أقلام فكرية

محمد فراح: الفلسفة بوصفها إبداعاً للمفاهيم

يخبرنا كل من جيل دولوز وفليكس غواتاري أن «الفلسفة هي قبل كل شيء إبداع للمفاهيم» [1]، لذلك سنحاول الإنطلاق من هذه الخصيصة التي تميز التفكير الفلسفي بوصفه تفكيرا مفاهيمياً أي يتميز بهذا الإبداع المفاهيمي، من خلال إقحام هذا الأخير وجعله قدرة من القدرات الأساسية الأولى لدرس الفلسفة، نعني هنا إلى أن الدرس الفلسفي بالنسبة لميشيل طوزي هو درس يتضمن ثلاث قدرات أساسية الأولى هي القدرة على الأشكلة، ثم القدرة على المفهمة، وأخيراً القدرة على المُحاجَّة، هذا ما يظهر جليا في تاريخ الفلسفة بشكل عام، حيث نجد أن كل فيلسوف قام بصياغة وإبداع مفهوم خاص به، يتميز به عن سواه، وسنقدم أمثلة لذلك أثناء مرحلة العرض، أما الآن فسنعمل على صياغة مجموعة من الأسئلة الإشكالية الموجهة للتحليل والمناقشة وهي كالآتي:

أولاً: ماذا نقصد بالمفهمة ؟ والدلالات المترتبة عنها ؟

ثانياً: ما هي مرتبة هذه القدرة ومنزلتها في درس الفلسفة؟

ثالثاً: هل توجد أمثلة لقدرة المفهمة في تاريخ الفلسفة عموماً، الذي جعلها خصيصة هذا الفكر ؟

رابعاً: هل تتحدد مهمة الفلسفة في خلق وإبداع المفاهيم كما دعى إلى ذلك كل من دولوز وغواتاري؟

سننتقل الآن، للإجابة عن الأسئلة أعلاه، التي قلنا أن الغرض منها هو أنها تؤطرنا من أجل التوجيه والإرشاد الحسن لقيادة التحليل والمناقشة، وأن الغرض في النهاية، هو الوصول إلى بيان هذه القدرة، أقصد قدرة المفهمة وأهميتها في درس الفلسفة .

أولاً: تحديد عملية المفهمة والدلالات المترتبة عنها:

في حقيقة الأمر، ليس من السهل الإنطلاق من بيان مفهوم «المفهمة»، دون الإنطلاق من تلك الدلالات المترتبة عنها، قد يقول قائل، لماذا ننطلق من المترتب عنها ولا نعود إليها هي في ذاتها ؟ نجيب أنه من الصعب تحديد جوهر هذا المفهوم دون الإنطلاق من تلك الدلالات التي نتجت عنه، أو التي يتم الإدعاء بأنها تمثله، غير أنها عكس ذلك، تجعل منه يتعرض للكثير من اللبس والغموض وعدم فهم كنهه، إن لم نقل أنها تزيد من ضبابيته، لعل من بين هذه التعريفات، أن المفهمة تشير إلى عملية الفهم أو هي عبارة عن تصور أولي، هذا الأخير الذي يجعل منه مشابها للتمثلات بإعتبارها تصورات أولية، أو عندما نقول عنها أنها تصور عقلي أو عبارة عن فكرة، خاصة أنه إذا قلنا عن المفهوم أنه تصور أولي يحيل في اللغة الفرنسية إلى  Notion والذي قد يدل بشكل عام على المصوغة أو الموضوعة، هذه الأخيرة تحتاج بدورها إلى تحديد، لأنه هناك فرق بين الموضوعة والمفهوم، لذلك يخبرنا أندري لالاند في موسوعته بأن المفهوم «يعبر عن آراء خاصة قد تكون أحيانا شديدة التداول ومستعملة بأشكال شتى.» [2]، عكس المفهوم الدقيقConcept  الذي يشير حسب لالاند دائماً إلى «المؤسس علميا أو فلسفيا مما يجعله فكرة مجردة وعامة أو على الأقل قابلة للتعميم» [3]، إذن ما يميز المفهوم أولاً هو ذلك التجريد، أو الفكرة المجردة الشمولية والكونية والعامة والمتعالية، بمعنى أنه ينطلق من دلالات متداولة وسائدة، ويعمل على تجاوزها من أجل أن يصير أكثر تجريدا وعمومية ويصل لتلك الدقة والتقنية، إن لم نقل الموضوعية والصرامة، والضبط الإبستيمي، لذلك يؤكد مشيل طوزي أن المفهمة La conceptualisation  هي «عملية ترتبط بتحويل مدلول ما من مستوى التصور الأولي La notion  إلى المستوى الدقيق le concept » [4]، هكذا نكون قد وصلنا إلى تعريف دقيق جداً لعملية المفهمة مع ميشيل طوزي، المهم فيه هو ذلك الإنتقال من التصور الأولي الذي هناك من يعتبره مفهوما، وهو في الحقيقة مجرد مفهوم أولي، بمعنى بدئي، لم يصل بعد إلى مرتبة الدقة والتقنية أو مرحلة الضبط الإبستيمي، وبالتالي من الضروري جداً الإنطلاق من ذلك التداول العمومي للمفهوم إلى مرحلة ضبطه جيداً وجعله يأخذ صبغة دقيقة منظمة، كما يجب توضيح أن المفهمة ليست لها علاقة بتلك الفكرة الأولية أو حتى بالأفكار، أو التصورات الذهنية، أو حتى العقل، أو التصور العقلي، عملية المفهمة هي عملية إنتقالية بالأساس، تنتقل بنا من تصور أولي إلى تصور أكثر دقة، ومن حقل إلى حقول وميادين معرفية أخرى، فما يميز المفهوم الفلسفي هو أنه كائن مترحل أو رَحَّالٌ.

ثانياً: قدرة المفهمة ومنزلتها في درس الفلسفة:

إذن يمكن إعتبار أن الدرس الفلسفي -كما قلنا سابقاً- درس في الحقيقة يقوم على عملية المفهمة، ويتجلى ذلك من خلال حث وتأكيد التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي بالمغرب، «على إعتماد المفاهيم Les notions  كمرتكزات أساسية في الدرس الفلسفي [...]، وذلك بحكم إرتباطها الوطيد بالإنتاج الفلسفي، [...]، وهي تبعا لذلك ليست عناوين لدروس بالمعنى التقليدي، وإنما هي موضوعات ومواد للتفكير الفلسفي على نحو إشكالي (لما يمكن أن تحمله من إلتباسات ومفارقات)، ومسالك لإنشاء فضاء فلسفي تتقاطع فيه الأنساق والخطابات الفلسفية على نحو وظيفي (غير كرونولوجي أو تعاقبي) .» [5]، هنا ندرك مدى أهمية ومرتبة قدرة المفهمة ومنزلتها في درس الفلسفة، حيث أن هذا الأخير يظل دائماً ما يضفي عليه الطابع الفلسفي هو المفاهيم، وهذا ما نلحظه في الكتاب المدرسي الخاص بالتلميذ والتلميذة، منذ السنة الأولى باكالوريا الذي يشهد تنوعا وتعددا في المفاهيم بدءا بمفهوم الوعي واللاوعي والرغبة واللغة والتقنية والعلم والشغل والتبادل والفن ...إلخ، إذن هذه كلها مفاهيم فلسفية متداخلة مع باقي المواد الأخرى، حتى السنة الثانية بكالوريا التي تعرف أيضاً تعددا وتنوعا مفاهيميا من الشخص والغير والتاريخ والنظرية والتجربة والحقيقة والدولة والعنف والحق والعدالة والواجب والسعادة والحرية ...إلخ، التي تفصل بينهما مجزوءات، ومن هنا يتضح لنا جَلِياً مدى منزلة وقيمة هذه القدرة وكيف تشكل الخيط الناظم للدرس الفلسفي أو إن لم نقل للتفكير الفلسفي عموماً.

ثالثاً: أمثلة من تاريخ الفلسفة على قدرة المفهمة:

سبق وأن أشرنا في مقدمتنا أن تاريخ الفلسفة لهو تاريخ مفاهيمي بإمتياز، والآن سنعمل على تقديم أمثلة على ذلك، خاصة وأن التاريخ الضخم جداً والممتد للفلسفة، والذي يتحول إلى تراث "مقدس" في بعض الأحيان للمتخصص في الفلسفة أو بمثابة الكتاب المقدس بالنسبة للفيلسوف الذي يعمل على فحصه وتمحيصه ونقده دائماً أو إنتقاء الأفضل والملائم منه، يجعل من الفلسفة كيانا يحمل في طياته موروثا أصيلا في الحقيقة، إن لم نقل إرثا حقيقيا من المفاهيم، فعند عودتنا إلى الحكماء الطبيعيون الأوائل، نجد أنهم أول من بحثوا في إشكالية الأصل أو الآرخي، وقدموا مفاهيم أو عناصر أثناء الإجابة عنها، رغم أن هذه المفاهيم ذي صبغة طبيعية مستمدة من الطبيعة، لكن إستعمالهم لها كان فلسفيا، وحتى عند إنتقالنا إلى أفلاطون الذي يذكرنا بنظرية/مفهوم المثل، وسقراط الذي يذكرنا بنظرية الحد الماهوي والذي أثار العديد من الإشكالات بخصوص العديد من المفاهيم المبثوثة في المحاورات الأفلاطونية على سبيل المثال لا الحصر مفهوم العدالة نموذجاً خاصة في الكتب الأربعة الأولى من محاورة الجمهورية التي كانت متداولة بطريقة خاطئة لدى عوام الناس، وكذلك أرسطو ونظريته في العلل الأربعة، أضف إلى ذلك أفلوطين ونظرية الفيض، ديكارت ومفهوم كوجيطو، المونادات لدى لايبنتز، إسبينوزا وإبداعه لمفهوم الله في كتابه "الإتيقا"، إضافة إلى مفهوم العقد الإجتماعي مع جون جاك روسو وطوماس هوبز وجون لوك، كانط ومفهوم المقولات القبلية، غاستون باشلار والقطيعة الإبستيمولوجية، كارل بوبر والقابلية للتكذيب، ...إلى آخره، إذا قمنا بجرد وإحصاء كل المفاهيم عبر تاريخ الفلسفة وإستعمالها من قبل الفلاسفة، فلن تكفينا هذه المقالة، ولا حتى كتاب، بل يجب تخصيص مجلد لها وهذا ما سبق وأن قام به أندري لالاند في موسوعته الفلسفية المعنونة ب "المعجم التقني والنقدي للفلسفة"، لكن ما أردت إثارته هنا هو أن الفلسفة عبر تاريخها عبارة عن سرداب من المفاهيم، وبالتالي يجب دائماً قراءة هذا التاريخ وإعادة قراءته عبر المفاهيم المثارة فيه، بل حتى الإشكالات، وإعتماد المفهوم مدخلا لقراءة الفيلسوف، ذلك أن كل فيلسوف أبدع مفهوما خاصا به هو، لنعد مثلاً إلى كتاب علم الإتيقا لسبينوزا لا يمكن قراءته بدون معرفة المفاهيم التي إستعملها إسبينوزا، المتخصصين في إسبينوزا عملوا على إبداع "معجم إسبينوزا" لصاحبه  "راموند شارلي" Charles Ramond خاصة مفهوم الجوهر والعرض، ...إلى أخره من المفاهيم،  لذلك عمد إسبينوزا على تحديد المفاهيم أولاً، بل تبيان ما يقصده بها ليشرع فيما بعد في إستعمالها، لذلك يعمل الفيلسوف على  تحديد معجم مفاهيمي خاص به، إذن الفلسفة فكر مفهومي، لكنها لا تحتكر المفهوم الذي نجده في حقول معرفية أخرى مثل العلوم بكل أصنافها، كما أنه يجب الإنتباه إلى خصوصية المفهوم الفلسفي ومصدره .

هذا التصور الذي يركز كثيراً على أن مهمة الفلسفة الأولى تتمثل في إبداع وخلق المفاهيم هو ما نجده عند كل من جيل دولوز وفيلكس غواتاري [6]، اللذان كان ينتقدان كثيراً النظر إلى الفلسفة على أنها تاريخ صياغة وتحديد الكليات العامة أو الأنساق الشمولية، أي أن الفلسفة ليست عبارة عن ركام من المعارف أو ذلك التأمل الخالص، بل هي خلق وإعادة خلق وإبداع للمعرفة بواسطة المفاهيم، فكل فلسفة هي رؤية جديدة إلى العالم من خلال الإبداعية المفاهيمية، حيث أن عملية نحت المفاهيم و صناعتها هي ما تساعد الفيلسوف على إبداع الإشكالات، فيصبح الفيلسوف مثل الفنان المبدع الذي يبتكر مفهوما خاصا به، إذن يمكن تحديد مهمة الفلسفة الجوهرية في خلق وإبداع المفاهيم، وهذا ما يجسده الدرس الفلسفي.

على سبيل الختم، إذن نخلص إلى أن عملية المفهمة ما يميزها بشكل خاص هو ذلك النقلة النوعية أو الطفرة من التصور الأولي أو التمثل البدائي إلى التمثل الذهني المجرد للموضوع، يجعل منها أكثر ضبطا وصرامة، كما عملنا على تمييز المفهمة عن المفاهيم القريبة والمترابطة بها من تصور أولي، وفكرة و تمثل، كما حاولنا بيان مدى قيمة وأهمية ومرتبة قدرة المفهمة في الدرس الفلسفي، بل أكثر من ذلك رأينا أن هذه المفهمة خصيصة التفكير الفلسفي، أي هي ما يميز تاريخ الفلسفة، فهو تاريخ مفاهيمي بإمتياز، وهذا ما يجعل من الفيلسوف يتمكن من خلق الإشكالات أيضاً، وذلك من خلال، مقاربته ونحته للمفهوم جيداً يعثر على العديد من الإشكالات يقوم بطرحها، كأن الفيلسوف يحفر سردابا فإذا به يكتشف الكثير من الإشكالات ويعمل على إخراجها للوجود، لذلك يجب التركيز أثناء تأريخنا للفلسفة على المفاهيم والإشكالات المثارة وليس على الأنساق الفلسفية والنظم الفكرية الكبرى، ولهذا موضوع خاص في الحقيقة، وذلك من أجل مجاوزة تلك الرؤية التي تركز على الأنساق والنظم الفكرية والتصورات والأطاريح التي إشتغل عليها الفلاسفة، دون النظر في المفاهيم التي أبدعها والإشكالات التي أثاراها، لهذا يشكل المفهوم إنشاءاً أو تركيباً ذهنياً وتمثلاً يحاول الفيلسوف من خلاله تمثل العالم أمامه وعنصراً ضرورياً في سيرورة التفلسف، لهذا يجب تمييزه، أي المفهوم، عن كل تصور أولي عام ومجرد، أو عن كل فكرة خالية من المعنى والفائدة، وتمييزه أيضاً عن المقولات أو الاقتباسات المسكوكة التي تلصق بالفيلسوف، فالمفهوم بناء ضمن نسق ومتن الفيلسوف من خلال تعديل حمولته وسقلها جيداً لتلائم الشكل الجديد والغير المسبوق للمتن الفلسفي، فالفلسفة في نهاية المطاف نمط من التفكير المفهومي، لكنها لا تدعي أنها الوحيدة التي تختص بإبداع المفاهيم، فقد يظهر مفهوم في حقل فلسفي معين، لينتقل إلى حقل الفلسفة فيتخذ شكلاً جديداً، عن طريق خلقه وإحيائه من جديد وذلك عبر بث روح التفلسف داخله، والتفكير من خلال المفهوم بأطر وخلفيات فلسفية.

يتخذ المفهوم في الحقيقة صبغة التركيب والشمولية والكونية والامتداد والسيولة والإنجراف لفائدة حقول معرفية أخرى، لدرجة يصعب حده في بعض الأحيان، إنه يشكل رؤية نقدية فاحصة وتمحيصية جديدة للعالم، من خلاله يرى الفيلسوف العالم، ويرغم اللغة على نطق ما لا تنطقه، وكأن الفيلسوف نحات ينحت أعمال فلسفية ثلاثية الأبعاد باستخدام مجموعة متنوعة من الأدوات والأساليب، واستخدام المواد مثله في ذلك مثل أي نحات يستعمل الحجر والخشب والجص والمعادن. المهام الرئيسية للفيلسوف إذن هي: نحت التماثيل/المفاهيم من اللغة والكلمات والخطابات والمصطلحات ومن المواد الأخرى المتاحة له، باستخدام أدوات مثل الأزاميل ومعدات التظفير الخاصة بالنحت الفلسفي كما قلنا بغرض تمثيل ظواهر العالم الواقعي، عبر خلق تمفصل حيوي مع الواقع الفعلي من خلال تكييف المفهوم مع الرؤية الجديدة للعالم.

***

محمد فراح – تخصص فلسفة

........................

مسرد المراجع والمصادر:

[1] – Gilles Deleuze et Félix Guattari: Qu'est-ce que la philosophie? Les éditions de minuit 1991 , p 8 .

[2] – أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الأول A-G، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت -باريس، الطبعة الثانية، 2001 .ص 883.

[3] – المرجع نفسه، ص 194 .

[4] – Michel tozzi: Apprendre à philosopher au cours de morale , dossiers pédagogique entre – vues 1999 , p 39 .

[5] – وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مديرية المناهج، نونبر 2007، ص 5 .

[6] – Gilles Deleuze et Félix Guattari, Ibid , pp 12-13-22.

في المثقف اليوم