهر العالم الخارجي والداخلي فينا ومن حولنا انما نتعامل معها ادراكيا باسلوب وحيد هو التجريد الصوري الذي تستوعبه اللغة تجريديا وحدها بما لا يجاريها غيرها بهذه الخاصية كما يذهب له الفيلسوف الامريكي وليفريد سيلارز في مقولته الرائعة (الوجود لغة). ليس غريبا اذا قلنا كل شيء في حياتنا يتعطل من غير اللغة.
والقول ان الفكر يسبق تعبير اللغة في انتاجية تفكير العقل لهما، لذا من المباح لنا ان نقول الوجود (فكر) بدلا من قولنا الوجود لغة. اذ ان تراتيبية الفكر قبلية على تجريد اللغة. فالفكر محتوى يسبق تعبير اللغة مجازا (كشكل) ولكن لا يمكننا فصل الفكر عن اللغة ابدا الا في حالة الصمت. حيث يكون الصمت هو التفكير اللغوي الذي تحتويه اللغة ولا تؤطره صوتيا في تعبيرها الخارجي عن الاشياء. لكنها تؤطر الفكر في صمت اللغة كتفكير صوري يتمّثل موضوعه. بمعنى حتى انتاجية الصمت هو لغة. واسبقية الفكر على تعبير اللغة خطأ جرى معنا توضيحه كون الفكر الذي لا يؤطره تعبير لغوي صائت صوتي هو صمت لغوي سلبي لا يسعف نفسه في قدرة الحضور من دون شكل لغوي يحتويه ويعبّر عنه.. ثم هناك خاصية فلسفية لا يمكننا العبور من فوقها ان الفلسفة في تعبيرها اللغوي المنطقي تعوّض وتسد النقص عن كل ما يعجز العقل ادراكه واقعيا ماديا كما في ابداعات المخيلة وموضوعات الخيال في الاجناس الادبية والفنون.. وحتى هذا الاستثناء الاخير حول تعويض الخيال الذي اوردناه لا يتم اشتغاله في غير تفكير (اللغة – الصمت) كون ادراك العقل للاشياء هو تفكير وتعبير لغوي تجريدي (فكر صامت ولغة صوتية تلازمه). ادراك الشيء والوعي به هو تمثل لغوي له سواء في تعبير اللغة او صمت الفكر. والعقل من دون موضوع لا تحضره اللغة يكون حضورا ادراكيا منفعلا له يعتريه العجز عن اثبات وجوده. فالعقل بلا موضوع وبلا تفكير لغوي لا معنى له حتى في وجوده البايولوجي كدماغ يكون تعطيل اللغة فيه تعطيل لعمله كاملا. وجود العقل الطبيعي بايولوجيا كدماغ تحتويه الجمجمة لا يعمل ويشتغل الا تفكيرا لغويا تجريديا بموضوع ماثل يشغل الدماغ تفكيريا.
ازدواجية الذات على نفسها
عبارة مين دي بيران (انني من اجل ذاتي، لكني لست بذاتي) ربما يبدو غريبا للبعض اذا قلنا العبارة صحيحة سليمة وليست هراءا فلسفيا متناقضا. بضوء الحقيقة غير المعلنة ان وجود الانسان هو العمل الذي ليس له نهاية من اجل تلبية متطلبات الذات في كل اشباعاتها بدءا من الاحتياجات البايولوجية والنفسية والى اللذات الجسدية التي تبقي الكائن الحي موجودا لا ينقرض. والحقيقة الثانية الذات لا تنقسم على نفسها لا بيولوجيا ولا تجريديا رغم اجازة فرويد انقسام الذات نفسيا. وهنا تكون الذات منفصلة فرويديا في اللاشعور اذا صح لنا التعبير تماشيا مع العبارة عن الانا التي تخدم ذاتها وهي منفصلة خارجة بعيدة عنها بنوع من اغترابية بناءة هادفة. بمعنى توجد ذاتا تعيش لذاتها وتوجد (انا) غير متحدة بها تعمل على بناء وتطوير الذات وكانما الذات اصبحت موضوعا مستقلا لادراك ذاتي متعال عليها.. هذا منطق فلسفي يتوسل فائض التجريد على حساب تغييب مادية التفكير العقلاني. تحت ذريعة الفلسفة تعبير لغوي منطقي تجريدي مفتوح النهايات لا يخضع للتجربة ولا للتطبيق الواقعي.
وقد يبدو هذا تخريجا مسعفا لركاكة الفهم التعبيري الفلسفي الوارد بالعبارة (انني من اجل ذاتي لكني لست بذاتي). الحقيقة الفلسفية الباطنية تشير حسب العبارة الى ان الذات واحدة وليست منقسمة على نفسها (انا وذات) كما هي في علم النفس. الانسان الذي يعيش من اجل ذاته بانفصال تام عنها (مجازيا) وليس حقيقيا. هذا جائز في علم النفس وفي اللاشعور اما على صعيد منطق العقل الفلسفي فهو هراء فلسفي أن نجد الانا منقسمة على نفسها مرتين او اكثر وتبقى محتفظة بحضورها الشعوري التفكيري المنطقي والادراكي السليم عقليا محال. اذا قلنا العقل هو المطابقة التامة مع الذات حقيقة بايولوجية غير قابلة لادحاضها.
لتوضيح اكثر نتساءل هل من الممكن ان تكون الذات تجريدا عابرا للعضوية الفسلجية البايولوجية المرتبطة بالعقل والنفس؟ ام خاصية الذات هو التجريد التفكيري على صعيد الفلسفة فقط؟ هل من المنطقي السليم ان نجد الذات تجاهر بانقساميتها على نفسها وتبقى محتفظة بعلاقة بيولوجية سليمة مع عقل سليم يوجهها؟ ازدواجية الذات على نفسها حسب مصطلح علم النفس هي حالة انفصام مرضي شيزروفينيا. ولو نحن ابحنا للفيلسوف الفرنسي المجاهرة بانقسام الذات على نفسها (إغترابا ذاتيا) وتبقى تتفلسف بمنطق لغوي سليم يحتويه العقل لاصبحت ازدواجية الذات غير مرضية كما اعتمدها واشار لها فرويد. في تقسيمه الانا بثلاث درجات تراتبية هي الانا الاولى والوسطى والثالثة المتعالية تراسندتاليا مثاليا.
في المطابقة السائدة فلسفيا – علميا الانا هي الذات لكن ان يعمل الانسان من اجل ذاته وهو منفصل عنها متحرر منها، فيكون معنا انفصال الانا عن موضوعها الذات تجريدا لغويا وليس حقيقة بايولوجية اذ لا يوجد غير ذات واحدة موحدة تحت وصاية عقلية. وليس من رابطة تجمع بين الانا والذات اذا جاز لنا التفريق بينهما سوى التجريد اللاشعوري، وكليهما الذات والأنا جوهر بيولوجي نفسي واحد بمرجعية العقل.
ومن تجليات نزعة فائض التجريد الفلسفي يصف مين دي ميران ان الوعي ميتافيزيقي. والحقيقة الوعي لا يمكن ان يكون ميتافيزيقيا وتجريدا غير قصدي ماثل بموضوع العقل الادراكي. الوعي هو توسيط شعور العقل في مدركاته. الوعي خاصية العقل البيولوجية في التعبير عن مدركاته معرفيا ولغويا.
مالبرانش والوعي
ينسب لمالبرانش مقولته (الوعي لا يمكن ان يصير موضوعيا والوعي ناقص) اذا قلنا بالرد المباشر ان الوعي لا يكون ولا يوجد الا موضوعيا، والوعي خارج موضوعيته غير موجود. لان الوعي علاقة توسيط العقل بمدركاته. محاولة جعل الوعي موضوعا مستقلا للعقل محاولة غير مجدية. اما ان يكون الوعي ناقصا فمصدره ان فاعلية العقل الادراكية بالتفكير تخطأ معظم الاحيان نتيجة تضليل الحواس في نقلها الانطباعات الحسّية لمدركاتها من موضوعات واشياء العالم الخارجي. الشيء الملاحظ في مباحث الفلسفة انها لدى بعض الفلاسفة يذهبون بالتجريد الفائض بعيدا عن الواقعية والتفكير المتزن الذي لا ترفضه الفلسفة وتحتويه.. فهي اي الفلسفة ان تتفلسف بكل شيء في سلسلة من الادهاشات على شكل متوالية هندسية من تساؤلات مفتوحة النهايات لا قرار لها ولا نتائج.
الوعي تجريد عقلي يداخل ويتخارج مع موضوع العقل البيولوجي معرفيا وليس ديالكتيكيا، والوعي من غير حضور موضوع مدرك تفكيري للعقل اي الوعي لا يشتغل على موضوع خاص به بل يشتغل على موضوع ادركه العقل واعطى مقولاته عنه كما يشير كانط. وبغير ذلك لا يعمل العقل تفكيريا ولا يعمل الوعي توسيطا تخارجيا معرفيا. والوعي لا ينفصل عن الموضوع الذي هو مادة موضوع تفكير العقل القبلي. ادراك الدماغ للشيء يسبق ثانوية الوعي به. الوعي هو الارتدادات الصادرة عن العقل حول مدركاته من اشياء وموضوعات.
فائض التجريد لعبة فلسفية عقيمة
يلاحظ في تاريخ الفلسفة ادراج العديد من موضوعات فلسفية قائمة على غرائبية من تعبيرات فائض التجريد المجاني بلا معنى ما يسقط تلك المباحث في تهويمات بعيدة جدا عن النسق المنطقي اللغوي المتماسك في معالجته قضايا فلسفية حيوية هامة. لماذا وكيف نرفض فائض التجريد المجاني بمباحث الفلسفة؟ سنجيب عن التساؤل بمنطق الفلسفة.
لا بأس ان ندخل في استطراد سريع هو لماذا كانت فلسفة اللغة بداية القرن العشرين هي الفلسفة الاولى بعد تنحية مبحث تسيّد الابستمولوجيا (المعرفة) لقرون طويلة واعتبروها خرافة غير واقعية ولا حقيقية؟ السبب هو انتباه اللاسفة المتأخر الى ان تاريخ الفلسفة مليء بالاخطاء اللغوية والتجريد الفائض عن الحاجة الفلسفية.
وطرح الفلاسفة البنيويين رواد فلسفة اللغة تهمة عويصة ان اللغة في تاريخ الفلسفة كانت تضليلا للعقل. على كل حال ليس هذا موضوعنا بالرد وقد عالجته في اكثر من مقالة منشورة لي.. افضل مثال على توظيف فائض التجريد الحشو الزائد عن ضرورات الحاجة بالفلسفة وابرز مثال على هذا الهراء الفلسفي هو ما اقدم عليه جاك دريدا بالتفكيكية بما اطلق عليه استراتيجية الهدم والتقويض بما لا نهاية له في استهداف نسق تجريد اللغة (النص) في البحث عن فائض المعنى في متوالية لانهاية لها. في تاريخ الفلسفة الفرنسية تحديدا نجدها مليئة بتقليعات هي فائض تجريد طروحات غرائبية تحتويها الفلسفة بكل يسر ويجري تمريرها تحت فائض التجريد التهويمي على حساب اهمال وتمييع كل ما يمت بصلة للفكر المادي ومرجعية الواقع والعقل البيولوجي واهتماماته. نجد مثال ذلك كابانيس وهو من رواد الفكر الفرنسي في القرن الثامن عشر يجاهر بدون ادنى التزام بما يقول (ان كل ما فينا عضوي) وفي ظل هذه العبارة وغيرها اكثر ابتذالا حين يقول فيلسوف فرنسي اخر (للطبيعة عقل) وآخر يقول (للجماد الصخر عقل). ورغم كل هذا التبجح بحضور بايولوجيا العقل نجدهم يتسابقون وراء غرائبية فائض التجريد الفلسفي بما يجعل دور بيولوجيا ومادية العقل بالتفكير تتراجع جدا. ويجعل من التهمة الحاضرة ان الفلسفة لا تقول شيئا جاهزة للتسويق.
***
علي محمد اليوسف