أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: هل العلم والفلسفة مختلفان كثيرا؟

يُطرح عادة ان غايات العلم والفلسفة هي في تضاد، لكن هل هذا الموقف صحيح حقا؟ ان أي تعبير او عنوان رئيسي او خبر يحتوي على كلمة "علمي "عادة يُمنح أهمية وتقدير عاليين من جانب الجمهور ووسائل الاعلام الكبرى. يُعتقد ان استعمال الطريقة العلمية في عمليات التحقيق يضمن صلاحية وموثوقية التحقيق. لكن هل نحن متأكدون من موضوعية الإكتشافات العلمية؟ وما هو الشيء الكامن في الطريقة العلمية الذي يجعل الوثوق بها كبيرا وواضحا؟ يمكن القول ان الفلسفة توفر رؤى صالحة في المسائل العلمية وتكشف بان الحقلين متشابكان ومترابطان بشكل وثيق.
الطريقة العلمية
اذا قيل ان المُنتج اختُبر علميا، او ان نظرية ثبتت علميا، فانها ستحصل فورا على قيمة وانتباه اكبر مقارنة بالمنتجات والنظريات الاخرى من نفس النوع. لكن، هل لدينا أي اساس لرفع العلم الى مثل هذه المكانة العالية؟ عُرف عن العلم بانه ناجح جدا في عمل اكتشافات وتنبؤات قيّمة بسبب موثوقية طريقته التي تُعرف بالطريقة العلمية. الطريقة العلمية تتألف من ملاحظة الظاهرة قيد الدراسة، وتطوير فرضية واحدة أو اكثر توضح عمل وسلوك تلك الظاهرة المُلاحظة، وتصميم تجارب واختبارات للتحقق من دقة أي من تلك الفرضيات، ومراجعة الفرضيات عند الحاجة وتكرار الإجراء الى ان يتم توضيح طبيعة الظاهرة بشكل كاف. الطريقة تبدو صريحة وربما ناجحة. وبينما تتطلب الطريقة العلمية مهارات في عمل فرضيات معقولة، وتطوير تجارب ملائمة وإجرائها بشكل دقيق، فان النتيجة ستكون مجزية عندما يراعي المرء وبشكل دقيق جميع الخطوات وتخصيص الانتباه المطلوب لعملها.
هل ان الطريقة العلمية تعمل دائما؟
لو تصورنا مثلا، اننا نريد معرفة لماذا كل الاشياء تسقط عند اطلاقها في الهواء حتى تصل الى أقرب سطح. بعد ملاحظة الظاهرة وتكرارها، انت ستطور فرضية عن سبب هذه الظاهرة وتختبرها من خلال التجربة حتى تصل الى تفسير مرضي، أي، قانون نيوتن في الجاذبية الكونية. اثناء المرحلة التجريبية، انت تتصور اختبار قانون نيوتن في الجاذبية الكونية وتدرك انه غير قادر على توضيح الظاهرة التي تحاول انت وصفها. الان، كعالِم، يمكنك القول ان قانون نيوتن يجب اهماله لأنه ثبت بطلانه. لكن، انت يمكنك ايضا الجدال بان بعض الادوات المستعملة في التجربة كانت معيبة، او ان خطأ حصل اثناء الإجراء، او ان التجربة لم يتم تطويرها بشكل دقيق كي تختبر القانون. مثل هذا حدث عام 2011 في مركز أبحاث جران ساسو Gran Sasso Research Centre في ايطاليا. هناك، ظهرت مجموعة من العلماء دحضوا قانون اينشتاين الشهير في النسبية، الذي يقول ان لا شيء في الكون يستطيع السفر بأسرع من الضوء. خلافا لذلك، واثناء التجارب الي اُجريت في مركز جران للبحوث، لاحظ العلماء بان بعض الجسيمات دون الذرة تسمى النيوترونات تسافر بسرعة أسرع من الضوء، بما يدحض قانون اينشتاين الشهير. في هذا الموقف بالذات، وكما في التصور الخيالي أعلاه، لم يتم إهمال القانون وانما جرى افتراض ان هناك خطأ وقع في بعض مظاهر التجربة – تطوير اختبار غير ملائم، تنفيذ غير دقيق لبعض خطوات التجربة، او جزء معيب من بين أدوات التجربة.
دور الطريقة العلمية
المثالان أعلاه يوضحان ان استعمال الطريقة العلمية لا يضمن اعطاء تنبؤات دقيقة تماما وان أسئلة يمكن ان تُثار وأخطاء يمكن ان تقع حتى فيما يتعلق بالنظريات الاكثر شهرة والأوسع نجاحا التي طوّرها علماء بارزون. وكما جادل الفيلسوف البريطاني بيرتراند رسل في كتابه "الزواج والأخلاق"، "حقيقة ان هناك آراء جرى الايمان بها بشكل واسع لا يُعد دليلا على انها غير سخيفة، في الحقيقة، وبالنظر الى سخافة اكثرية البشر، فان الايمان الواسع الانتشار يُحتمل جدا ان يكون سخيفا وغير معقول ".
ولهذا، حتى ضمن ما يسمى "ثبت علميا"، هناك دائما مساحة للنقاش وحاجة للاستمرار في التحقيق وايجاد دليل مقنع لإعادة صياغة الفرضيات والنظريات والقوانين.
اذا كنا أكدنا ان استعمال الطريقة العلمية لا يضمن الوصول الى نتائج محددة ومطلقة في البحث العلمي، فذلك لا ينفي نجاح الطريقة العلمية الكلي في عمل تنبؤات وإثبات او دحض النظريات. إلقاء الضوء على مشاكل الطريقة العلمية لا يعني تثبيط المرء من استعمالها، وانما بدلا من ذلك المطلوب هو ازالة الانطباع بصلاحيتها المطلقة والتأكيد على الرؤية بانه مع ان التنبؤات التي تعملها الطريقة العلمية تميل لتكون دقيقة، فان كل فرضية، وقانون او نظرية يبقى مفتوحا للتحقيق والمراجعة في كل الاوقات، بغض النظر عن مدى ما تبدو فيه من يقين.
تاريخ العلم والفلسفة
تمثل المشاكل المتعلقة بالطريقة العلمية مظاهرا يمكن فيها للفلسفة ان تعطي رؤى قوية للعلم. في الأصل، عملت الفلسفة ومعها العلم جنبا الى جنب كحقل منفرد، وحتى وقت متأخر، صادف لدى معظم الفلاسفة البارزين خلفية في العلوم كالفيزياء والرياضيات. اليونانيون القدماء وخاصة ارسطو تصوّر عالم المعرفة كهيكل واحد، حيث كان العلم والفلسفة يعملان من خلال نظامين متشابهين لأجل تحقيق تنوير معرفي. وكنتيجة لهذا، كانت العلوم التي تسمى حاليا فيزياء وكيمياء وعلم حيوان وانثروبولوجي وغيرها كانت كلها تحت مظلة واحدة هي الفلسفة الطبيعية.
حاليا، يبدو ان العلم والفلسفة اصبحا حقلين متميزين ويُعتقد انهما يرتبطان بعلاقة ضعيفة مع بعضهما. العديد من الفلاسفة لا يتلقون تدريبا في الرياضيات، او الفيزياء او الكيمياء، بل ان الفلسفة مرتبطة بالفنون والعلوم الانسانية، وعادة تقترن بمواضيع مثل الادب والتاريخ والدراسات الكلاسيكية. وعليه، فان تصور الفلسفة في الاوقات الحديثة هو مضاد للدور الذي لعبه الحقل تاريخيا ضمن عالم المعرفة.
مع ذلك، يتجذر الارتباط بين الفلسفة والعلم في طبيعة الحقلين. ولهذا السبب، من المهم فهم الطريقة التي يساهم بها كل واحد تجاه الآخر والنظر اليهما كمتداخلين. ان حقل فلسفة العلوم ركّز بعمق على العلاقة بين الموضوعين. انه حقق في ما يميز بينهما، وما هو مشترك والطريقة التي يزود بها كل واحد منهما رؤى للآخر. ونظرا لتشابه أهدافهما، سيكون من غير المفيد تحليل الحقلين في عزلة عن بعضهما رغم النزعة الحديثة التي تدفع المرء لهذا.
فلسفة العلوم
ذكرنا آنفاً، بان السلطة التي مُنحت للعلم عادة ترتبط بالنجاح الكبير لتنبؤاته، والتي تُعزى عادة لإستعماله الطريقة العلمية. من جهة اخرى، المعرفة الفلسفية لا تتمتع بنفس المكانة الرفيعة، والسبب في هذا هو استعمال طرق مختلفة في التحقيق، ولكن ايضا بسبب النقاشات الثقيلة والاختلافات الداخلية في الحقل وعدم وجود نتائج معترف بها عالميا. مع ذلك، توجد هناك مشاكل فلسفية يمكنها ان تضع حدودا للبحث العلمي وقد تتحدى بعض مظاهر الطريقة العلمية.
مشكلة الاستقراء
فمثلا، مشكلة الإستقراء problem of induction أول من أدخلها الفيلسوف ديفد هيوم، ومثّلت قلقا حقيقيا للعلم. العديد من المفكرين والاكاديميين مثل فيلسوف العلوم كارل بوبر سخّروا حياتهم للسعي الى التوفيق بين استعمال الاستدلال الاستقرائي والطريقة العلمية. ان مشكلة الاستقراء تؤكد بان على المرء ان لا يثق بالادّعاءات التي تُعمّم على عدة ملاحظات فردية ومستقلة. بكلمة اخرى، ملاحظة مواقف متعددة لنفس الظاهرة – مثل سقوط كرة التنس الى أقرب سطح عند اطلاقها، سوف لا يسمح للمرء بعمل ادّعاء عام حول الظاهرة، كالقول ان كل الاشياء حالما يتم اطلاقها ستسقط نحو اقرب سطح لتستقر فيه.
طبقا لهيوم، كون ان هذه المواقف كانت دائما صحيحة لا يضمن انها دائما تكون صحيحة في المستقبل. وبسبب مشكلة الاستقراء، فان الادّعاءات المشتقة من التفكير الاستقرائي هي دائما غير يقينية ولا يمكن الاعتماد عليها، وبما ان الطريقة العلمية تثق كثيرا بالاستدلال الاستقرائي فان مشكلة الاستقراء تضع كل ما توصلت اليه الطريقة العلمية على المحك.
المشاكل العلمية والحلول الفلسفية
كما لاحظنا في الفقرة أعلاه، تُعد الفلسفة أفضل من أي حقل آخر، يمكنها تحديد المغالطات في المنهجيات العلمية التي تدفع العلم للدخول في مخاطرة عمل تنبؤات قائمة على ادّعاءات لا اساس لها. وفي نفس الوقت، الفلسفة ايضا هي حقل يمكنه ان يقدم رؤى فعالة في ايجاد حلول لتلك المشاكل.
العالم الشهير البرت اينشتاين ادّعى انه "يتفق تماما حول أهمية القيمة التعليمية للتاريخ وفلسفة العلوم. لذا فان العديد من الناس اليوم – وحتى المهنيين – يبدون كما لو ان شخصا ما رأى الآلاف من الاشجار لكنه لم ير غابة واحدة ابدا. معرفة الخلفية الفلسفية والتاريخية توفر ذلك النوع من الاستقلالية عن تحيزات التعميم الذي يعاني منه معظم العلماء . هذه الاستقلالية التي خلقتها الرؤى الفلسفية هي العلامة الفارقة بين الحرفيين والمختصين المجردين من جهة والباحثين الحقيقيين عن الحقيقة من جهة اخرى".
بكلمة اخرى، بينما يتمتع العلماء برؤى عميقة ومعرفة ثاقبة في القضايا موضع التحقيق، لكنهم ينقصهم فهم الاطار الكلي للمعرفة، والذي لا يوفره الاّ التحقيق الفلسفي وحده. وعليه، فان الفلسفة والعلم يعملان بنجاح كبير كحليفين بدلا من باحثين عن معرفة يسيران في طريقين منفصلين.
اذا كان العلم يمتلك معرفة محددة بالمسائل التطبيقية، فان الفلسفة تمسك من كل الجهات الصورة الكبرى لمنهجية البحث والتحقيق. من جهة، تستطيع الفلسفة تأسيس سلطتها الأصلية عبر الاستجابة لحاجات العلم في خلق أفضل طريقة تحقيق ممكنة لكل حقل، وعبر تشخيص المغالطات بما يضمن دقة المعرفة المكتسبة بواسطة العلم من جهة اخرى.
***
حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم