أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: الوعي في الجشتالت والفلسفة

مدرسة الجشتالت Gestalt مدرسة في علم النفس تعنى بوحدة الشعوراو الوعي واستقلاليته الذاتية كموضوع. ونادت بأن الوعي ليس مكوّنا من عناصر مستقلة على غرار أن جميع مدركاتنا تتكون كموجودات من عناصر عديدة رغم أنها تتعايش جميعها ضمن وحدة كليّة كينونية مستقلة تسمى الموجود او الشيء المستقل. واعتبرت الكل ليس فقط مجموع اجزائه ولا يفهم الكل في انحلال عناصره.

والجشتالت كلمة المانية تعني الشكل او الهيئة او النمط المنظّم الذي يتعالى على مجموع الاجزاء. وظهرت حركة الجشتالت عام 1912 في نفس الوقت الذي ظهرت فيه نظرية السلوكية التي قادها ماكس فرتماير. وهي تعتبر السلوك تعلم ناتج عن مثيرات خارجية. اما رواد الجشتالت فيعتقدون التعلم هو فهم وادراك وتمييز.. ونظرية الجشتالت جاءت ايضا كرد فعل على البنيوية التي تحاول تجزئة الادراك الى مكونات. (نقلا عن ويكيبيديا الموسوعة ).

الوعي الادراكي في الفلسفة

هنا نجد الوعي بمعنى الشعورالنفسي أنه فهم مستقل ذاتيا يدرك بالممارسة الادراكية الانفرادية. صواب هذا التوصيف حين نعتبر الوعي وهو كذلك خاصية انفرادية تحكم انفراديتها الممارسة الادراكية الواحدية للشيء في كليته. حيث من المتعذر أن يمارس الوعي دوره المعرفي والادراكي بنفس طريقة واسلوب تفكير جميع أو عامة الناس. هذا يعني أن وعي الفرد الواحد لا ينوب عن وعي المجموع تجاه معرفة الشيء او الموجود الواحد. المقصود الوعي الجمعي يتوزع على عدد مدركي الشيء الواحد بتنوع كيفي بما لا حصر له كما في خاصية عمل عقول الناس كجوهر نوعي غير مبرمج جمعيا بالادراك والتفكير...فليس كل العقول تدرك الموجودات في تنميط واحد مشترك نوعيا.

الحقيقة أن خاصية الوعي من حيث امتلاك الفرد لها هي ثنائية تتالف من خاصية فردية مجمع عليها. حال الوعي يشابه تماما كما في مقولة ديكارت العقل أعدل قسمة ومساواة بين جميع الناس في امتلاكهم له. لكن كما ينطبق على ان العقل جوهر (نوعي) منفرد و ليس نموذجا متقولبا واحديا في التفكير المنمذج الذي ينوب عن العقول الاخرى. فلكل عقل تفكيره الخاص به لكنه عقل يحمل المجانسة النوعية الواحدية البيولوجية والتفكيرية المجردة مع باقي العقول الانسانية عموما.

في مفهوم مدرسة الجشتالت النفسانية ان الوعي او الشعور كليّ لا يقبل التجزئة الى عناصر كما هو حال العناصر الموجودة في تكوينات الاشياء بعالمنا الخارجي والموجودات بالطبيعة. وان مرجعية الشعور هو علم النفس وليس مرجعيته فاعلية بيولوجيا الادراك العقلي.

صحيح جدا ان نقول الوعي جوهرا ادراكيا موحدا شعوريا مصدره العقل. وصحيح ان الوعي او الشعور كليّ التكوين وكليّ الادراك معا بغض النظر عن ان تلك المدركات والموجودات والمواضيع تتكون من عناصر تشكل كينونة موجودية كليّة انطولوجية يدركها الوعي الانفرادي النوعي بواحدية تكاملها الوجودي في مدركات العالم الخارجي ولا يدركها بعناصرها التكوينية في الاشياء والموجودات.

هنا المقصود بعناصر مكونات الموجودات ليست جواهر الاشياء او الموجودات او ماهياتها التي تحتجب خلف الصفات الخارجية لتلك الموجودات انطولوجيا. فمجموع العناصر التكوينية والصفات الخارجية للشيء موضوع الادراك تمثل الموجود كيانا مستقلا ولا تمثل جوهره او ماهيته التي هي ذاتية خاصية ذلك الشيء نوعيا وليس هو مجموع عناصر مكوناته. فالذات جوهر عقلي وليست موضوعا مستقلا في الذهن.

اننا لو اخذنا الوعي من حيث وظيفته الادراكية نجده كما تقول مدرسة الجشتالت النفسية انه وحدة كليّة مستقلة فردية لا يمكننا تجزئتها لعناصر تكوينية داخليا كما هو حال وجود الاشياء انها تتالف من عناصر ايضا لا يمكن تجزئتها لأي غرض كان لأن معنى ذلك نجعل من الموجود كليّة غير متجانسة نوعيا في عناصر تكوينها القابلة للتفكك والانحلال ما يرتب عليه غياب موجودية او كينونة قائمة ادراكيا في حال إنحلت تلك الموجودات الى عناصرها التكوينية المنفصلة عنها.

هذا الاختلاف بين كليّة الوعي او الشعور غير القابل للتجزئة مع كليّة الموجودات المؤلفة من عناصر قابلة للتفكك والانحلال لا يلغي حقيقة اللاتجانس النوعي الذي يحكم الوعي ولا يحكم تكوينات المدركات في كليتها الواحدة الموجودية.

كليّة الوعي او ما يسمى الشعور النفسي الصوري في الجشتالت كما ذكرنا سابقا لا تاخذ صفتها انها ليست قابلة التفكيك لعناصر اولية تكوينية لها لأن الوعي أو الشعور مرجعيته مقولات العقل وليس مقولات علم النفس كما هي الاشياء المكونه من عناصر يمكننا تفكيكها اذا ما اقتضت الحاجة لذلك. هذا يذكرنا بما فعله سكينر في كتابه(السلوك اللفظي) حين اراد جعل توليدية اللغة فعالية ترتبط بعلم النفس السلوكي ما جعل نعوم جومسكي يعارضه معارضة شديدة في فلسفته عن اللغة التوليدية المكتسبة ولو انه اي جومسكي ايضا أيّد ما اسماه الاستعداد الفطري في تعلم واكتساب اللغة.. (لي اكثر من مقال واحد منشور بهذا الصدد).

فلاسفة السلوك اللفظي وفلسفة نعوم جومسكي التوليدية لا يعترفون بمقولة جون لوك يولد الطفل وعقله صفحة بيضاء. جون لوك فيلسوف تجريبي يفرّق بين بيولوجيا العقل الذي يتنامى معرفيا عن طريق الاسرة والمدرسة و المحيط واختلافها عن المكتسبات الفطرية الموروثة عن الجينات او الكروموسومات التي هي الصفات الخارجية لكل الموجودات وليست تمثّل ماهيتها.

الوعي والواقع

ثمة عبارات للكاردينال دي سوكا وهو فيلسوف القرون الوسطى اشار فيها:

- الوعي هو نوع من التحرر الواقعي

- الزمن يسبق الوعي الحقيقي

حسب نظرية الجشتالت النفسية وحسب الفلسفة عموما أن الوعي أو الشعور جوهر مستقل لكن هذه الاستقلالية مشروطة بتبعية الشعور او الوعي للنفس قصديا سلوكيا حسب الفينامينالوجيا. والاشمل من ذلك فالوعي مشروط بتبعيته للعقل وهو مالا تاخذ به مدرسة الوعي النفسي. اي لا تأخذ به مدرسة الجشتالت ولا الفينومينولوجيا لدى هوسرل.

الوعي او الشعور هو جوهر العقل وليس جوهر النفس في إدراكه موضوعات وموجودات عالمنا الخارجي. لذا فالوعي مستقل عن الواقع بمعنى عدم تموضع الوعي فيه تكوينيا. الوعي لا ينتج الواقع كما وليس هو نتاج ذلك الواقع. على خلاف الحواس التي هي ادراكات مصدرها موجودات الواقع او الوجود المادي منتج الاحساسات. الوعي هو فعل تجريد مقولات العقل عن الاشياء التي يدركها. والواقع الذي لا يدركه الوعي او الشعور فمن المحال ادراك العقل له. بتعبير آخر الواقع بكل تنوعاته الموجودية هي مواضيع ادراكية للعقل.

لكن الوعي ليس مستقلا عن العقل ولا هو موضوع يهم العقل أكثر من إهتمام الوعي معرفته الواقع. وهذا ينفي صدق تعبير اللغة القاصر عن موضوعات العقل تماما. فتعبير اللغة يكون احيانا وسيلة تضليل العقل. وظيفة العقل حينما لا تتجاوز مطابقة الدال مع المدلول واقعيا تصبح تضليلا للعقل ان يعي مدركاته بابعد مما تعبر عنه اللغة بايولوجيا حسيّا صرفا. لذا نجد بعض الفلاسفة كي لا يقعوا بهذا المطب اخترعوا مصطلح (ما فوق اللغة) لعل ابرزهم بول ريكور في التاويلية وجاك دريدا بالتفكيكية طبعا باختلاف جوهري بينهما في توظيفهما لمصطلح ما فوق اللغة. وكذلك نظرية السلوك الذي يقوم على المحفز والاستجابة.

بول ريكور في الهورمنطيقا اعتبر اللغة نسقا مفهوميا لا علاقة له بالواقع لا جدليا ولا تخارجا معرفيا ولا بحياة الناس فهو يوازيها بنسق لغوي مستقل.. في حين اعتبرجاك دريدا في التفكيكية ان اللغة تراكم تجريدي يستمد وجوده في التقويض والهدم. اي اللغة مادة للتفكيك المستمرالذي لا يخضع لثبات العقل ولا ثبات الانسان كجوهر مركزي..

وفي غياب موضوعات تفكير العقل المادي او موضوعات التفكير الخيالي المستمد من المخّيلة وليس من الذاكرة. الخيال توليد تفكير الشعور او اللاشعور خارج الزمن الماضي الذي يكون استذكار موضوعات الخيال مستمدة منه تحقيبا تاريخيا وليس زمنيا مستمدا من الذاكرة التي هي ثبات افتراضي تتتبع الماضي زمنيا وفي الحقيقة هي استذكار لتحقيب تاريخي بدلالة زمنية.. وليس من المخيلة وموضوعات الاستذكارالذهني التي تعود للماضي كتحقيب تاريخي فقط. فالزمن من المحال ادراك زمانيته في معرفتها ذاتيا كوعي او كموضوع. لذا نجد بدلالة نظامية المكان ينتظم الزمن ويتخلص من عشوائيته وهو ما كان ذهب له افلاطون نصا.

في غياب كما اوضحنا سابقا مواضيع تفكير العقل بشقيه المادي والخيالي فلا يوجد هناك وعي يصدره العقل. الوعي كما هو العقل خاصيته ملازمته لموضوع وعيه والتفكير به. الواقع في تفرده الوجودي المستقل ليس له تاثير مباشر ولا علاقة له بغير علاقة ادراك الوعي له. لذا فليس في مقدرة الواقع سجنه الوعي كي يسعى هذا الاخير الخلاص من هذا السجن ويطابق مقولة الكاردينال دي سوكا الوعي هو نوع من التحرر الواقعي. الوعي وموضوعه ثنائية لا وجود احدهما بغير ملازمة الاخر له.

كما الجدير ذكره أن لا توجد هناك علاقة تكاملية معرفية تجمع الوعي والواقع. أعيد تكرار العبارة التي سبق لي ذكرها. الوعي تجريد لغوي لا ينتجه الواقع لانه وسيلة تفكير العقل بمدركاته. كما لا توجد علاقة ديالكتيكية بمعنى التضاد الخارجي الذي ينتج عنه تراجع وتلاشي احد اطراف التضاد الجدلي ليعطي المجال هيمنة العامل المنتصر استحداثه الظاهرة الجديدة. أي لا جدل ديالكتيكي بين الوعي والواقع بل هو تكامل معرفي متخارج بينهما.

لماذا لا توجد علاقة جدلية بين الواقع والوعي؟ ببساطة لانهما طرفي علاقة غير تجانسية تربطهما معا. الديالكتيك يستلزم تضاد عنصرين تجمعهما المجانسة النوعية الواحدة داخل الظاهرة الواحدة أوداخل موضوع الديالكتيك الموّحد نوعيا. مثال ذلك انك لا يمكن أن تجد علاقة جدلية تربط شجرة بحيوان ولا حتى شجرة باخرى. والسبب هو انعدام المجانسة النوعية الواحدة التي تجمع بينهما فهل تستطيع الشجرة نفي وجود الحيوان جدليا؟ أو بالعكس.

الوعي صورة الذهن وصورة النفس

اصحاب مدرسة الجشتالت النفسي يرون ان الوعي (صورة) حالها حال اي موضوع. ويعتقد هوسرل ان الوعي هو الخبرة القبلية الموجودة داخل المدركات كخاصية تكوينية. ويعتبر هوسرل الوعي صنفين الاول قبلي يحدس الخبرة التراكمية بالاشياء ووعي ثان بعدي يعطي تفسير الموضوعات بدلالة مقولات العقل.

هذا التقسيم في الوعي لا صحة له اذ لا يوجد خبرة قبلية (صورة) موجودة داخل الاشياء قبل ادراكها والوعي بها. هذا الفهم كان اشار له شيلر بمصطلح ثان هو ان الاشياء والموجودات تمتلك خاصية قابلية ادراك ذاتي وليس قابلية ادراك تمتلكه الحواس والعقل تخلعه علىيها.. بتلخيص شديد الوعي هو ادراك لموضوع مستقل. كل موجود له معنى يشكل موضوعا لادراك عقلي وما ليس له معنى لا يدركه العقل.

ومن المهم التنبيه جيدا ان الوعي ليس موضوعا مستقلا صادرا عن النفس كما تذهب له مدرسة الجشتالت. دليل ذلك اننا لا نعرف ماهو الوعي من غير دلالة تعالقه بمدركاته. وهذه الخاصية تشبه تعالق الزمان بالمكان من دون ادراكنا المعرفي في وعي الزمان كموضوع مستقل. ونفس الخاصية تنطبق على الجوهر او الماهية فهو ليس موضوعا مستقلا يمكننا ادراكه....

يبدو لنا التساؤل الجدير بملاحظته اذن ما الفرق بين الزمن والوعي من حيث تعالقهما المحايد غير المدرك بالاشياء والموجودات ونحن لا نستطيع تعريفهما لا ماهويا ولا صفاتيا؟ كلاهما الزمن والوعي يعرفان حدسيا بالدلالة التعالقية مع الاشياء. الزمن معطى قبلي يتعالق بالطبيعة ايضا كمعطى لكنهما كليهما الزمن والطبيعة لا نعرف العلاقة التراتيبية ايهما اسبق على الاخر. الزمن مفهوم ميتافيزيقي يحتوي الطبيعة بالدلالة المحايدة، بينما الوعي هو ادراك يقوم به الانسان باردة قصدية ذهنية معرفية.

***

علي محمد اليوسف

في المثقف اليوم