أقلام فكرية
سلافوي جيجك - Slavoj Zizek
كتب: دومنيك فنكيلدي و تود مككوان
Dominik Finkelde and Todd McGowan
ترجمة: علي حمدان
***
لسنوات عديدة الان، كانت الاحكام عن الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك كما هي عن جيجك نفسه متطرفة. الناقدون يتهمونه بالدجل، من جهة، بينما الاخرون، يشيدون بعبقريته، ولاسيما كمفكر عام. مما يجعل من الصعوبة بمكان تقديم تقييم نقدي مناسب لمساهمته في الفكر. علاوة على ذلك، يرى بعض قرائه ان نتيجة تفكير جيجك التأملي معقدة للغاية، بالنسبة للبعض فان حجج جيجك تتسم بالاستنتاجات التخمينية، وبالتالي تفتقر الى صرامة الحجج الاستنتاجية ولاستدلال المعقول. وهذا الحكم ينطلق عادة من أولئك الذي يتبعون المذهب التحليلي في الفلسفة. يعتبرون جيجك تجسيدا "بالجانب المظلم" من الفلسفة القارية والتي تم ادانتها منذ عهد ردولف كارناب (Rudolf Carnap) ورفضة الشهير لأسلوب مارتن هيدغر في الكتابة الفلسفية. وبناء على هذا النهج الفكري، جيجك، قد يصوغ فرضية يطلق بها نقاشا فكريا، ولكن نظرا لان اصلها ناتج عن قواعد نحوية زائفة او أفكار غير واضحة، لا يمكن الوصول الى الصواب او الخطأ حسب اقتباس Gottlob Frege، فلهذا الناقد، تضل الفلسفة من هذا النوع لا معنى لها.
ولكن وراء هذين الموقفين المتطرفين المذكورين أعلاه من التبجيل والازدراء، هناك جيجك ثالث. هذا الفيلسوف الذي اثار اكثر من غيره من أبناء جيله، نقاشات فلسفية تمتد الى ابعد من حدود الفلسفة، بل الى جميع تخصصات العلوم الإنسانية. قام بذلك من خلال إعادة تفسيره المادي الراديكالي لمفاهيم المثالية الألمانية، وخاصة ارث هيجل، ومن خلال نقد الايديولوجية الماركسية وفلسفة التحليل النفسي كما طورهما كلا من فرويد ولاكان (Lacan). بهذه الخلفية النظرية، لقد اصدر اكثر من خمسين كتابا تركز على الأسئلة الكلاسيكية عن الوجود، الابستمولوجيا، فلسفة الذات، والنظرية الثقافية.
المنظر العاطل
سلافوي جيجك اقتحم المشهد النظري العالمي بكتابه الأول باللغة الإنكليزية، موضوع الايدلوجيا المتسامي The Sublime Object of Ideology، في عام 1989. لقد كان الكتاب مخالفا لروح العصر وذلك عوضا عن يأخذ موقفا نقديا من شخصيات مركزية في الفكر الفلسفي الغربي، جيجك وبكل شفافية تبناهم لجذريتهم. بينما مفكرون كثيودور ادرنو، ميشال فوكو، جيل دولوز، وجاك دريدا هؤلاء دائما كانوا يقوضون او يفككون هيمنة الفلسفة الغربية من رينيه ديكارت حتى هيجل، فان كتاب موضوع الايدلوجيا المتسامي والعديد من كتبه التي أصدرها فيما بعد، اتخذت من ديكارت، كانت، وهيجل كمنظرين مهمين والذي من الممكن ان يقدموا مساهمة مهمة للوضع المعاصر. لم يكن هؤلاء المفكرون، بالنسبة لجيجك هدفا للتفكيك او وضع نصوصهم في سياقاتها التاريخية، لكنهم كانوا منظرين حيويين يمكنهم المساهمة والقاء الضوء على الطريق المسدود للفكر السائد حاليا. وعوضا عن اعتبارهم سادة تخطاهم الزمن، جيجك استوعبهم كمفكرين ذو راديكالية غير مكتشفة، راديكالية تتحدي ليس راديكالية ماركس فحسب، وانما تتحدى راديكالية حركة اليسار الجديد.
ولد جيجك في لوبليانا، سلوفينيا في عام 1949، وترعرع في يوغسلافيا الاشتراكية في ظل قيادة تيتو. كمفكر شاب في يوغسلافيا، تأثر بفكر مارتن هيدغر وجاك دريدا، هذا التأثير جعله يبتعد عن خط الحزب الحاكم. كتب كتابه الأول "ألم الاختلاف" The Pain of Difference بالسلوفينية، وكان عمره آنذاك اثنان وعشرون عاما، والكتاب يعكس تأثره بالمفكرين المذكورين. كتب رسالته لنيل الدكتوراه حول هيدغر، ولكن في منتصف السبعينات، جيجك تحول الى الاهتمام بفكر لاكان، والتي كانت خطوة حاسمة في مساره الفكري. تبني جيجك للفكر الفرنسي كلفته فرصة تبوؤه لمنصب في يوغسلافيا. منذ 1973 حتى 1977 كان عاطلا عن العمل مع درجة الدكتوراه. لقد اعتقدوا انه ليس ماركسيا كفاية ليكون مدرسا جامعيا. تخوف النظام من جيجك ان يفسد شباب الجامعة بأفكاره. وأخيرا تحصل على وظيفة كباحث في معهد البحوث الاجتماعية في جامعة لوبليانا في عام 1979. لقد اعتقدوا انه خطرا ليكون مدرسا للطلبة، ولكن في المعهد لا يمكنه التأثير على الطلبة. هذا الوضع أتاح له المزيد من الحرية للعمل والتفكير. غالبا ما يقول ان هذا العقاب سمح له بالتطور كفيلسوف عالمي. لو سمح له بالتدريس لظل بروفسورا مغمورا في سلوفينيا.
في بداية 1980، جيجك سافر الى فرنسا ليحضر لدكتوراه ثانية في التحليل النفسي. هناك درس لدى زوج ابنة جاك لاكان، جاك الان ميلر. هو يدعي انه كذب على ميلر خلال جلسات التحليل، واخترع اعراض واحلام مزورة. وادعى أيضا بانه يكره ممارسة التحليل النفسي، مفضلا التنظير من التحقق من اعراضه او عصابه. لقد الف جيجك خلال تلك الفترة كتب عن سلوفينيا، وفرنسا، وألمانيا، ولكن كتاب" موضوع الايدلوجيا المتسامي"، هو الذي غير على الفور المشهد الثقافي في العالم الناطق بالإنكليزية. وفي الحال اصبح كل من هيجل ولاكان نقاط مرجعية مهمة في مجال التنظير العالمي، والفضل يعود الى جيجك.
منذ ,1989 اصدر جيجك في المتوسط كتابا واحدا في السنة باللغة الإنكليزية، كما انه يحاضر في الغالب في معظم انحاء العالم، كما اصبح الفيلسوف الأكثر شهرة منذ وفاة دريدا في عام 2004. في عام 1990، رشح نفسه لرئاسة جمهورية سلوفينيا الحديثة وحصل على المركز الخامس. ورغم انه تخلى عن الانغماس الشخصي في السياسة، الا انه ضل مفكرا سياسيا ملتزما. يدلي بتصريحات عامة حول الاحداث السياسية الهامة ويتحدث عن الحركات السياسية والاحتجاجية مثل حركة احتلال سوق المال في نيويورك في عام 2012. تظهر مداخلاته السياسية المختلفة على مواقع ومصادر إخبارية يسارية مختلفة.
جيجك يجمع بين الفلسفة والثقافة الجماهيرية، وهو مزيج يفسر الى حد كبير انتشاره وتأثيره الجماهيري. كتابه الثاني بالإنكليزية "يبدو منحرفا: مقدمة لجاك لاكان من خلال الثقافة الجماهيرية" (Looking Awry: An Introduction to Jacques Lacan through Popular Culture) 1991، تم تحويله الي فلم. اهم اعماله هو التعايش مع السلب: كانت، هيجل، ونقد الايديولوجيا ( 1993)، اقل من لا شيء: هيجل والمادية التاريخية ( 2012)، كتاب من 1000 صفحة ويعتبر إصداره الأهم، حيث يتناول تداخل العلاقة بين هيجل ولاكان. شعبية جيجك قادت الى اصدار فيلم وثائقي عنه بعنوان جيجك (2005). كما انه انتج فيلمين وثائقيين تم اخراجهما من قبل سوفي فينيس، احدهما دليل المنحرف في السينما" (2006 ) و"دليل المنحرف للايدلوجيا" (2012). يظهر في العديد من البودكاست وعدد لا محدود من المقابلات في اليوتيوب.
العلاقة الثلاثية: لاكان، هيجل، ماركس
كمفكر، جيجك يحاول الجمع بين ثلاثة اتجاهات فكرية: لاكان، هيجل، وماركس. ربما تكون محاولة اكتشاف سياسة التحليل النفسي هو البعد الأساسي في مشروعه، لكنه في نفس الوقت لا يريد ابدا ان يفقد الميزة النقدية التي يوفرها التحليل النفسي عند التركيز على مشروع سياسي. لاكان يمنح جيجك طريقة في التفكير حول بنية الذات والمجتمع وحول العلاقة بين الذات والمجتمع. على عكس المفكرين الاخرين في عصره، جيجك مدافع شرس لفكرة الذاتية. هو يرفض تفكيك الذات، ويجادل ان الذات هي نقطة الانطلاق لدى لاكان.
جيجك يعيد لاكان الي مكانة بارزة في النظرية الثقافية، غالبا المنظرين، وبالذات المنظرين الاميركيين بكل سهولة يضعون في سلة واحدة لاكان مع فوكو، دريدا، ودولوز على أساس انهم ممثلين لتيار ما بعد البنيوية (مصطلح لم يستخدمه أي من هؤلاء المفكرين). ولكن جيجك اظهر كيف يختلف لاكان بشكل جذري عن المنظرين الفرنسين الاخرين من خلال إصراره على الاحتفاظ بان الذات هي نقطة الانطلاق. كان فصل لاكان عن هذا الكيان الوهمي المعروف باسم ما بعد البنيوية احد إنجازات جيجك الرئيسية. هو يفعل ذلك من خلال التأكيد على مفهوم لاكان للحقيقي على حساب مفهوم الرمزي والخيالي مفهوميه الاخران. الواقع او الحقيقي، لجيجك هو مصدر المتعة ( Jouissance). المتعة تقرر كيف تتصرف الذات. يرى جيجك ان كل بنية رمزية تتعثر بالحقيقي، ولكن هذا الحقيقي هو كامن في الرمزية ولا يوجد خارجها. لا يوجد ما وراء او في الخارج، وفقط من خلال تخلينا عن التفكير فيما هو خارجي يمكننا التوصل الى الحقيقي. الحقيقي هو مجرد تشوية داخل البنية الرمزية و هذا على غرار" عمل الاحلام" الوارد في فكر فرويد. حقيقة الحلم ليست الظاهر ولا المحتوى الكامن. انها تشويه المحتوى الكامن في المحتوى الظاهر الذي يحدث عندما تحلم الذات. يصبح هذا التشويه مرئيا، كما يعتقد جيجك في الاعمال الفنية، وفي النكات، او في العرض المفرط. لهذا يركز جيجك باهتمام شديد على تأويل الاعمال الفنية او في رواية النكات، او في العرض المفرط ( The performance of excess).
هيجل يمنح جيجك طريقة في التفكير بالعودة الى الذات. يتطلب فكر هيجل الديالكتيكي ادراج موقف الذات في نهايته. انها دائما ما تدرج ذاتها فيما تبحث عنه. فلسفة هيجل في التعاطي مع السلب ليس فقط تضيف الى فكر جيجك فحسب، بل زودته بعنوان لكتابه الخامس باللغة الإنكليزية. هيجل هو مفكر السلب، يري ان التناقض ليس متواجدا فقط في تفكيرنا بل متواجد في الوجود ذاته. السلب ينعش الوجود ويجعل من التفكير امرا ممكنا. ان فكرة هيجل عن المعرفة المطلقة ليست حلا كاملا للسلب بل هي اعتراف باننا لن نتغلب على السلب ابدا. يحاول جيجك دمج هذا الاعتراف في فكرته حول النضال السياسي. المطلق ليس حيث النقطة التي كل جزء يكون في محله بل حيث يكون الكل قد تم قسمته على نفسه، حيث ان ثمة ثغرة تكون واضحة ضمن الكلي. الحرية بالنسبة لجيجك ليس تحقيق الانسجام، ولكن في تضمين اضطراب الانسجام في مشروعنا السياسي.
في تحليله يتبع جيجك هيجل وذلك بإظهار الطبيعة الديالكتيكية لواقعنا الأجتماعي. انه يؤكد كيف ان الخصوم الظاهرين مرتبطون بالفعل ببعضهم البعض دون علمهم بذلك. احد الأمثلة المفضلة لديه هو الارتباط بين الراديكالية الصهيونية والمعادين المتحمسين للسامية. كلاهما يتبع نفس منطق الرغبة في عزل اليهود، حتى ريناهارد هيدريش والذي قرر ما يسمى (بالحل النهائي ، أي الإبادة الجماعية لليهود في الحرب العالمية الثانية) كان في البداية صهيونيا. اليوم لدينا شخصيات صهيونية معادية للسامية الذي يجسدون هذه العلاقة الديالكتيكية. هذه الشخصيات محسوبة غالبا على الأصولية المسيحية، تؤيد إسرائيل بشراسة والتي تعتبرها متراسا ضد الإسلام وفي نفس الوقت تهاجم تزايد عدد اليهود في أوروبا. يوضح هذا المثال بصورة جلية بالنسبة لجيجك ان معاداة السامية ليس بالظاهرة المباشرة وانما يمكن فهمها من خلال هيكلها المتناقض. هذا هو جوهر تحليله الديالكتيكي. ورغم ان جيجك معروف اكثر بانه من مناصري التحليل النفسي اللاكاني، الا ان هيجل هو النقطة المحورية في تفكيره. دعوته المستمرة بالنقد الهيجلي لماركس يمثل اهم مداخلة سياسية له. في مقابلة له عام 2003 بعنوان " التحرير يؤلم،" يدعى:
ما يثير اهتمامي حقا هو الفلسفة، وبالنسبة لي، فان التحليل النفسي هو في النهاية أداة لإعادة التفاعل، مما سيجعل من المثالية الالمانية واقعية الان، وهنا مع كل مغازلاتي للماركسية ، انا مغرور للغاية. اعتقد لا يمكنك فهم "راس المال " لماركس، ونقده للاقتصاد السياسي، دون معرفة مفصلة لمقولات هيجل. ولكن في النهاية اذا علي ان اختار مفكرا معينا سيكون هيجل. هو سيكون اختياري. وانا هنا ساذج تماما وبلا خجل. قد يكون ابيض، ميت، رجل ومهما يكن الموقف الخطأ اليوم، ولكن هذا هو موقفي.
اعجاب جيجك وتفانيه لهيجل ينبع من قدرة الأخير على استيعاب مركزية سلبية نفي الذات( self negating negativity). هذا السلب الذي يقوض نفسه باستمرار، هي الذات ونشاطها ما اعتبره فرويد لاحقا رغبة الموت(Death Drive ) والتي تكون ربما النقطة المركزية في تفكير جيجك. لدى فرويد رغبة الموت ليست مجرد مفهوم خسارة الحياة البيولوجية. رغبة الموت تشير الى البعد الخالد لقوة رمزية عظمى مضادة للبيولوجيا. وبعيدا عن مجرد الوجود البشري فهو ينتمي الي البيئة الأساسية للواقع مثل الكم الميتافزيقي. مثل ما يقول جيجك " حياة البشر ليست حياة فقط: البشر مسكونين برغبة للاستمتاع بالحياة بإفراط. هذا الافراط لا يقود الذات فحسب وانما يقود جيجك نفسه.
الموقف النبوي للمهرج
ربما تكون اهم مساهمة لجيجك في النظرية المعاصرة هي إعادة تقديم نقد الايديولوجيا الى الاجندة النظرية. بعد ان جعل لويس التوسير نقد الاستدعاء الأيديولوجي مركزيا في التحليل الاجتماعي، سرعان ما تعرض نقاد الايدلوجيا لانتقادات من اليساريين الاخريين. مفكرين كمايكل فوكو وجاك دريدا شككوا في مصداقية نقد الايدلوجيا الذي قدمه التوسير من خلال اظهار كيف ان هذا النقد اعتمد على أسس معرفية هشة. هذا يعني ان نقاد الايديولوجيا يفترضون انهم يستطيعون ان يروا من خلال الخداع الايديولوجي الذي يخدع الجميع. لكن لشخص مثل فوكو، فإن هذا النوع من المعرفة المتخصصة هو بالضبط الذي يعمل كوسيلة للسلطة. وهكذا، فإن ناقدي الأيديولوجيا هم في الواقع يخدمون السلطة بينما كانوا يعتقدون انهم يفضحون الخداع الايديولوجي.
لقد قام جيجك بتحويل نقد الأيديولوجيا وذلك بإبعادها من مجال المعرفة وبالتالي تجنب نقد فوكو. لجيجك، الايديولوجيا لا تعمل من خلال منحنا معرفة مضللة او انها تقوم بالتلاعب بوعينا ولكن من خلال تعميم متعتنا (Jouissance). نحن في الايديولوجيا ليس لأننا لا نعرف الحقيقة، ولكن لأننا نستمتع بطريقة تدعم السلطة الاجتماعية او فيما يسميه لاكان الاخر الكبير. في The Sublime Object of Ideology، جيجك يقدم تصريحه الاهم عن الايديولوجيا، يقول" ان وظيفة الايديولوجيا ليست ان تقدم لنا نقطة للهروب من واقعنا، ولكن تقدم لنا الواقع الاجتماعي نفسه حيث يهرب البعض من واقع الحقيقة الصادم". الايديولوجيا هي استراحة من صدمة الحقيقة. صدمة الواقع، وهي صدمة الجمود الأساسي او استحالة تحقيق أي توافق. في اغلب الأحيان، تعمل الايديولوجيا من خلال توجهينا الى ما يبدو تجاوزات. وفقا لجيجك، انه الانتهاك المشترك، وليس الطاعة الجماعية، هو ما يجعلنا مختبئين حقا ضمن الايديولوجيا.
على الرغم من ان لا احد اليوم يطيع ويعترف ببساطة انه يطيع. ان ما يدفع الأشخاص الى الخضوع للسلطة الاجتماعية ليس الايديولوجيا العامة نفسها، بل الجانب الباطن من تلك الايديولوجيا او الخيال الايديولوجي. هذا الخيال ينتهك القواعد التي تحكم الفكر العام للأيديولوجيا، ولكن تفعل ذلك بطريقة تدعمها عوضا عن ان تقوضها. يتضح هذا الامر بشكل خاص في الازمات السياسية، كمثال عندما يكون القانون المعياري العام قريبا من الفشل. ثم " يبدا" الجانب الباطن الفاحش من القانون يوحد المجتمع من خلال الانتهاك المشترك للقانون الفاشل. يقول جيجك " القانون العام مضطر للبحث عن دعم من خلال المتع غير المشروعة. لذلك الان المتع غير المشروعة وليس العقل الرسمي هو الذي يضمن العقد الاجتماعي.
ان تركيز جيجك على الجانب الباطن الخيالي الفاحش للأيديولوجيا هو مفتاح نقده للأيديولوجيا. انه ينظر الى الثقافة الشعبية التي تخفي الأوهام والتي تدعم النظام المعاصر، لأن الاحتمال الوحيد لتقويض الايديولوجيا يكمن في كسر قوة هذه الأوهام. احد اقوى هذه الأوهام هذه الأيام بالنسبة لجيجك، هو البوذية الغربية. فالبوذية الغربية توهم الفرد بان علاقات الإنتاج الرأسمالية غير حقيقية. في الواقع، تجعل البوذية الغربية هذا الامر ممكنا من خلال منح مساحة داخلية للفرد من اهوال النظام الرأسمالي. يمكن للمرء ان يتصرف بلا رحمة كرأسمالي اذ اعتقد ان أيا من افعاله القاسية لا تهم فعلا.
ان التركيز على الجانب الباطن من الايديولوجيا يقود جيجك الى تقدير ما يسميه التطابق المفرط مع الايديولوجيا العامة. بدلا من انتهاك الايديولوجية العامة مع التمسك بالجانب السفلي الفاحش لها، يجادل جيجك بان الفعل السياسي ينطوي على العكس- الالتزام بنص القانون الذي يرفض الجانب الباطن الفاحش. ان مهمة المفكر النقدي ليست مقاومة مستمرة. بل تتمثل بدلا من ذلك في رؤية كيف ان الحضارة نفسها قائمة بالفعل على فعل جذري. ان التقليديين بالفعل متعديون ومفرطون، لكن يجب علينا ان نجعل هذا الافراط مرئيا.
المشكلة هي ان الفرد ينكر وجود افراط في النظام الاجتماعي. نعتقد ان الحياة نفسها هي القيمة النهائية وان البقاء يستحق العناء في حد ذاته. لكن فقط ارتباطنا المفرط بطريقتنا في العيش هي التي تجعل من الحياة تستحق العيش. هذا واضح في حالة الحب، التي تخل بسير الحياة الطبيعي وتمنحنا في نفس الوقت سببا للعيش. الحب دائما مفرط ويتطلب التخلي عن المتع الصغيرة التي تجعلنا نعيش حياة طبيعية. في الحب نلمس الاخر بشكل حقيقي وليس نسختنا المتخيلة عن الأخر.
الاستفزازات المستمرة لجيجك تحاول تشجيع الحب بهذا المعنى من المصطلح. سيكون الامر ثوريا لأنه سيواجه الحقيقة المؤلمة وسينظر الى هذه المواجهة كمصدر للرضا الشخصي. ان هذه المواجهة دائما عنيفة، وجيجك أحيانا يبدو رسولا للعنف. ولكن العنف الذي يمتدحه ليس بالضرورة هو عنف جسدي ضد الاخرين. الامر لا يحتاج الى ذلك، حيث يمكن تسمية أي اضراب عام من قبل العمال ستحاول الحكومة الإطاحة به بالعنف الكافي الذي يمكن ان ينتهي باستدعاء الحرس الوطني.
***
.........................
من مقدمة كتاب جيجك يرد! تحرير دومنيك فنكيلدي وتود مككوان. بلوومزبيري.
ZIZEK RESPONDS! EDITED BY DOMINIK FINKELEDE & TODD McGOWAN, BLOOMSBURY ACADEMIC, LONDON. NEW YORK. OXFORD. NEW DELHI. SYDNEY.
نقلا عن مجلة الأفق الالكترونية نشر بتاريخ 6/6 2023