أقلام فكرية

اسعد الامارة: شخصياتنا من صنع والدينا

مهداة إلى استاذي – التربوي

يوسف التميمي في البصرة - العراق

***
إنها العائلة، إما تصنع إنسانًا، أو كومة عُقد " ليو تولستوي"
الألم الذي يبدأ من العائلة لا ينتهي أبدًا " ديستويفسكي"
***

يبقى سلطان الأب أو الأم، أو بديلهما هو الذي يخلق فينا شخصيتنا، هذا الأب- الأم، أو من ينوب عنهما وسمي بالآخر الكبير هو الذي يرسم ويخط ملامحنا، شخصياتنا تعكس تعاملنا مع الناس، مع أقرب المقربين لنا أيضًا، هو الذي يغرس ما يراه صالحًا فعلا، وهي أمنيته بأن نكون كما يريد، ولكن الحقيقة التي تحملها النفس ليست كذلك!! ربما تكون نقيض ذلك، عكسه في أحسن الأحوال اذا كان بلا خسائر نفسية، وهذا محال. ويرى المحلل النفسي الفرنسي "جاك لاكان" للأب دورًا مؤثرًا في تكوين النفس الإنسانية في كل فرد، إن الأب بما هو كذلك هو الذي يفصل الطفل عن الام ويفتح السبيل لإدخال الطفل في النظام الرمزي " النظام الرمزي عند جاك لاكان هو القانون والأخلاق والاعراف والتقاليد والقيم وممارسة الطقوس والقواعد وما إى ذلك من أمور ثقافية تتشابك بصور عدة مع اللغة.وكل ما يمكن تعلمه من المجتمع الذي يعيش فيه الفرد" ـ فإذن نحن من صناعة أبوينا، الأب والأم، أو من ينوب عنهما وعليه يقودنا قول " ليو تولستوي " إنها العائلة – الأسرة – إما تصنع إنسانًا، أو كومة عُقد. من هذه الحكمة الرائعة سوف نحاول جاهدين أن نسبر أغوار العلاقة من داخل النفس، وما يترسب فيها في اللاشعور – اللاوعي منذ بداية حياة الإنسان في طفولته، منذ الميلاد إلى السنوات الأولى من حياة الإنسان.
التساؤل هل هو سوي؟ أو يقترب من السوية بقدر ما، أو ليس سويًا ؟ فلذلك يؤكد لنا "ديستويفسكي" بأن الألم الذي يبدأ من العائلة – الأسرة لا ينتهي أبدًا. فهي مصنع سعادتنا، وهي مصنع مرضنا وإنحرافاتنا، هي الأسرة – الأب، الأم، الأخ الكبير، أي كان فهو يصنع منك رجل، أو لا رجل!! " المعنى في قلب القارئ الكريم لسنا في حاجة لتوضيحه- لا رجل، بالمعنى الأدق جسد رجل يحمل عقل إمرأة "، والام أما تصنع منك رجل، أو تابع لإمرأة أخرى، ربما الزوجة، ربما العشيقة التي تستنزف الموارد المادية، أو الطاقة النفسية التي تبقى معلقة في أذيال من تتحكم في هذا الرجل، الجانب الخيالي هو السائد والمغروس في عقل الرجل، أو عقل المرأة والامر سيان، ولم استعرض بعد قوة تأثير الام في أيٍ منا، هي الأم أن تبقي هذا الرجل " الطفل " معلقًا في سلطانها وهو كبير، فترك من أحبب، أو من تزوج ثم تطلق بسبب سطوة السلطان الجائر – أعني هنا الأم – فترك هذا الطبيب، أو المهندس، أو المدرس، أو الموظف المرموق كل شيء وفر هاربًا نحو أمه فاصبحت تدير كل مجريات حياته، وكل حيثيات يومه حتى وإن كان بعيد عنها بالاف الكيلومترات، جعلت منه مسخ لا قيمة له، والامر سيان مع الأب أو بديلهما من تبنى تربيته وتشكيله في بنيته النفسية. من يطغي عليه بقوة هذا السلطان.. الأب!! تساءلنا كيف سيكون بعد الهروب من هذا السلطان؟ سوف يفر إلى أقسى من سلطان الأب، لا.. إرضاءً لنفسه، بل نكاية بما صنعه الأب، وهو اللجوء إلى التطرف والتعصب والإنفعالية في أبسط المواقف الحياتية، وأفضلهما أي أحسن ملاذ هو الدين " كل الأديان تتساوى في هذه السمة" فيكون التطرف الديني عنوانٌ وسمة واضحة للشخص، فضلا عن التطرف السياسي وهو لا يقل شأنا عن ذلك التطرف، وربما نلاحظ سلوك البعض التطرف في التعامل مع المقربين بقسوة واضحة مع الزوجة والابناء، وهذا منقول "نقل" ميكانيزم دفاعي يلجأ اليه الفرد ممن تعرض لسطوة هذا السلطان، والمرأة أيضًا تعيش بعباءة هذا السلطان " الأب أو الام، أو بديلهما " فينقل صورة السيد والعبد مجسمة وواضحة. ويدلنا التحليل النفسي بمعرفة دقيقة وهادفة تستهدف عمق النفس قول "سيجموند فرويد" الحق أن الفرد إبتداءً من سن البلوغ، يتعين عليه أن يكرس نفسه لعمل خطير هو تحرير نفسه من والديه، وإن طفولته لا تنتهي في عضوًا في الجماعة التي ينتمي إليها، إلا بعد أن يتم فصاله هذا، فأما الأبن فحتم عليه أن يفطم رغباته الشهوية عن أمه ليتجه بها إلى موضوع حب خارجي في عالم الواقع، كما يتعين عليه أن يعقد الصلح مع أبيه إن كان لايزال على موقفه العدائي منه، أو أن يتحرر من تسلطه عليه إن كانت ثورته على أبيه في عهد الطفولة قد انتهت استسلامه وخضوعه له، هذا ما يتحتم على كل فرد أن يعمله" محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، م21، ص372 ".
ويضيف " مصطفى صفوان" قوله: الأب هو النقطة التي من خلالها يِحكمُ الشخص على نفسه: كي يُقيمّ الفرد نفسه يجب أن يبتعد عن نفسه حتى يتمكن من رؤية نفسه.
وكذلك إن التوتر بين الأبن والأب لم ينتهِ أبدًا نهاية تامة، وما لم ينتهِ أبدًا، فيما أحسب هو الخلط بين الرغبة والطلب، لأن الرغبة ليست سوى إخفاء الطلب، وما الطلبُ سوى نقص تملؤه موضوعاته الموصوفة بأنها جيدة كما يدون ذلك صفوان في كتابه ما بعد الحضارة الاوديبية، ص 54. وتبقى أسطورة سلطان الأب والأم على تشكيل بنية " بناء" الطفل النفسي والانفعالي والقيمي والمعنوي، وما ترسب في شخصيته من فضلات التربية الخاطئة، أو المشددة، كل تلك تكون مخزونة في اللاشعور – اللاوعي وتعرض لنا البروفيسورة الدكتورة نيفين مصطفى زيور في كتابها القيم " رحلة التحليل النفسي من المهد إلى البعث – فرويد ولاكان، ص 111" لذا يلعب أسم الأب دورًا أساسيًا في إنشطار الأنا وتكون اللاشعور – اللاوعي، وينشأ اللاشعور – اللاوعي لدى الطفل مرتبطًا باللغة التي يتلقاها منذ نشأته عن الأم، والتي لا تدري هي نفسها عن مرجعية تلك اللغة شيئًا، هذه اللغة ترتبط أصلا بالأب سواءً أكان حاضرًا أم غائبُا، ذلك لأن الأم ليست جهازًا متكاملا، لأن كلامها وخطابها يظلان ناقصين في ظل وجود الأب الذي يعد الموضوع المسبب لرغباتها، وتضيف "نيفين زيور" قولها موضوع رغبة الأم هو الأب، والذي يصبح دوره دالًا محوريًا يدخل في طلب تكوين الطفل الذاتي بوصفه جهازًا ينشأ أساسًا على أساس الارتباط عبر السلسلة الدالة في الكبت الأولي المكونة للاشعور – اللاوعي. يقودنا ذلك في حوارنا التحليلي النفسي بأن شخصياتنا هي من صنع من يربينا – تربية – فمن أساء لنا ظهر ذلك جليًا وبكل وضوح في عقدنا، وفي سلوكنا وأسلوب تعاملنا، ومن أحسن تربيتنا وجده الآخرين في سلوكنا وتعاملنا في كل مواقف الحياة العامة والخاصة مع من نحب، ونتزوج ونترك الأثر في ابنائنا رغم ذلك، ليس كل الأثر، ولكنه يعود هذا الأثر بشكل آخر، ليس كما أودعناه في عالم اللاشعور – اللاوعي، لأن الكبت الأولي ربما لا نستطيع استدعاءه رغم التحليل النفسي وجهوده الجبارة في تنظيف الخبيء في نفوسنا، أما الكبت الثانوي فجلسات التحليل النفسي قادرة على تنقيته بما يقدمه طالب التحليل – العلاج بالتحليل النفسي وبمساعدة آلية التحليل النفسي – التداعي الحر - في تنقيته واستعادة الشخص إلى ما كان عليه ولو ليس كما كان في السابق، وقولنا تبقى الأسرة أما تصنع منا إنسانًا، أو كومة عقد، أو لنتفق مع هذا القول: الألم الذي يبدأ من العائلة لا ينتهي أبدًا "ديستويفسكي".
***
د. اسعد الامارة

في المثقف اليوم