أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: هل الايمان بعقيدة معينة هو عمل اختياري؟
جرى مؤخرا نقاش مع خبير تكنلوجي حول وجود او عدم وجود الله. وبعد عرض قوة ونواقص تلك الحجج، أعلن الخبير" ان هذه الحجج في الحقيقة لا تهم كثيرا، حيث انه اختار الايمان بالله. لأن الايمان به شيء مهم جدا لحياته".
لكن هل هذه هي الطريقة التي تتم بها العقيدة؟ هل يمكن ببساطة للمرء اختيار ما يؤمن به؟ بالطبع، الناس يستطيعون قراءة مصادر معينة، قضاء وقت مع جماعة معينة او التفكير في مسألة محددة – كل واحدة من هذه الامور تؤثر في عقيدة الناس. لكن جميع هذه الخيارات تتطلب نوعا من الدليل. نحن عادة نختار الدليل، لكن من الواضح ان الدليل ذاته هو سبب تبنّي العقيدة.
في الشطر الاكبر من الألفين سنة الماضية، كان الفلاسفة مقتنعين تماما في ان الادّعاء بعقيدة معينة هو مسألة اختيار. جميع المفكرين البارزين بدءاً من الفيلسوف الايبيقوري ايبكتوس والقديس اوغستين والفيلسوف الفرنسي ديكارت ورائدة النسوية ماري استيل آمنوا بان الناس لهم السيطرة في عقائدهم.
لكن في نصف القرن الماضي، جرى رفض واسع لـ "العقائدية الطوعية" doxastic voluntarism وهي الفكرة بان العقيدة تخضع لسيطرة الرغبة. معظم الفلاسفة الحاليين لا يعتقدون ان الناس يمكنهم فورا الايمان بشيء ما فقط لأنهم يريدون ذلك. ما يمتلكه المرء من عقيدة يتقرر بفعل الناس والبيئة التي يتأثرون بها بدءاً من الايمان بالإله الى العقائد المتعلقة بالنظام الشمسي.
بعض الفلاسفة أمضى سنينا طويلة في التفكير في هذه القضية، ووجدوا ان كلا الفريقين لديهم شيء من الصواب.
انعكاس الواقع
يعتقد بعض الفلاسفة ان طبيعة العقيدة ذاتها تضمن ان الناس لا يستطيعون اختيار ما يؤمنون به. هم يرون ان العقائد لها هدف بُني فيها "هدف – الحقيقة" truth aim : اي ان العقائد وبشكل مميز تمثل الواقع. ومن المؤسف ان الواقع عادة لا يطيع رغباتنا وتمنياتنا، لا يهم كم قدم أرغب ان يكون طولي (كأن يكون ثمانية أقدام) ،الواقع سوف يطبع في ذهني بان طولي هو ستة اقدام كلما نظرت في المرآة او شاركت في لعبة كرة السلة. لو قررت ان اصدق ان طولي ثمانية اقدام، سوف اجد بسرعة ان هذه القرارات خاطئة تماما. ولو نظرنا في مثال آخر. اذا كانت العقيدة طوعية حقا، سوف اتخلى عن ايماني بتقلبات المناخ. لكني لم استطع ذلك. الدليل المتوفر على نطاق واسع في الأوساط العلمية اثّر بعمق في ذهني لأنه يؤكد بان تقلبات المناخ هي جزء من الواقع.
وبصرف النظر ما اذا كنت اريد الاعتقاد او عدم الاعتقاد، فان مجرد الرغبة لا تكفي لحدوث الشيء. العقائد تبدو وبشكل كبير خارج سيطرتنا.
منْ المسؤول؟
لكن اذا كان هذا هو ما يحدث حقا، سيتبع ذلك نتائج مثيرة للقلق. ربما من الافضل لو توقفنا عن لوم الناس بشأن عقائدهم، لا يهم كم هي العقائد بعيدة الاحتمال. افرض لو اني اعتقدت بادّعاء خطير وزائف مثل: ان بل غيت استعمل لقاح كوفيد - 19 لزرع شريحة الكترونية في الناس، او ان تغيرات المناخ هي خدعة و ان الهيلوكوست هي فبركة خالصة. اذا كانت العقيدة غير طوعية، فهي تبدو كما لو اني بريء من أي عمل خاطئ أقوم به. هذه العقائد هي فقط كونها حدثت لي. اذا كانت العقائد غير طوعية،عندئذ هي تبدو نتيجة تلقائية لتعرّضي لأفكار ومؤثرات معينة – بما فيها نقاشات الاون لاين حول نظرية المؤامرة. الان، يمكن للناس لمدى معين اختيار أي المؤثرات يسمحون بها في حياتهم . انا استطيع اقرر من أين أجمع المعلومات عن اتجاهات المناخ: هل أحصل عليها من تيار الميديا الرئيسي، او من نقاشات الاون لاين، او من الفريق الحكومي الدولي المختص بتغيرات المناخ. استطيع تحديد مقدار التفكير بما تقوله لي المصادر. تقريبا جميع الفلاسفة المعاصرين يرون ان الناس يمكنهم ممارسة هذا النوع من التحكم الطوعي في عقائدهم. لكن هل ذلك يعني انا مسؤول عن العقيدة التي توصلت اليها؟ كلا، هذا ليس بالضرورة.
اخيرا، نوع المصادر التي أستعملها وكيفية تقييمي لها يمكنها ايضا ان تتقرر بواسطة عقائدنا الموجودة سلفا. قد لا أثق بالتقرير الأخير لفريق الامم المتحدة للمناخ لو كنت اعتقد انه جزء من مؤامرة عالمية لتقليص الأسواق الحرة .
غموض البيانات
البحوث قادت للاعتقاد ان الأشياء هي أقل كآبة والصورة ليست ابيضا وأسود. الفيلسوفة اليزابيث جاكسون أجرت دراسة لم تُنشر بعد، ضمت أكثر من 300 مشارك. اُعطي المشاركون ملخصا لعدة سيناريوهات لم يكن فيها واضحا ما اذا كان الفرد ارتكب جريمة، حيث كان الدليل غامضا، بعد ذلك سألت الباحثة المشاركين هل هم اختاروا الاعتقاد بان الفرد كان بريئا، بدون الحاجة لجمع دليل او اجراء تفكير نقدي. العديد من الافراد في الدراسة قالوا انهم يفعلون هذا بالضبط. ربما هم كانوا مخطئين. لاتزال، عدة دراسات حديثة في الفلسفة وعلم النفس ترى ان الناس يمكنهم السيطرة على عقائدهم خاصة في المواقف التي يكون فيها الدليل غامضا. وهذا ينطبق على العديد من الافتراضات الهامة التي اُجبر الناس على النظر فيها، بدءاً من السياسة والمهن وحتى الرومانسية: منْ هو أفضل مرشح؟ أي مسار يجب ان اتخذ؟ هل هو من ضمنها؟
لذا، يبدو هناك سبب للاعتقاد ان الناس في النهاية قادرين على التحكم المباشر بعقائدهم . واذا كان الدليل على وجود الله ايضا غامضا، فان الخبير الآنف الذكر قد يكون صائبا في انه يستطيع تقرير ما يؤمن به.
***
حاتم حميد محسن