أقلام فكرية
حسام الدين فياض: دور رأس المال الاجتماعي في تعزيز اللُّحمة المجتمعية
- تمهيد: ينظر علماء الاجتماع للعلاقات والروابط الإنسانية بين البشر بوصفها مورداً اجتماعياً هاماً قادراً على لعب أدوراً أكثر أهمية في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لأي مجتمع معاصر، وأن المجتمعات التي تملك رأس مال اجتماعي قوي لديها القدرة على ترسيخ دعائم التعاون البنّاء بين أفرادها كما يكون لديها أيضاً القدرة على التطور والنمو بشكل أفضل في المستقبل.
كما يشكل رأس المال الاجتماعي حجم الحياة اليومية والمعايير الرابطة لها وجودتها، وهو مصدر ووسط ديناميكي منتج بسبب خليطه المتنوع من الثقة الاجتماعية المرنة، وقواعد السلوك التبادلية، وصور الالتزام المتعددة، وغالباً ما ينعكس رأس المال الاجتماعي في مقدار الثقة والتعاون والنيات الطيبة التي يعتمد عليها أعضاء الشبكة التي يسهمون في صنعها بشكل مباشر أو غير مباشر. وتتطور بناءً على هذا المفهوم عمليات الاتصال الناجح والتفاهم المتناغم بين جميع أفراد المجتمع، بهدف تحقيق الأمان والرفاهية وإقامة الروابط والعلاقات الاجتماعية الهادفة، والمتينة، والواعية بأهدافها ومصالحها.
بالمقابل سعت بعض الدراسات المعاصرة إلى التوسّع في توظيف مفهوم رأس المال الاجتماعي كأداة منهجية، بحيث بات يستخدم في تحليل مستويات مختلفة من الحياة الاجتماعية. بل إن نظرية رأس المال الاجتماعي تحولت إلى نظرية للبناء الاجتماعي والفعل الاجتماعي. حيث يعني ذلك أن رأس المال الاجتماعي هو رصيد لصيق بحركة الفاعل سواءً أكان فرداً أم جماعةً أم تنظيماً اجتماعياً. وهناك اتفاق بين من يستخدمون مفهوم رأس المال الاجتماعي على أنه يكمن في الاتصالات الشخصية والعلاقات والتفاعلات بين الأشخاص. فهو يتعلق بمن يعرف ويتعامل مع من؟ فأقارب الشخص، وأصدقائه ورفاق العمل، وجيرانه، يمثلون مصادر معلومات وعوناً ودعماً حين يحتاج الشخص إلى شيء منها.
بناءً على ما تقدم يمكننا تعريف رأس المال الاجتماعي بأنه: " هو انضمام الأفراد لشبكة العلاقات الاجتماعية الرسمية وغير الرسمية، التي يستطيعون من خلالها استثمار بعض الموارد الاجتماعية كالدعم الاجتماعي، المادي، المكانة الاجتماعية، لتحقيق منافع ومكاسب تؤدي بدورها إلى خلق قيم ومفاهيم مشتركة بين أعضاء المجتمع". أو هو " البناء المجتمعي القائم بمجتمع ما والمتمثل في جملة العلاقات الإنسانية ومستويات الثقة والتعاون بين الناس وبعضهم البعض، كما يعبر عن جملة الشبكات الاجتماعية القائمة بالمجتمع ".
- مصادر تكوين رأس المال الاجتماعي: إن نجاح أي بناء اجتماعي في تكوين رصيد من رأس المال الاجتماعي يتوقف على قدرة هذا البناء على الاستفادة من شبكات الروابط والعلاقات الاجتماعية والقيم المتوفرة بين أعضائه، وتوسيع وتنمية هذه الروابط والعلاقات بما يمكّن البناء الاجتماعي من تحقيق أهدافه. وبذلك ثمة مصادر عديدة تمتد من الجماعات الاجتماعية الأولية كالأسرة وجماعة الجيرة، لتشمل المؤسسات غير الرسمية بما فيها جمعيات تنمية المجتمع وجماعات المساعدة الذاتية، بل إن رأس المال الاجتماعي يتولد في المؤسسات الحكومية منها وغير الحكومية، بما في ذلك الجمعيات الأهلية والنقابات والأحزاب.
ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن فوكوياما قام بتصنيف المجتمعات وفقاً لشكل الروابط الاجتماعية السائدة فيها إلى مجتمعات أسرية تكون فيها العائلة وصلات القرابة بشكلها الأوسع كالقبيلة والعشيرة النواة الأساسية لأي تفاعلات اجتماعية. وحسب الدراسات التي قامت في هذا السياق تتخلص هذه المصادر في نوعين هما:
أ. علاقات وشبكات يقيمها الأفراد مثل النقابات والأحزاب وجمعيات النفع العام.
ب. منظومة قيم تأتي على رأسها قيم الثقة، والشفافية وتحمل الآخر والرغبة في التعاون والعقلانية.
وفي هذا السياق، قدم البنك الدولي مشروعاً لدراسة رأس المال الاجتماعي في البلدان النامية (والمعرف برأس المال الاجتماعي من أجل التنمية الاجتماعية Social Capital For Development) رصداً لمصادر رأس المال الاجتماعي، وتمثلت هذه المصادر، فيما يلي:
1- الأسرة: من المعروف أن الأسرة في الخلية الأولى في المجتمع والركيزة الأساسية لبنائه. تُعرف الأسرة بأنها جماعة اجتماعية أساسية ودائمة، ونظام اجتماعي رئيسي، وهي أساس وجود المجتمع، ومصدر الأخلاق والدعامة الأولى لضبط السلوك، والإطار الذي يتلقى فيه الإنسان أول دروس الحياة الاجتماعية. لذا تمثل الأسرة المصدر الأساسي والأولي لرأس المال الاجتماعي لأنها وحدة المجتمع الأساسية التي تشكل نسيجه الاجتماعي وتمثل حجر الزاوية فيه، وهي المصدر الأول للمعرفة وإعداد أعضائها وتكوين هويتهم الثقافية، وهي المؤسسة الاجتماعية الأولى لتفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي وإقامة الحوار وبناء الصلات المتميزة مع من هم من غير جيله أو نوعيه الاجتماعي. كما تلعب الأسرة دوراً في توفير الآليات اللازمة لتحقيق الرفاهية الاقتصادية وذلك عن طريق تنمية الروابط والعلاقات غير الرسمية - خصوصاً في إطار الأسرة الممتدة Extended Family – للمساعدة والتعاون داخلها بما يجعلها بمثابة شبكة للضمان الاجتماعي تقدم الخدمات والمساعدات لأعضائها في فترات الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية.
وهكذا نجد أن الأسرة تلعب الدور الأكبر في تنشئة رأس المال الاجتماعي وتطويره وذلك عن طريق تنمية الروابط والعلاقات ونقل الأولياء لأبنائهم وأفراد عائلتهم التصرفات العقلانية، التي تنتج عنها انطباع وشعور بالثقة القوية اتجاه أفراد العائلة، بالإضافة إلى تبادل المساعدات المادية بين أعضاء الأسرة. كما للعائلة الأثر الإيجابي باستخدام رأس المال الاجتماعي على مستوى التعليم عند أبناء العمل وبطريقة غير مباشرة هو مصدر تراكم رأس المال الاجتماعي.
وبالمقابل نجد أن المشاكل الأسرية على المدى الطويل والمدى القصير تؤثر على نشأة الأطفال فمثلاً زيادة المشاكل العائلية وحالات الانفصال داخل الأسرة لها أثر على الأبناء لتعرضهم لأزمات نفسية وبدنية وهذا على المدى القصير، أما في المدى الطويل هو إتباع هؤلاء الأبناء طريق الإجرام والسلوك السيئ. مما يؤثر سلباً على نمو رأس المال الاجتماعي.
2- المدرسة: تُعرف المدرسة بأنها مؤسسة اجتماعية أساسية هدفها ضمان عملية التواصل بين مؤسسة العائلة والدولة قصد إعداد الأجيال اللاحقة وتأهيلها للاندماج في إطار الحياة الاجتماعية. أي أن المدرسة شبكة من المراكز والأدوار يشغلها المعلمون والتلاميذ يتم من خلالها اكتساب المعايير التي تحدد أدوراهم في الحياة الاجتماعية مستقبلاً. بذلك تعتبر المدرسة مصدراً هاماً لنشأة رأس المال الاجتماعي وتراكمه وتطويره، فدور المدرسة هو تحقيق رفاهية الطفل بإدراج المشاركة والحضور الكبير لأولياء التلاميذ ذلك للاستفادة من الخدمات الاجتماعية والعناية بالجيل الجديد.
فالمنشآت العلمية لها دور في زرع مبادئ العمل الجماعي التعاوني وتنوع في المعلومات والثقافات المكتسبة وذلك عن طريق اللقاءات التي تجمع بين مختلف القطاعات سواء تكوينية أو تعليمية أو منظمات مهنية وبالتالي ينتج لنا رأس المال الاجتماعي الذي يربط بين كل هذه القطاعات ليس بالضرورة أن يجمع نفس العطاء في نفس الفوج. كما أن هدف الاستثمار في التعليم العام إثراء المجتمع ككل، عبر تعزيز مقومات النمو وأمنه وقيمه وقدرته على تجاوز المخاطر، ومواجهة التحديات.
خلاصة القول، إن الأفراد في المدرسة على سبيل المثال معلمين وطلاب وإدارة وعاملين يتفاعلون مع بعضهم البعض بعلاقات رسمية أو غير رسمية بغرض تحقيق الأهداف التعليمية. هذه العلاقات الاجتماعية هي لب ما يسمى برأس المال الاجتماعي. والذي يؤثر وجوده على تحقيق الأهداف التعليمية.
3- الروابط الدينية أو الأثنية: اعتبر الباحثون الرابطة الأثنية أحد مصادر رأس المال الاجتماعي، إذ تؤثر على طريقة تنشئة الأفراد وتساهم في تشكيل وعيهم وأفكارهم تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين، وهي بذلك تساهم في ربط مجموعة من الأفراد معاً، ومن ثم ربطهم أو عزلهم عن المجتمع المحيط، كما تستطيع أن تحشد للموارد وتعبئها لخدمة أهداف محددة، وتساهم الروابط الاثنية أيضاً في إتاحة المزيد من الفرص أمام أعضائها لتحقيق أهداف مشتركة. ومع ذلك فهذه الروابط ذاتها، قد تؤدي إلى التعصب ضد من يقعون خارج نطاق الجماعة الأثنية بما يقود- في كثير من الأحيان - إلى زيادة درجة التطرف في المجتمع، وتدهور قيم التسامح فيه.
ويرى بعض الباحثين بالنسبة لعلاقة الدين الإسلامي برأس المال الاجتماعي أن " الدين الإسلامي " يلعب دوراً كبيراً في تشكيل رأس المال الاجتماعي. والنظر إلى البعد الإيجابي للدين على رأس المال الاجتماعي ومساهمة المعتقد الديني في تأصيل قيم الجماعة والجماعية وترسيخ فضيلة فعل الخير والتكافل الاجتماعي.
4- المجتمع المدني: يُعرف المجتمع المدني بأنه مجموعة المؤسسات المدنية التي لا تمارس السلطة، ولا تستهدف أرباحاً اقتصادية، بل تساهم في صياغة القرارات من خارج المؤسسات السياسية، ولها غاية نقابية كالدفاع عن مصالحها الاقتصادية والارتفاع بمستوى المهنة والتعبير عن مصالح أعضائها، كما لها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية والأندية الاجتماعية التي تهدف إلى نشر الوعي. كما يمكننا القول بأنه يتشكل من مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف. معنى ذلك أن المجتمع المدني هو مجتمع التعدد والاختلاف والتعارض والتناقض، ومؤسساته من أحزاب سياسية ونقابات، ومجالس نيابية، وصحافة، ووسائل إعلام قائمة على ركيزة التعدد والاختلاف والتعارض والتناقض. يشكل هذا المجتمع ركيزة من ركائز المجتمع الديموقراطي التعددي القائم على مفهوم الوحدة من خلال الاختلاف بين مكونات المجتمع المختلفة، ولذلك فمن أهم وظائف المجتمع المدني، إشاعة ثقافة مدنية ترسي في المجتمع احترام قيم النزوع للعمل التطوعي، والعمل الجماعي، وقبول الاختلاف والتنوع بين الذات والآخر وإدارة الخلاف بوسائل سلمية في ضوء قيم الاحترام والتسامح والتعاون والتنافس والصراع السلمي.
يتكون المجتمع المدني وفقاً للتعاريف السابقة من الجمعيات والتنظيمات الرسمية وغير الرسمية، التي تعمل بشكل مستقل عن الدولة وآليات السوق من أجل تحقيق مصالح المجتمع المستهدف، ولا يعني تمييزها عن الدولة والسوق أنها منفصلة عنهما وإنما يعني استقلالها عن أي منهما، فهي تتعاون معهما، ولكنها –في نفس الوقت-غير تابعة لأي منهما.
يلعب المجتمع المدني دوراً محورياً في مساعدة أفراد المجتمع على تكوين الثقة التي تربط الأفراد ببعضهم من أجل القيام بنشاط معين، وهو أمر ضروري لنجاح أي مؤسسة لأنها بذلك تمنح من لم تتح له الفرصة من قبل للمشاركة، فرصة الاندماج مع الآخرين في أنشطة هامة. بذلك يعتبر المجتمع المدني أحد المصادر الهامة والأساسية لتكوين رأس المال الاجتماعي، خاصةً في المجتمعات المتقدمة التي تتميز بارتفاع مستوى الوعي العام لدى مواطنيها، وارتفاع معدلات المشاركة في الحياة المدنية.
وفي النهاية، نجد أن المجتمع المدني يتألف من مجموعة من المنظمات والشبكات الرسمية وغير الرسمية المستقلة تسيير مستقلة عن الحكومة والسوق والتي تسعى لتحقيق أهدافها الخاصة، فإن تركيب هذه الشبكات ينتج عنه رأس المال الاجتماعي. وهذا ما ذهب إليه روبرت بوتنام، حيث وجد أن اجتماع الناس وقضاءهم وقت مع بعضهم البعض يقومون بتطوير مجموعة من العلاقات التي تخلق الثقة والتماسك فيما بينهم، وهذا ما يسمى برأس المال الاجتماعي، الذي يكون سبباً رئيسياً في دفع عملية التنمية الاقتصادية.
5- القطاع العام: يشمل القطاع العام المؤسسات التابعة لإشراف الدولة وإداراتها، حيث تقوم هذه المؤسسات من خلال إدارتها للعلاقة بين موظفيها بتدعيم ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة وهيئاتها، الأمر الذي يمكن ملاحظته بوضوح في المجتمعات التي انضوت في السابق تحت راية المعسكر الشرقي.
6- المجموعات الاجتماعية الناشطة: إن العلاقات والتفاعل الموجود بين الجيران والأصدقاء والأعضاء في مجموعة واحدة يشكل شبكات كثيفة، فالعلاقات الاجتماعية بين هؤلاء، والتي هي في الأصل علاقات غير رسمية التشكيل تدعم العمل الجماعي، كما أن فعالية الثقة والأمان الموجود بين هؤلاء يقلل من مشاكل العنف والعدوانية، ويؤدي إلى تراكم رأس المال الاجتماعي، وهذا لا يكون بعزل كل وحدة عن الأخرى بل على العكس تكون المسؤولية موزعة بين كل الأطراف، لأن هدفها هو تحقيق الرفاهية الاجتماعية للمجتمع وهذا لا يكتمل ولا يتحقق إلا بشرط التبادل المادي والرمزي بين الأعضاء والمجموعات. ففي دراسة قام j. colman حول فاعلية المجموعات الاجتماعية لتكوين رأس المال الاجتماعي ذكر أربعة أمثلة:
أ- سوق تجار بائعي الألماس: الثقة العالية بين التجار وعدم فرض تكاليف بين العمال من أجل الأمان والضمان.
ب- الطلبة: مجموعات دراسية إما تكون من نفس المدرسة أو المدينة أو القرية.
ج- الأم في العائلة: تسعى لأخذ التدابير اللازمة لعدم احتكاك أولادها أي احتكاك سلبي.
د- التبادل داخل الأسواق: ذات الخصائص المتميزة التي تساعد بنشر الثقة والتعاون والتبادل المشترك داخل المساق الاجتماعي.
وثمة مصادر أخرى لرأس المال الاجتماعي غير تلك التي تم ذكرها آنفا ومنها: جماعات الجيرة، وجماعات الأصدقاء، وغيرها، وتتساوى هذه المصادر في أهميتها، وما يميز إحداها عن الآخر هو السياق التي تعمل فيه، ففي بعض المجتمعات يكون لمؤسسات الدولة، والمجتمع المدني أهمية كبيرة في تكوين رأس المال الاجتماعي، وهذا ينطبق على نظم الحكم الديموقراطي التي يتمتع فيها المجتمع المدني بقوة حقيقية في التأثير على عملية صنع القرار، إذ تتمتع الجمعيات غير الرسمية بقوة ونفوذ كبيرين، لأنها الأكثر قدرة على استيعاب الأفراد، وهي بذلك تساهم في تكوين رأس المال الاجتماعي.
خلاصة القول: لقد أدرك الإنسان أن التنمية الحقيقية هي التي تبدأ بتنمية الإنسان لنفسه ولا تستديم هذه التنمية إلا إذا كانت تنمية شاملة وعادلة. وبعد عقود طويلة من الزمن اعتقد فيها الإنسان أن تطوره وارتقاء حياته مرهون فقط بالأمور المادية، وبما يستطيع تراكمه من أموال وثروات، جعله يغتر بما حققه، فأصبحت عقيدته أنه يمكن النمو بلا حدود، وأن فهمه المادي لرأس المال هو سر ما يحققه في وجوده.
فلا يمكن تصور حدوث تنمية حقيقة في مجتمـع يعـاني مـن ضـعف الاندماج الاجتماعي بين جماعاته المختلفة دينية كانت أو عرقية، أو حتـى قبليـة أو عـشائرية وعائلية. ويزخر العالم العربي والإسلامي بنماذج عدة لدول رغم مواردها الواعدة إلا أن ضعف التواصـل بين الجماعات المختلفة داخلها والتناحر بينها، والذي بلغ الحرب الأهلية في العديد مـن الحـالات ألقى بظلاله على مستوى التنمية في هذه الدول مما أدى إلى فشلها.
والعبرة ليست في التعدد بحد ذاته، فكل المجتمعات بلا استثناء تشهد تنوعـاً واختلافـاً بين جماعات عدة، ولكن المهم هو مدى شعور هذه الجماعـات أو إحـداها بـالاختلاف وعـدم الرضا، ومن ثم ضعف روابطها واندماجها مع الجماعات الأخرى. حينئذ تبرز ما يعرف بأزمـة التكامل القومي، وهي أقصى درجات التراجع لرأس المال الاجتماعي للمجتمع.
ويعتبر التماسك والترابط الاجتماعي الذي يعبّر عن مجمل العلاقات والإجراءات التي تسمح بوصل الأفراد والمجموعات بعضهم ببعض من أجل البقاء والعيش المشترك تحقيقاً للاندماج الاجتماعي عاملاً أساسياً لتحديد مدى قوة الدولـة وقـدرتها على تجاوز الأزمات المختلفة التي تواجهها، ورد العدوان الخارجي حال حدوثـه. فبقـدر وحـدة المجتمع ومتانة الروابط والعلاقات بين أفراده بقدر قوة الدولة وقدرتها على مقاومـة أي محاولـة خارجية للنيل منها. فالعامل الخارجي لا يمكن أن يحقق أهدافه ويؤتي أثره إلا في مجتمع تـسوده الفرقة والعداء بين أفراده.
وهكذا يشكل رأس المال الاجتماعي مصدراً من المصادر المجتمعية التي تربط المواطنين وتوحدهم، وتمكنهم من مسايرة أهدافهم بصورة أكثر فعالية، إذ تتحكم في إرادة المواطنين وتدعوهم للتعاون مع بعضهم البعض للاشتراك في مناحي الحياة بأسلوب جماعي. كما يساهم رأسمال الاجتماعي في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعميق الاندماج الاجتماعي وتعزيز اللحمة الوطنية والاجتماعية التي يكون فيها كافة شرائح المجتمع والأمة متماسكين ومتلاحمين كالجسد الواحد فضلاً عن اصطفافهم والتفافهم خلف القيادة الوطنية والشرعية تحت مظلة المبادئ والأخلاق والقيم الدارجة إضافة إلى رفض أي شكل من أشكال العنصرية أو التفرقة أو التشرذم الانقسام الاجتماعي أو السياسي وتحمل المسؤوليات وإتمام الواجبات على أكمل وجه. وهذا هو الدور الجوهري الذي يرنو إلى تحقيقه رأسمال الاجتماعي في المجتمعات التي تطمح إلى بناء مستقبل واعد ومشرق لأفرادها.
***
د. حسام الدين فياض
الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة
قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً
.........................
- المراجع المعتمدة:
- حسام الدين فياض: سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: الرابع، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2023.
- شادية أحمد مصطفى عمران: دور المرأة في صعيد مصر في تراكم وإهدار رأس المال الاجتماعي - دراسة ميدانية على عينة من السيدات العاملات بجامعة سوهاج، أعمال مؤتمر المرأة في مجتمعاتنا على ساحة أطر حضارية، بالتعاون مع جامعة عين شمس، كلية الآداب، قسم علم الاجتماع، مركز الدراسات المعرفية، القاهرة، 2006.
- خالد كاظم أبو دوح: عرض كتاب (رأس المال الاجتماعي لدي الشرائح المهنية من الطبقة الوسطى)، الحوار المتمدن، العدد:1755، 2006.12.05. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=82595
- سناء الخولي: الأسرة والحياة الأسرية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط1، 2002.
- بلحنافي أمينة ومختاري فيصل: إشكالية رأس المال الاجتماعي بين المفهوم والقياس، مجلة الحكمة للدراسات الاقتصادية، الجزائر، المجلد: 5، العدد: 9، الصفحة: 121-148، 2017.
- انجي محمد عبد الحميد: دور المجتمع المدني في تكوين رأس المال الاجتماعي (دراسة حالة للجمعيات الأهلية في مصر)، المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، القاهرة، سلسلة أبحاث ودراسات، الإصدار الأول، 2010.
- عبد المالك لخضر وسعيدي عامر برزوق: أثر رأس المال الاجتماعي على النمو الاقتصادي، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الطاهر مولاي سعيدة، كلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير، قسم العلوم الاقتصادية، الجزائر، 2016-2017.
- عبد العزيز خواجة: مبادئ التنشئة الاجتماعية، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، ط1، 2005.
- جميل هلال وآخرون: المدرسة الأساسية ورأس المال الاجتماعي: دراسة حالات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، معهد أبحاث السياسيات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)، 2010.
- سهير محمد حواله، هند سيد أحمد الشوربجي: رأس المال الاجتماعي بالتعليم: مقوماته ومعوقاته، مجلة العلوم التربوية، جامعة القاهرة، العدد: الثالث، ج2، يوليو 2014.
- نادية أبو زاهر: دور النخبة السياسية الفلسطينية في تكوين رأس المال الاجتماعي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، تموز 2013.
- علي ليلة: المجتمع المدني العربي – قضايا المواطنة وحقوق الإنسان، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، ط2، 2013.
- توفيق المديني: المدني والدولة السياسية في الوطن العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1997.
- محمد مفتي: مفهوم المجتمع المدني والدولة المدنية (دراسة تحليلية- نقدية)، مركز البحوث والدراسات، البيان 182، الرياض، 1435/ 2013.
- Francis Fukuyama: Social capital, civil society and Development, Third World Quarterly, Volume 22, No: 1, 2001.
-Christiaan Grootaert: Social Capital: The Missing Link? , Washington, D.C, World Bank, Social Capital Initiative Working Paper No:3, April 1998, p.(3-6). https://silo.tips/download/social-capital-the-missing-link