أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: التفكير حول الواقع فلسفيا
العديد من الناس يندفعون للفلسفة لشعورهم بان الأشياء هي ليست كما تبدو لنا. ليس هذا مجرد قلق بسيط بشأن فهم الاشياء بطريقة خاطئة وانما هو شك مُربك في اننا جميعا قد نرى كل شيء بشكل خاطئ. عدم اليقين هذا يُوجّه بنفس المقدار الى القدح بجانب الآلة الكاتبة التي نستخدمها لكتابة مقال يتعلق بكينونة مثل الالكترون، او بأفكار ومشاعر الاشخاص الأقرب الينا، او بما ينتظرنا بعد الموت. الشكوك حول الطبيعة الحقيقية لعالمنا اليومي، او حول طبيعتنا الخاصة، قد تصبح قاتمة وتتحول الى قلق عميق، كما هو الحال عندما نخشى اننا نحلم. ومن جهة اخرى، انها شكوك قد تزدهر وتتحول الى بهجة عندما نشك بان في العالم ما هو أكثر جمالا، وسحرا ودهشة – مما يحيط بنا ونحن نمارس أعمالنا الرتيبة. بالنسبة للعلماني الانساني، البديهة بوجود واقع مخفي قد تتوهج بإحساس يضيء المساحة التي أخلاها رحيل الدين بوعوده ووعيده. على عكس الله الذي يهتم شخصيا بالعالم، فان هذا الواقع لن يحكم على سكانه ويكافئهم ويعاقبهم كما يراه مناسبا.
تشكيك ثم تشكيك
هناك عدة مسارات لشك عالمي يُوجّه لتحرير التجربة اليومية. احداها هو جدال بارمنديس اكبر فلاسفة ما قبل سقراط الذي استخدم الحقيقة التي لا جدال فيها " لا تأتي الاشياء من لا شيء او تخرج من الوجود الى لا شيء، او تنفصل بفضاء فارغ" هو استنتج من هذا ان الكون هو في الحقيقة كرة موحدة من الاشياء المتجانسة. بارمنديس لكي يستبق الاعتراض على صعوبة الكيفية التي تبدو عليها الاشياء لنا، هو طلب من أتباعه ان لا يسترشدون بعيونهم الكسولة ولا بآذانهم وانما ليختبروا كل الاشياء بقوة التفكير وحده.
فلاسفة آخرون برّروا التحقق من صورتنا للعالم من خلال تسليط الضوء على الكيفية التي تضللنا بها حواسنا احيانا، والكيفية التي بها نحلم عندما نضع أنفسنا في عوالم لا يطابقها شيء. جدال ديكارت في خطاب حول الطريقة 1637 يستبق الاعتراض على الشكوك العالمية باننا لا نخطئ في الامور الاّ في بعض الاحيان: "مهما قبلت حتى الان كحقيقة حصلت عليها اما من الحواس او من خلال الحواس، لكن من وقت لآخر، انا وجدت ان الحواس تخدع، ومن الحكمة ان لا نثق كليا بتلك التي خدعتنا حتى ولو مرة واحدة".
هذه الحالة من الشك العالمي جرى نقاشها بقسوة. لو استطعنا اكتشاف ان حواسنا خدعتنا، فيجب علينا ان نفعل ذلك من وجهة نظر الشخص الذي لا يُخدع كثيرا. فقط اذا تمكنا من تصحيح الامور، يمكننا ان نكتشف حقا اننا اخطأنا في فهمها. ان فضح الأكاذيب يسلط الضوء على حجر الاساس للحقائق التي تبدو غير قابلة للشك والتي تقوم عليها حياتنا. اذا تمكنّا من فهم بعض الاشياء او الكثير منها بشكل خاطئ، فاننا نفعل ذلك على خلفية تصحيحها بشكل عام. ان عملية التشكيك في حقيقة جميع تصوراتنا قد تبدو في حد ذاتها موضع شك، طالما الادّعاء بان كل ما يتم الكشف عنه لا يرقى الى الواقع، يبدو انه يُسقط المعيار العام الذي يمكن به الحكم على عدم الواقعية. بالنهاية، مثل هذا الشك لا يزعجنا عندما نسرع نحو الباص او عندما نحاول جلب النوم لمولود جديد، او الخوف على حياتنا او القلق حول صحة مريض آخر او التخطيط لعمل مهني او مجرد الغضب على شخص ما يتحدث بصوت عالي في الآيفون في القطار.
إختراق الاشياء الصلبة، الدفع والسحب في العالم المادي، وتوترات وضغوطات الميدان الاجتماعي، بكل منغصاته ومسؤولياته المقلقة، الترابط الذي لا لبس فيه لمسرّات وأحزان الحياة اليومية يُضعف مصداقية الشكوك حول "الواقع اليومي" خاصة عندما تدّعي تلك الشكوك تقويض الافتراضات ذاتها التي تشكل الارضية التي نقف عليها عند ممارسة حياتنا اليومية. استثمارنا الوجودي في العالم المشترك ذي المظاهر والمعتقدات العادية يقوّض أيّ ادّعاء باننا منفصلون عن الواقع. في معظم استيقاظنا لساعات اليوم، لا نستطيع اخذ شك الفلاسفة على محمل الجد. العديد من العمليات التي تأتي بدءاً من وخز الشك وحتى نشر المقال تعتمد على افتراضات مسبقة عرضة للتساؤل في النظرية لكن لا يمكن إنكارها في الحياة العملية. وكما يذكر Philip K. Dick، "الواقع هو الذي عندما نتوقف عن الايمان به، لايذهب عنا" (الحقائق المتحولة لفيليب دك، 1955).
جدال شهير ضد الفكرة بان الواقع هو ظاهرا مختلف عن ما يبدو عليه في العادة جرى تطويره من جانب الفيلسوف التحليلي JL Austin(1911-60). في كتابه Sense and sensibilia(1962) جادل اوستن بان مفردة "واقع" تكون منطقية فقط في سياق ضدها – عدم يقينية الاحداث او الكينونات التي يتم الشعور بها، او تُكتشف او تُكشف كأنها غير واقعية. "هذا واقعي" صفة تُمنح لكينونة ويُعلن عنها عندما يكون شخص ما في خطر من عمل خطأ ما. البطة ربما يُزعم واقعية فقط ضد ادّعاء مضاد كونها كانت مجرد دمية او لعبة او صورة لبطة. هذا يعطي فكرة الواقع قوة مستعارة على سبيل الإعارة من فكرة اللاواقعية.
العقل مقابل الواقع
لنتوقف قليلا، تبقى هناك أسباب جيدة للشك بحقيقة ما يحيط بنا. اثنين من أهم تلك الاسباب هي الطبيعة الوسيطة للتجارب الحسية والمعرفة التي تعطينا مدخلا لما نحسبه كواقع، والاختلاف المتزايد بين صورتنا اليومية للعالم والوصف العلمي له.
اولا، الطبيعة الوسيطة للتجربة: ما نثق به "هناك" يصبح حاضرا لنا فقط من خلال التفاعل بين جهازنا الحسي وذلك الشيء الذي نتصوره. بالنسبة للعديد من الفلاسفة، هذا سبب كافي لتبرير الاعتقاد باننا لا ندرك مباشرة الاشياء المادية بل اننا نشعر بالكينونات العقلية الوسيطة التي تسمى عادة بيانات حسية sense data بعد استعمال برتراند رسل للعبارة: كيف يبدو العالم لنا. هذا الادّعاء نال الدعم من حقيقة ان تجاربنا هي منظورية، وان العالم المحسوس مملوء بصفات ثانوية للاشياء – ألوانها، أصواتها، مذاقها، الشعور بالدفء والبرد – والتي هي عموما لا تعود للاشياء التي نصفها (مثل"الكرة الحمراء")، وانما لأذهان الافراد الذين يتصورونها بوعي. الصفات الحسية توجد في أذهان ممارِسة، وليس في العالم المادي الخارجي. وهذه فقط البداية لقصة تفاعلية. وكما لاحظ إريك واتكينز Eric Watkins "ما هو مُعطى مباشرة يفتقر لنوع من البناء المطلوب لتبرير معرفة افتراضية" (كانط، سيلر، واسطورة المعطى"). لكي نفكر بوضوح حول أشياء معينة ذلك يتطلب تعاملا جيدا لتصوّر صاعد ونازل، بحيث ما يُعطى في بيانات حسية يتم تجميعه ذهنيا في مفاهيم معينة. وبينما لا يرقى هذا الموقف لكانطية كاملة – طبقا لها تحدد فعالية الذهن خبرتنا بالأشياء في الزمان والمكان – لكنها مع ذلك تتجاهل راديكاليا الفكرة بان الوعي يعرض حالات غير ملوثة لما موجود هناك في الخارج. في هذا، يبدو ان التجربة تنطوي على قدر كبير من الإخفاء كالوحي – وبهذا تبرر توصيف المظهر كـ "قناع" يخفي الواقع.
وهناك ما يخبرنا به العلم عن العالم الطبيعي. العلم جدير بجذب انتباهنا فقط بسبب قوته التنبؤية وقدرته على تحويل حياتنا من خلال تطبيق نظرياته في التكنلوجيا. لكن النسبية العامة وميكانيكا الكوانتم أضعفتا فهمنا اليومي للواقع. دمج اينشتاين للزمان والمكان في الزمكان يشير الى "كتلة كونية" أبدية لا متغيرة لعالم مستقل عن تجربتنا. هذا برّر وصف كارل بوبر لأينشتاين كـ "بارمنديسي" – وهو لقب ربما يُفرح اينشتاين. ميكانيكا الكوانتم قادت العديد من الناس لإعتناق "إحتمالية كوانتمية"، وهي الرؤية بان العالم ليس له حالة متناهية في غياب المشاهدة. هذا الادّعاء هو التفسير الكوبنهاغني السائد لميكانيكا الكوانتم – النظرية الاكثر قوة وانتاجية التي قدمها العلم على الاطلاق.
قبل استسلام الميتافيزيقيين لسلطة العلم الفيزيائي، يجدر بنا تذكير أنفسنا بان نظرياته الأكثر تأثيرا – النسبية العامة وميكانيكا الكوانتم – هما بالاساس غير منسجمتين. كذلك، هناك عدة تفسيرات لنظرية الكوانتم لأن هناك فيزيائيين لا يرغبون باتّباع نصيحة ريتشارد فايمان Richard Feynman "إصمت وإحسب"(1). نحن لذلك، يجب ان لا نفترض ان سلطة العلم المبررة تتمدد الى اسئلة ميتافيزيقية، بما في ذلك طبيعة الواقع.
الى جانب ذلك، العلم يرتكز كليا على القياس. وبينما هذا قد يحرر الملاحظة من الذاتية والمنظورية، لكنه يقوم بهذا على حساب استنزاف العالم الطبيعي – مزيلا صفاته ومختزلا اياه الى كميات، الى ان يُرى الواقع النهائي مجرد نظام للمقادير. هذا ينعكس في نزعة بعض الفلاسفة العلميين للاستنتاج – كما فعل جيمس لاديمان و دونالد روس في (كل شيء يجب ان يذهب، 2007) – بان الاشياء المادية ، حتى الذرات منها، هي ليست الاّ اوهاما. هما يجادلان، بان الواقع النهائي مركب من بناءات رياضية ليس فيها أشياء فردية. تفضيل بناء على أي محتوى ربما له بناء، او – كما في حالة كارلو روفيل في ميكانيكا الكوانتم العلائقية – مجادلا ان العلاقات هي اكثر واقعية من أي شيء يمكن ان يدخل في تلك العلاقات، أقل ما يقال عنه ، انه مثير للجدل. انه لا يوفر الكثير من التشجيع لاولئك الذين يعتقدون ان الفلسفة يجب ان تنحني للعلم. الفيزياء تعاني من فوضى ميتافيزيقية كافية لأن الفلاسفة لا يشعرون مجبرين على إعتناق الفلسفة السيئة للعلماء.
رغم ما سبق، يبدو في النهاية كما لو كنا لا نستطيع إنكار ان هناك اسئلة فلسفية صالحة حول طبيعة الواقع لم يُجب عليها. من الصواب ان العالم المتعدد الطبقات والمسلّم به لابد وان تخترقه الشكوك حتى لو كان التساؤل لا يمكن المحافظة عليه وسط اضطراب وتقلّب الحياة اليومية. ان اليقين باننا في النهاية عاجلا ام آجلا سنصل الى يومنا الأخير وننفصل عن وجودنا وعالمنا المرتبط به هو في ذاته كاف لتبرير إحساسنا بان الحياة هي بمعنى ما حلم، وان الواقع الذي نأخذه كحقيقة هو ليس الطريقة التي يكون بها الواقع في كل المواقف والفعاليات.
***
...................
الهوامش
(1) عبارة إصمت وإحسب (shut up and calculate) صاغها الفيزيائي ريتشارد فاينمان، وعادة تُستعمل لتصف اتجاهه في الفيزياء النظرية. العبارة تشير الى ان فاينمان اعتقد ان الفيزيائيين يجب ان يركزوا على الحسابات الرياضية والتنبؤات المتعلقة بنظرياتهم بدلا من القلق حول التفسيرات الفيزيائية الأساسية او المضامين الفلسفية. هذا الاتجاه يؤكد على أهمية النتائج التجريبية والتنبؤات الكمية بدلا من البحث عن فهم أعمق لطبيعة الواقع. في هذا السياق (إصمت) تعني التوقف عن الحديث او النقاش والتركيز فقط على الحسابات الرياضية والتنبؤات.