أقلام فكرية
علي محمد اليوسف: حقائق الرياضيات والفلسفة
تمهيد: المقال يعتمد على ترجمة الباحث الفلسفي القدير حاتم حميد محسن لمقالة الفيلسوف الامريكي وعالم الرياضيات جاريد وارين التي نشرها في مجلة (الفلسفة الآن) عدد اب – ايلول المزدوج. ونشر الاستاذ حاتم ترجمتها على موقع المثقف تاريخ 9 ايلول 2023 بعنوان (الغاز الرياضيات: الابعاد الفلسفية والحلول الممكنة).
مداخلة نقدية
ورد في مقالة وارين: (أن حقائق الرياضيات الخالصة تختلف تماما عن الحقائق العادية. فمثلا حقائق الرياضيات الخالصة هي ابدية. هي دائما كانت صحيحة وستبقى صحيحة. كانت صحيحة عند الانفجار العظيم ان 1+1=2 وستبقى صحيحة بعد تريليون سنة. انها ضرورية وتبقى صحيحة دائما لا يهم بذلك احوال العالم. حتى في عالم بلا انسان سيبقى صحيحا واحد زائدا واحدا يساوي اثنين. كذلك صحة الحقيقة الرياضية (موضوعية) لاتعتمد اهواء ورغبات اي شخص. ولو نحن نلتقي باناس من المريخ ويقولون 1+1=3 سوف نعرف اننا نفشل بالتواصل معهم ). انتهى الاقتباس.
نحاول تفكيك هذا المنطق الرياضي الفلسفي رغم وضوح لغته التي توهم ماذكره الفيلسوف صحيحا تماما. رغم ان عالم الرياضيات وارين يبسط قضية علمية صارمة لاتقبل خلط ما هو علمي بما هو متخيّل. الا انه يدخل في مقالته الكثير من الاستطرادات الخيالية غير الواقعية التي لا نصيب قليل لها من الحدوث.
قول فيلسوفنا حقائق الرياضيات الخالصة تختلف عن العادية عبارة سليمة تماما لكن كيف؟ حقائق الحياة العلمية منها حقائق الرياضيات العلمية ثابتة لا تتغير ولا تتاثر بعامل الزمن دليل قول الفيلسوف بعبارته الغامضة قائلا (الحقائق الرياضية ثابتة لا تتغيربسبب ان لغتنا الرياضية مستقلة عن الزمن). هنا الخطأ البدئي الاول هو الخلط بين حقائق الرياضيات ولغتنا ومفاهيمنا عنها مستقلتان كليهما عن الزمن .والصحيح ان حقائق الرياضيات هي الثابتة المطلقة فقط هي المستقلة عن الزمن. ولا تحضر لغتنا الرياضية هنا عنها سببا محايثا لاستقلالية حقائق الرياضيات عن الزمن وسنوضح هذا اكثر لاحقا.
ثبات حقائق الرياضيات لا يعتمد على زمن قراءتنا لها. فهي ثابتة بعد اختراع الانسان لها وليس بعد اكتشافها جاهزة كما يرى فيلسوفنا. واصبحت حقيقة علمية لا تخضع لاهواء وامزجة شخص كما مر بنا. ما ارغب تاكيده ان زمانية الحقائق الرياضية مطلقة لانهائية لانها هي حقائق مطلقة خالدة لذا ليست لها زمنية ثابتة تلازمها في حين قراءاتنا الزمنية لحقائق الرياضيات هي زمنية بمعنى ملازمة الزمن المفتوح لنا عليها رغم عدم امكانية التلاعب بلازمنية حقائق الرياضيات. الحقيقة كي تكون عبارة عالم الرياضيات وارين صحيحة يجب ان تكون حقائق الرياضيات مستقلة عن الزمن وان لغتنا الرياضية عنها زمنية.
حقائق الرياضيات تكون ثابتة لا تتغيروغير نسبية كونها تجريد رمزي – واقعي مشترك مستمد من واقعية الحياة التي نعيشها فاصبحت من البديهيات الثابتة التي لا يطالها الشك او التجربة او اعادة النظر بها.. هذه الحقائق الرياضية الثابتة مخترعة وليست مكتشفة وهي من صنع الانسان وليست قبلية على وجوده.اما الحقائق العادية اذا كانت طبيعية او علمية فيزيائية او غيرها مثلا فتكون نسبية تتغير بعامل الزمن والتجديد الدائم لها.
وصف الفيلسوف وارين ان حقائق الرياضيات ابدية صحيحة وستبقى صحيحة منذ الانفجار العظيم والى بليون سنة قادمة.
حقائق الرياضيات الخالصة هي حقائق مخترعة متفق على صحة وثبات رموزها المعادلاتية انها واقعية لازمنية مطلقة وفي حال انعدام الرؤية المستقبلية في امكانية التغيير المحال لها فهي تكون حقائق واقعية مطلقة ابدية تضارع القوانين الطبيعية في الخلود الثابت.التي بعضها يحكم الطبيعة وبعضها يحكم الطبيعة والكوني.
لذا ابدية الحقائق الرياضية تاتي من لازمنيتها من جهة اي هي مستقلة عن مؤثرات الزمن. ولا تطالها رغبات الانسان بالتغييرمن جهة اخرى. كل مدرك عقلي علمي يصبح حقيقة ابدية خالدة حين لا يكون هناك تاثير خارجي يداخله.لا من قوانين الطبيعة الخارجية ولا من الزمن ولا من رغائب واهواء الانسان.
اما ان تكون حقائق الرياضيات صحيحة حتى في عالم غير ماهول فهي فرضية لا يمكن الاعتداد الاخذ بها لان حقائق الرياضيات مخترعة وليست مكتشفة. وهي ايضا ليست قبلية على وجود الانسان.عالم غير ماهول بالانسان لا تجد فيه حقائق رياضية لامكتشفة ولا غير مكتشفة. ويتعذر على احد اختراعها من غير وجود انسان متحضر يفهما ويعرف استخدامها الضروري بالحياة..
عليه يمكننا القول ببساطة ان معيار صحة حقائق الرياضيات انها من اختراع انساني ولم تكن لهذه الحقائق قابلية الظهور التصنيعي لنفسها ذاتيا خارج الارادة الانسانية في اختراعها لاول مرة واكتسبت ثباتها المطلق بالانسان وحده على مر العصور. هذه الحقائق الرياضية مطلقة ابدية الثبات وخالدة نتيجة خبرة طويلة انسانية بالحياة.
لذا في حال افتراض ان حقائق الرياضيات بصيغتها التي يعرفها ويستخدمها الانسان كواقعة علمية تستخدم بالحياة. لا يمكن الفرض ان الحقائق الرياضية بصيغتها التداولية الثابتة موجودة باقية مستقلة بذاتها في عالم خال من الانسان ولا يوجد من يدركها ويعمل بها. خلود اية حقيقة طبيعية او علمية انما تكون قيمة ابديتها بوجود النوع الانسان المخترع او المكتشف لها. وفي غياب هذا النوع الانسان لا يمكن ان نجد اية حقائق رياضية في عالم غير مأهول. حقائق الرياضيات هي احد المنجزات العلمية التي تعتبر خاصيتها الاساسية انها من صنع الانسان ولاجله.
كما نجد الحشو الزائد بالمقال ان عالم الرياضيات وارين يطرح انه لو التقينا باناس من المريخ يقولون 1+1=3 سوف نعرف اننا سنفشل في التواصل معهم. هذه فرضية باطلة لعدم اثبات حقيقة وجود كائنات حضارية بالمريخ او غيره تتعامل بحقائق الرياضيات وتفهم معادلات الرموز الرياضية كما يفهمها ويستخدمها الانسان على كوكب الارض. ولا يوجد من يعرف صوابها او خطاها سوى الانسان المتحضر على الارض. ثم ماهو دليل ان سكان المريخ لو كانوا موجودين حقيقة يتعاملون مع مباديء الرياضيات عامة بما نحن نتعامل به ونستخدمه في علومنا والحياة. نحن سكان الارض فقط نقول واحد زائدا واحد يساوي ثلاثة انها خطأ. وغيرنا إن وجد فهو لا يعرف هذا الخطأ كونه غريبا عنه ولم يسبق له فهمه والتعامل به..
ايضا من الحشو الزائد في المقال قول فيلسوفنا( نحن نتوقع اكتشاف المزيد من الحقائق الرياضية.)
حقائق الرياضيات الخالصة كما سبق لنا قوله هي اختراع تجريدي رمزي واقعي متداخل او بالاحرى متكامل في التعبير من صنع الانسان. فالرقم واحد لا يعي ولا يفهم ذاتيا بدون الانسان انه سيكون باضافته الى واحد اخر من نوعه سيكونين اثنين. هذه الحقيقة يفهمها الانسان ويتعامل معها واثقا من صحتها لانه هو مخترعها وليس مكتشفها. كما لا توجد دلائل تؤكد ان مباديء علم الرياضيات والحقائق المتعالقة بها رياضيا هي قبلية موجودة قبل وجود الانسان وتنتظر من يكتشفها. الرياضيات علم مصنّع من قبل الانسان على الارض مثل باقي العلوم الاخرى التي يخترعها الانسان لخدمته.
حقائق الرياضيات ليست من ضمن قوانين الطبيعة المستقلة التي تعمل بمعزل عن الانسان فهذه ميزتها انها مكتشفة. اما حقائق الرياضيات فهي قوانين وضعية اخترعها الانسان من اجل فهم حياته. وملازمة الانسان لها يعطيها اهميتها. وبغير وجود ملازمة الانسان لها واستخدامها بما ينفعه فلا قيمة لها لا بل غير موجودة.
ومن اقوال عالم الرياضيات الزائدة قوله (كي لا نبني اوهاما ميتافيزيقية حول الرياضيات فان قواعد استعمال اللغة الرياضية تكفي). ليس من المتاح لاحد خلق اوهام ميتافيزيقية حول الرياضيات التي هي حقائق ثابتة خالدة. حقائق الرياضيات ثابتة مطلقة سواء على الارض او بالكوني. وفعلا كما قال الفيلسوف قواعد استعمال اللغة الرياضية تكفي لوضع حد تفسيري او تهميش ميتافيزيقي في تناول حقائق رياضية اثبتها العلم بالتجربة القطعية ولا مجال التداخل غير العلمي معها.
في منطق العلم لا يمكن التحدث عن حقائق الرياضيات العلمية الا بلغة علمية تطاوعها. عليه يصبح من الصعوبة ان نوجد فروقا فلسفية او رياضية بين لغة الرياضيات وبين حقائق الرياضيات. كل حقائق العلوم الفيزيائية والرياضية والكيميائية لا يمكن الحديث عنها بغير لغة علمية تجانسها والا اصبح ما نتكلم عنها بغير لغة تجانسها لغوا فارغا لا قيمة له. تاكيد ذلك ماورد بالمقال على لسان وارين (عمل رياضيات شيئ وفهم طبيعة الرياضيات شيء اخر، فالمهمة الاولى رياضية والثانية فلسفية).
يثير فيلسوفنا قوله ( لغة الرياضيات مستقلة وهي لغة احتمالية ) ويضيف (ان ما هو صحيح رياضيا يمكننا تعميمه وتطبيقه على كل شيء).
عرفنا سابقا ان حقائق الرياضيات هي حقائق مستقلة عن الزمن وعن مؤثرات القوانين الطبيعية الاخرى وكذلك هي مستقلة عن اهواء ورغبات الانسان. اما ان تكون لغة الرياضيات مستقلة بنفس معيارية استقلال حقائق الرياضيات فهي لا.
- لا يمكن استقلال لغة الرياضيات عن حقائق الرياضيات والا اصبحت اللغة الرياضية هامشا لا معنى له.
- هل لغة الرياضيات مستقلة عن الانسان والزمن كمثل حقائق الرياضيات الجواب لا ايضا. كون بمستطاع الانسان المتخصص الحديث بلغة الرياضيات في اي وقت يشاء وتكون لغته الرياضية مستقلة بحكم طبيعتها العلمية.
مايجمع استقلالية حقائق الرياضيات مع استقلالية اللغة عنها هو ان كليهما ضرب من النشاط العلمي ولا تسمى لغة الحديث عن الرياضيات لغة مستقلة الا لانها تتكلم لغة العلم.
لماذا وصف الفيلسوف وارين لغة الرياضيات بالاحتمالية؟ هل هي احتمالية بالنسبة لثبات حقائق الرياضيات؟ هل الاحتمالية صفة ملازمة في تعدد القراءات لحقائق الرياضيات ومحاولة الاجتهاد المنطقي فيها؟ هل الاحتمالية ترد بمعنى هورمنطيقي تاويلي؟
يقودنا عالم الرياضيات وارين الى التباس اعمق حين يقول (الحجج التي تساوي بين خلق المفاهيم الرياضية وبين خلق الحقائق الرياضية هي خاطئة. لغتنا الرياضية وممارساتنا ومفاهيمنا خلقت لكن الحقائق الرياضية ليست كذلك، الفهم الصحيح للرياضيات يتطلب تجنب هذا الالتباس).
بضوء العبارة السابقة:
الحجج التي تساوي بين خلق المفاهيم الرياضية مع خلق الحقائق الرياضية غيرخاطئة وهي صحيحة من حيث كلاهما مخلوقتان من قبل الانسان لكن يبقى الفرق بين الخلقين ان حقائق الرياضيات هي خلق علمي ثابت ومطلق اما نتائج خلق المفاهيم عنها فهي فلسفة قابلة للتغيير.. وهو ما يقر بصحة هذا الاختلاف وارين يعتبر خلق المفاهيم الرياضية (فلسفة) اجتهادية مصنعة. ويعتبر حقائق الرياضيات غير مخلوقة وموجودة قبل اكتشاف الانسان لها.
نعيد ماسبق لنا ذكره انه لا توجد حقائق رياضية لم يخترعها الانسان وغير مكتشفة وهي قبلية الوجود عن الانسان لا على كوكب الارض ولا في مكان غيره..
***
علي محمد اليوسف /الموصل