أقلام فكرية
علي محمد اليوسف: تعقيب فلسفي
بعد فراغ بيرتراند راسل بالاشتراك مع عالم الرياضيات نورث وايتهيد عضو الوضعية المنطقية التحليلية الفلسفية الانجليزية حلقة اكسفورد من تاليفهما كتابهما المشترك (المباديء الرياضية) اللذين امضيا بكتابته ثلاث سنوات 1913 – 1916 اتجه بعدها راسل منفردا نحو معالجة قضايا علمية بعيدة عن الفلسفة التجريدية المنطقية الخالصة في محاولته جعل الفلسفة منهج تفكيري في فهم الحياة وليس تغييرها1. منهج راسل كان يعمل على خلق نوع من التكامل المعرفي غير المتكافيء بين الفلسفة والعلم بين الفلسفة ومنطق الرياضيات حصرا.
ومن كتابات راسل الفلسفية نجد سعيه المثابر والعنيد ربط الفلسفة بالعلم بعيدا عن جزعه من كل خرافة ميتافيزيقية وثقته بقدرة العقل التحليلية وايمانه الشديد بضرورة احلال النزعة العقلانية المنطقية محل سائر النزعات الروحية والصوفية والوجدانية2.
بعدها نشر كتابه عام 1921 (تحليل العقل) الكتاب الذي حاول فيه راسل هدم النظرية التقليدية القائلة بوجود جوهر عقلي قائم بذاته. أو وعي منفصل مستقل يكمن فيما وراء الادراك الحسي، والتذكر، والادراك العقلي3.
كان اسبينوزا في القرن السابع عشر صاحب مصطلح الجوهر الالهي المطلق اللانهائي الازلي الخالق التام غير المحدود في عدم ادراكنا العقلي المحدود له.. وميّز اسبينوزا بين الجوهر العقلي المحدود في توزعاته المدركة في موجودات الطبيعة حسب نظريته في مذهب وحدة الوجود. معتبرا اسبينوزا أن الجوهر في مذهب وحدة الوجود في الطبيعة هو المتناهي غير المحدود بجوهر مطلق الهي لا يدرك وانما محدودية جوهر العقل هي في استيعابه معجزات الجوهر الالهي المطلق الموّزع في الطبيعة وموجوداتها وقوانينها.
وهي نظرية صوفية يختلط فيها اللاهوت مع طبيعية مذهب وحدة الوجود في تأمل الطبيعة وتنوعاتها التكوينية من الموجودات التي تجعل وجوب الاهتمام في البحث عن إله الارض الطبيعي الذي هو دلالة ادراك المطلق الالهي ميتافيزيقيا...
اسبينوزا بخلاف تاريخ الفلسفة عبر العصور الطويلة يعتبر اننا بدلالة الجوهر ندرك الوجود. بمعنى الجوهر او الماهية سابقة على الوجود الطبيعي او المادي. وهذا ما لم يقل به احدا لا من فلاسفة الماركسية ولا من فلاسفة الوجودية بعد وفاة اسبينوزا بقرون. حيث يعتبرون اسبقية الوجود على الجوهر او الماهية وحتى عن الصفات احيانا مسالة بديهية لا تحتاج البرهان على صوابها.
الفيلسوفان اسبينوزا وديكارت عاشا معا بالقرن السابع عشر وكان ملتقاهما الدائم في هولندا بلد اللجوء لهما. اراد ديكارت ان ينحو المنحى الصوفي القريب من فلسفة هيجل في الفكرة الكلية المطلقة في مرجعية كل شيء يعود بالنهاية للعقل. واراد خلق توليفة تلفيقية تجمع اللاهوت والطبيعة والانسان والعقل والتفكير العلمي بنسق فلسفي واحد ولم ينجح.
طبعا نجد ديكارت يرى العقل جوهرا بذاته في تفسير وفهم العالم المادي من حولنا وعدم تبعيته لجوهر الهي تام الكمال. الجوهر العقلي المحدود الذي هو عجز ادراك الجوهراللامتناهي لاهوتيا ميتافيزيقيا. كان ديكارت على خلاف اسبينوزا يرغب الانحياز الى مصطلح الجوهر العقلي القائم بذاته في استقلالية عن جوهر الهي اسمى ذي المميزات التالية التي وضعها ديكارت لتحديد المصطلح وظائفيا:
1. عرّف ديكارت العقل جوهرا ماهيته التفكير قائم بذاته. (صفة علمية)
2. العقل جوهر معرفي ابستمولوجي. (صفة علمية)
3. العقل جوهر خالد يلازم خلود النفس.(صفة لاهوتية ميتافيزيقية)
لم يكن ديكارت يرغب الانتباه والتفريق بين بيولوجيا العقل في هيمنته المركزية على ادارة وسد جميع رغائب الجسم الفطرية الغريزية منها والمكتسبة. وبين العقل التجريدي المسؤول تفكيريا فلسفيا عن ادارة علاقة جسم الانسان بالطبيعة والعالم الخارجي بالتعبير التجريدي اللغوي.
بمعنى اوضح تجاوز ديكارت فرق العقل كعضو في بيولوجيا تكوينات جسم الانسان الفيزيائية وبين العقل كخطاب تفكيري تجريدي لغوي في تعبيره عن الموجودات في الطبيعة والحياة والعالم الخارجي في تفلسفه محاولة جمع المتناقضات بنسق فلسفي واحد.
ابرز مثال على منحى ديكارت هذا اعتباره العقل جوهرا خالدا ويقصد بالعقل الخالد هو غير العقل البيولوجي الذي يفنى بموت الانسان كعضو في تركيبة الجسم. بل العقل النظري التجريدي المفكر كما انه اي ديكارت لم يقل خلود الروح بما هو دارج في اللاهوت بل قال خلود النفس هي والعقل.
اما بخصوص عبارة راسل الوعي المنفصل المستقل الذي يكمن وراء الادراك الحسي، والتذكر، والادراك العقلي. ففي البدء يجب بحكم بيولوجيا المعرفة ان يكون الوعي علاقته بمخرجات مرجعية العقل المادي اي الدماغ في وعيه المدركات الخارجية. العبارة تحاول جمع ما لا يمكن تجميعه في كليّة موحدة. وهو امر محال حتى لو كان على صعيد تجريد منطق الفلسفة.
الوعي ليس العقل
لا شك بأن أصعب مبحث بالفلسفة قديما وحديثا هو الوعي. والملاحظات التالية عنه هي حصيلة اطلاعي المحدود على بعض كتابات جون سيرل الذي حاول الاحاطة الفلسفية بالوعي. ولي مؤلف طبع ونشر سنة 2022 صدر عن دار غيداء بعنوان (مبحث الوعي في الفلسفة المعاصرة) فيه توضيح كاف لوجهة نظري الفلسفية في مبحث الوعي. وفيما يلي بعضا من ملاحظاتي:
1. الوعي هو وسيلة توصيل فهم مخرجات أو مقولات العقل حسب تعبير كانط عن مدركاته خارجيا في وعي العالم الخارجي وداخليا على صعيد تلبية رغائب أجهزة الجسم الغريزية والبيولوجية والنفسية..
2. الوعي ليس موضوعا منفصلا مستقلا يدركه العقل بل هو إفصاح العقل عن نفسه. أي وعي العقل لذاته.
3. الوعي خاصيّة عقلية وليست خاصية نفسية (تذكرية) لاحداث وقعت بالماضي كتحقيب زمني حيادي. التذكر لاحداث الماضي هو تاريخ لازمني ينجلب فيه تاريخ الماضي الى الحاضر المدغوم وجوديا حضوريا بالمستقبل اللامدرك.. بمعنى حضور الزمن في ملازمته الماضي هو دلالة حيادية مستقلة عن وقائع تاريخية حصلت وليست جزءا من الاستذكارات التاريخية الوقائعية الماضية. الزمن دلالة وجود غير مدرك ولا موجود كموضوع مستقل للعقل. والتذكر من خصائص الذاكرة في ارتباطها بالشعور النفسي الوجداني. ويكون الوعي بهذه الحالة لا زمني في مشاركته استذكار الذاكرة اللازمنية ايضا..
4. الوعي ليس موضوع العقل الادراكي وليس موضوعا مستقلا لما يدركه من اشياء ويتم التعبير عن ذلك لغويا تجريديا بوصاية العقل على الوعي في التعبير عن ذاته.
راسل وفلسفته فهم الحياة
راسل بحكم نشأته في بلد رأسمالي يؤمن بالديمقراطية حتى وإن كانت شكلية ويرفض اشتراكية النظام الحاكم ويؤمن بليبرالية وحرية المجتمع وقيمة الفرد الانسانية. بهذا الصدد يقول راسل: (اذا اردنا للفلسفة ان تكون بحثا موضوعيا نستهدي من ورائه (فهم) العالم. لا مجرد العمل على تحسين الحياة الانسانية فلن يكون للمفاهيم الاخلاقية أي دور في نطاق مثل هذا البحث النظري الخالص.)4. وسعى راسل استبعاد الاخلاق من دائرة البحث الفلسفي. واصفا الاخلاق انها مفهومات تركيبية عامة وتعبيرات عن انفعالات وحالات وجدانية غير موضوعية. راسل استبعد الاخلاق من كل مبحث فلسفي ينشد تحقيق فهم العالم وليس الاسهام بتغييره..
هنا نتساءل ما موقف راسل من حقيقة مباحثه الفلسفية التي تدور في فلك فهم العالم وليس تغييره كما واستبعد الاخلاق من مثل هذا المنحى الفلسفي. حين وصف الفلسفة البراجماتية او الذرائعية الامريكية بانها فلسفة نذلة وخسيسة.؟
ماموقع الحكم الاخلاقي على فلسفة ناجحة وضعت حدا لهراءات الفلاسفة المحلقين بالتجريد اللغوي اللفظي بلا معنى له.؟ واستقطبت الفلسفة البراجماتية العملانية التجريبية الاميريكية جميع دول اوربا حول ميزات فلسفية بحثية منها:
1. صواب وصحة اية فكرة او افكار فلسفية هي في دخولها تجربة الفلترة التجريبية بالممارسة والتطبيق العملاني. ولا قيمة للافكار خارج فلترة التطبيق العملاني بالحياة.
2. الافكار المعتملة بالذهن لا يشير الى صحتها وصوابها المنطق الاتساقي بينها على صعيد الفكر المنفصل عن التطبيق. بل قيمة الفكر واهميته هو التطبيق الناجح بالحياة. ونلاحظ راسل يتماشى مع بعض فلاسفة اللغة معتبرا اياها في بعض الاحيان مضللة للعقل. وهذه مقولة صحيحة اخذها راسل من فلسفة اللغة المعاصرة.
3. الانسان الفرد أعلى قيمة ورأسمال الحياة في الفلسفة الذرائعية الامريكية.
4. الفلسفة عموما رغم انها غارقة بالتجريد وابتعادها عن العلم تبقى مهمتها اسعاد الناس في مجتمع او في مجتمعات معينة. بمعنى البراجماتية تذهب في المنحى المناوىء لراسل ان الفلسفة في خدمة الحياة وليس في مهمة فهم وتفسير العالم.
5. لا معنى لحضور او غياب الاخلاق بالفلسفة حينما تكون الفلسفة في خدمة رفاهية الانسان.
هذه بعض ميزات البراجماتية الامريكية التي وصفها راسل بالفلسفة النذلة الخسيسة.
في استطراد لاحق حول مقولة راسل المناقضة لمقولة ماركس الذي وجد الفلاسفة يفسرون العالم بدلا من العمل على تغييره. حيث يعبّر راسل انه ليس من مهام الفلسفة تغيير الحياة او تبديلها كما ذكرنا مسقطا الاخلاق عنها ايضا بحجة ان الافكار غير موضوعية ومحايدة بكل الامور متعللا بمقولة فلاسفة اللغة انها مضللة للعقل...
راسل المشبّع بالمفاهيم الراسمالية والحرية وحقوق الانسان مشجعا النمط الليبرالي الديمقراطي بالحياة. زار روسيا الاشتراكية الشيوعية والتقى لينين. فوجد صرامة شديدة ومركزية حديدية قاسية في التعامل اللاانساني مع حقوق الفرد الاساسية. وان الانسان في النظام الشيوعي وسيلة بناء نظام حكم استبدادي باسم الاشتراكية وعمّق هذا النهج المنحرف ستالين بما هو بشع ومدان اكثر.
طبيعي أن نقول بعد سقوط تجربة الاتحاد السوفييتي القديم 1991 أن هذه الاخطاء لم تكن واقعية تقع في صلب النظام الاشتراكي كايديولوجيا سياسية اقتصادية. وقد تخلصت الصين وكوبا وفيتنام من هذه الاخطاء وانعكس ذلك في تجاربهم الاشتراكية الناجحة بامتياز في عصرنا الحاضر.
كيف تخلصت الراسمالية من مشكلة التناقض الطبقي بالمصالح بين اصحاب رؤوس الاموال والشركات التجارية العملاقة ومالكي المصانع وغيرها في تقاطعها مع مصالح الشغيلة العاملة البروليتاريا؟
في وقت مبكر وقبل إنهيار منظومة الاتحاد السوفييتي القديم بعقود زمنية اشار هربرت ماركوزة الى أن الراسمالية تخلصت من شبح الموت الذي يطاردها ويطارد بلدان اوربا الراسمالية انهم استطاعوا رشوة الطبقة العاملة بجملة من الاصلاحات والمكتسبات منها تحديد ساعات العمل، ورفع الاجور، المشاركة بالارباح، التمتع بالضمان الصحي والتعليم والضمان الاجتماعي في حالة التقدم بالعمر والعجز في استحقاقهم الراتب التقاعدي ومنحة سنوات العمل وغير ذلك.
كل هذه التنازلات الراسمالية للطبقات العاملة انتزعت من العمال والشغيلة عامة الحس الثوري والشعور الدائم بالحرمان والفقر الذي كان ينخر النظم الراسمالية مهددا اياها بالسقوط..
***
علي محمد اليوسف