أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: قيمة الفلسفة في عالم يقوده السوق

كان رئيس الوزراء البريطاني السابق ريشي سوناك قدم مقترحات في إعادة هيكلة التعليم العالي في المملكة المتحدة، استهدفت خصيصا التخصصات الجامعية ذات المردود المالي المنخفض، تلك المقترحات أشعلت نقاشا وقلقا حول تضاؤل الرؤية للتعليم العالي. سياسة خفض عدد الطلاب المسجلين في كورسات معينة، وخاصة في الانسانيات ومن ضمنها الفلسفة، تفاقم الإنقسام الطبقي الحالي وتقيّد كثيرا الوصول الى تعليم واسع. مثال على ذلك هو غلق أقسام الفلسفة والذي يوضح التحول الواسع في التعليم العالي نحو السياسات الموجهة نحو السوق. قرار جامعة كانت بغلق قسم الفلسفة هو تجسيد لهذه النزعة. ان إلغاء برامج الفلسفة يوضح تزايد التسليع (التعامل مع الشيء كسلعة) في التعليم ويثير اسئلة حول دور التعليم العالي في تعزيز فهم أساسي للوجود الانساني والهياكل المجتمعية. فهل الجامعات هي مجرد قنوات للتوظيف، او انها يجب ان تكافح للحفاظ على التزامها الطويل الأمد بالتنوع الفكري والتطور الشمولي؟
الفلسفة كحقل، كانت أساسية في تطوير المهارات النقدية والتحليلية القابلة للتطبيق على مختلف الحقول. انها تشجع الطلاب على تحليل وفهم المشاكل المعقدة، وهي مقدرة حاسمة في عالم سريع التغيير. ان غلق اقسام الفلسفة معناه تضييق دور الجامعة كمؤسسة تتبنّى بناء مهارات تحليلية بالمعنى الاكثر شمولا. خسارة برامج الفلسفة يمكن ان يُضعف التزام الجامعة في تشجيع المواطن على الانخراط النقدي. الفلسفة تعلّم الطلاب ليس فقط التفكير، وانما التفكير حول التفكير ذاته، التحقيق في مجالات مثل السياسة والمنطق والايبستيمولوجي. هذه المجالات من الدراسة حيوية لتنشئة افراد مفكرين ومطلعين يمكنهم المساهمة القيّمة في المجتمعات الديمقراطية. ان الغلق يمثل ايضا تحولا في القيم المجتمعية، حيث يُنظر باستمرار للعلوم الانسانية باعتبارها أقل قيمة او تطبيقية مقارنة بالحقول الأربع الشائعة (الرياضيات والهندسة والعلوم والتكنلوجيا). هذا الاتجاه يقود الى انخفاض في تنوّع الرؤى والمهارات لدى قوة العمل والمجتمع بشكل عام.
دور التعليم العالي في عالم اليوم
هذا الاتجاه الليبرالي الجديد في التعليم العالي، الذي يركز على قيم السوق والمردود الاقتصادي، يشكّل تحديات هامة للدور التقليدي للجامعات كأماكن للتعلم والانخراط النقدي. انه يرسخ إعادة تقييم لما له قيمة في التعليم ويثير اسئلة هامة حول نوع المعرفة والمهارات الهامة للافراد وللمجتمع ككل. هذا الاتجاه يتجاهل القيمة الجوهرية للتعليم في غرس الفهم الاخلاقي. تاريخيا، فلاسفة مثل كانط وجون ستيوارت مل أكدوا على دور التعليم في تطوير مواطنين أخلاقيين. فكرة كانط عن "الشجاعة في استخدام العقل" تشدد على أهمية استخدام العقل والفهم كوسيلة للتنوير. دعوة مل لحرية الفرد والتنوع الفكري تتماشى مع الفكرة بان مختلف الخيارات التعليمية هي ضرورية لمجتمع تقدمي نابض بالحياة.
هذه الأهمية للمهارات المطورة من خلال دراسة الفلسفة تصبح بشكل متزايد بارزة في معالجة القضايا المعاصرة مثل تقلبات المناخ والاوبئة العالمية والعدالة الاجتماعية. الفلسفة ليست فقط سعي اكاديمي وانما أداة حيوية في فهم تعقيدات عالمنا المعاصر والاستجابة لها. التفكير النقدي، وهو المظهر الاساسي للفلسفة، يجهز الافراد بأدوات لتحليل وتقييم الحجج، وتشخيص الافتراضات الاساسية، والتحقق من صلاحية المعلومات، التي هي بالذات حاسمة في عصر يتسم بالمعلومات المضللة والتطور السريع للروايات. تأكيد الفلسفة على التفكير الاخلاقي يُعد هاما بنفس المقدار. أمام تقلبات المناخ تلعب الاعتبارات الاخلاقية دورا محوريا في صناعة القرار. التدريب الفلسفي يشجع الافراد للتأمل في المضامين الأوسع للافعال، ودراسة ليس فقط التأثيرات المباشرة وانما النتائج الطويلة الأمد على البيئة وأجيال المستقبل. الفلسفة ترعى معنى المسؤولية الاخلاقية والتعامل مع المآزق الاخلاقية التي تفرضها تقلبات المناخ، مثل توزيع الموارد وحقوق مختلف الاطراف بما في ذلك اولئك الأكثر تأثراً بالتغييرات البيئية.
ونفس الشيء، بالنسبة للاوبئة العالمية، توفر الفلسفة أدوات نقدية تجاه اخلاق الصحة العامة، الحريات الفردية مقابل الرفاهية الجماعية، وحقوق متساوية بموارد الرعاية الصحية. الفيلسوف الرواقي ماركوس ايرليوس الذي حكم الامبراطورية الرومانية اثناء وباء مدمر، يذكّرنا بقوله "ما هو غير جيد لخلية النحل، لايمكن ان يكون جيدا للنحل". لابد من التوازن بين رفاهية الفرد وخير الجماعة في مواجهة تحديات اليوم. التفكير الفلسفي يشتق تحليلات اساسية للهياكل المجتمعية ودورها في تفاقم او تخفيف كوارث الصحة العامة. انها تساعد في فهم الأبعاد الاخلاقية لقرارات السياسة مثل تحديد الاولويات في توزيع اللقاحات او فرض اجراءات العزل الصحي، وضمان ان تكون هذه القرارات ليست فقط عملية وانما ايضا اخلاقية وعادلة.
التحقيق الفلسفي يشجع على الفحص النقدي للمعتقدات الاجتماعية والقوانين والمؤسسات، وتطوير فهم عميق لتجارب ورؤى الجماعات المهمشة. في عالم العدالة الاجتماعية، لاغنى عن الفلسفة. انها تشجع الطلاب للنظر الى العدالة والمساواة وحقوق الانسان من وجهات نظر متعددة. فلاسفة مثل جون رولس، ونظريته في العدالة، ومايكل فوكو وتحليله لهياكل السلطة، يوفر اطرا حاسمة لفهم ومعالجة اللامساواة المنهجية .عبر تعزيز التعاطف والتفكير النقدي تساعد الفلسفة في خلق سياسات اجتماعية عادلة واكثر شمولا .
علاوة على ذلك، تعرض الفلسفة منظورا عالميا، ضروريا في عالم اليوم المترابط. انها تجادل الافراد لينظروا في ما وراء بيئتهم المباشرة الى الظروف الانسانية الاوسع. طبقا لكتاب العالمية cosmopolitanism : الاخلاق في عالم الغرباء لـ Kwame Anthony تتبنّى الفلسفة احترام الترابط بين الجاليات العالمية، وتطوير معنى المواطنة العالمية. هذه الرؤية العالمية هي حيوية في معالجة القضايا العابرة للحدود مثل الفقر العالمي، حينما يكون للافعال في جزء من العالم تأثيرا كبيرا في مكان آخر. في أوقات الاستقطاب السياسي الشديد، ومع وجود الروايات المتضادة والايديولوجيات المتصارعة، تصبح الحاجة الى التحقيق الفلسفي اساسية. الفلسفة تعلّمنا ليس فقط شرح وفهم الحجج وانما ايضا الطرح بمنظورات متنوعة، وتعزيز ثقافة الحوار والفهم بدلا من المواجهة. انها تشجع على فحص معتقدات وافتراضات المرء، وهي الممارسة الحاسمة لردم الانقسامات وتعزيز التماسك الاجتماعي.
تسليع التعليم العالي
تثير سياسات الحكومة قلقا حول المساواة في التعليم. عبر تخفيض قيمة الكورسات ذات المردود الاقتصادي المنخفض، تؤثر السياسة بشكل غير ملائم على الطلاب الاقل ثراء الذين ربما يُحبطون من متابعة الدراسة في العلوم الانسانية بسبب المخاوف من عدم التوظيف والديون. هذا يقود الى سيناريو يتمكن فيه فقط القادرين ماليا على الدراسة في موضوعات مثل الفلسفة، وبهذا، تستمر اللامساواة الاجتماعية. هناك مخاطرة في تفاقم اللامساواة الاجتماعية لأن الطلاب من الخلفيات الاجتماعية الاقتصادية المتدنية ربما يتجهون الى كورسات "تطبيقية" بينما الطلاب الاكثر ثراءً يمكنهم استكشاف نطاق واسع من الفرص الاكاديمية الضرورية للحراك الاجتماعي.
سياسة الحكومة في اجبار الجامعات بالحد من عدد الطلاب في تخصصات "منخفضة القيمة" يثير تحديا جوهريا للمفهوم التقليدي للتعليم كسعي للمعرفة ذاتها، وهو المبدأ الذي يتجذر في تقاليد العلوم الليبرالية. ان تخصيص قيمة لكورسات مرتكزة على مردودها الاقتصادي، يجعل السياسة تخاطر في تجاهل القيمة الجوهرية للموضوعات التي تعلّم فهم الثقافة الانسانية والتاريخ. هذه السياسة تعكس النزعة المتزايدة نحو نماذج التعليم الموجّه بالسوق في المملكة المتحدة حيث يتم تقييم الموضوعات الاكاديمية في الغالب حسب منفعتها الاقتصادية المباشرة. مع ذلك، في كتاب (ما لا يمكن شراؤه بالنقود: الحدود الاخلاقية للسوق)، يعبّر الكاتب مايكل ساندل عن قلق ذو صلة: (سؤال السوق هو في الحقيقة سؤال حول كيف نريد ان نعيش مع بعض. هل نريد مجتمعا كل شيء فيه للبيع؟ او هل هناك حاجات أخلاقية ومدنية معينة لا يقدّرها السوق ولا تستطيع النقود شرائها؟". التأكيد على المردود الاقتصادي يتجاهل المنافع المجتمعية الطويلة الاجل للدراية الجيدة في التفكير الفلسفي . هذا الاتجاه قد يهمش الموضوعات التي لا تتماشى مباشرة مع طلبات سوق العمل، فتضيّق نطاق التحقيق الاكاديمي والتنوع الفكري في التعليم العالي. في هذا الاطار، يُنظر الى الجامعات على نحو متزايد كمجهز خدمة، والطلاب يتم التعامل معهم كمستهلكين، في مشهد تعليمي تقرره قوى السوق بدلا من الاعتبارات الفكرية والاكاديمية وحدها. هذا التسليع الاكاديمي يغيّر بشكل اساسي الدور التقليدي للجامعات، مثيراً اسئلة هامة حول مسؤولياتها والتأثيرات المجتمعية الواسعة لمثل هذا التحول.
النظر للتعليم اساسا كسلعة تُشترى وتُباع له عدة مضامين. انه يعني ان قيمة التعليم هي اساسا او حصرا تتقرر بواسطة حركتها السوقية ومستقبل مردودها. هذا الاتجاه يميل لتفضيل موضوعات ذات مسارات واضحة ومباشرة للتوظيف، كما يحصل في الحقول التقنية او المهنية، بينما الموضوعات التي يُنظر لها ذات قيمة متدنية في الانسانيات والعلوم الاجتماعية ربما ليس لها منافع ملموسة مباشرة بالمعنى الاقتصادي.
كذلك، يقود نموذج المستهلك في التعليم الى تضييق التجربة التعليمية حيث يتم تشجيع الطلاب للتركيز على اكتساب مهارات معينة ذات طلب عالي في سوق العمل، على حساب اتجاه تعليمي اوسع واكثر شمولية. هذا يؤدي الى أجيال من الخريجين ذوي كفاءة فنية لكن تنقصهم مهارات التفكير النقدي والاساس الاخلاقي الضروري للمساهمة والمشاركة التامة في المجتمع الديمقراطي. كتاب Derek Bok (الجامعات في السوق) يحذر من ان تسويق التعليم العالي يشكل خطورة في تفضيل الربح على القيم التعليمية، مما يضعف الثقة العامة والاحترام ويتجاهل رسالة الجامعات في تربية مواطنين مطلعين. ومن النتائج الاخرى لهذا الاتجاه الخاضع للسوق هو تآكل الحرية الاكاديمية والتنوع الفكري. عندما تتنافس الجامعات على الطلاب والتمويل، تبرز مخاطرة في ان مجالات البحوث والكورسات الأقل شعبية وسوقية ستُمنع او توضع جانبا. هذا يقود الى نمطية العروض الاكاديمية وخسارة التنوع الفكري الثري الذي هو سمة مميزة للجماعات الاكاديمية النابضة بالحياة.
الدعوة الى اتجاه تعليمي متوازن
ان المهارات المطورة من خلال دراسة الفلسفة هي أكثر ملائمة من أي وقت مضى خاصة في العصر الحالي المتميز بالكوارث العالمية المتزايدة مثل المعلومات الخاطئة والاوبئة وقضايا العدالة الاجتماعية. الفلسفة تعد الافراد للابحار في مشهد المجتمع الحديث المثير للجدل والمتعدد الجوانب. اغلاق اقسام الفلسفة في هكذا سياق يبدو غير حكيم وله نتائج عكسية. عندما نواجه التحديات العالمية التي تتطلب عملا جماعيا وفهما عميقا للمضامين الاخلاقية والمجتمعية، فان حجب الفرص امام الطلاب للانخراط بالتفكير الفلسفي سيضعف القدرات في معالجة تلك القضايا بفاعلية. في عصر فيه وفرة المعلومات والمضللة احيانا، تشحذ الفلسفة المهارات التحليلية التي لا غنى عنها. التدريب الفلسفي يعلمنا الحكم الجيد وتمكين الافراد من التحقيق النقدي في المعلومات، وتحديد التحيزات وفهم الافتراضات الاساسية. هذه المهارة حاسمة للابحار في المشهد الرقمي المشبع بالمعلومات واتخاذ قرارات واعية في كلا المجالين الفردي والعام.
نستنتج، انه بينما تُعد مسايرة التعليم للاهداف الاقتصادية هامة، فان الحفاظ على اتجاه متوازن يقيّم كل الحقول هو ضروري. هذا يضمن ان الجامعات تستمر كمؤسسات تربي التفكير النقدي والواعي وكمواطنين مسؤولين اجتماعيا، وليس فقط كبوابة للعمل. من المهم ان نتذكر ان التعليم في جوهره هو حول توسيع الآفاق وتربية الاذهان النقدية وتشجيع الاحساس بالمسؤولية الاخلاقية، وهي صفات لا غنى عنها لتقدم ورفاهية المجتمع.
***
حاتم حميد محسن
......................
* The philosopher, 3 April, 2024

في المثقف اليوم