أقلام فكرية
سامي عبد العال: الرحمة كمفهوم بلاعنف (5)
كلما جاء المعنى في الإسلام كونيّاً، أخذ يتحلل من الجُذور التي تشده إلى الوراء. وقد بانت الفروق الفاصلة بين مفهومٍ وآخر، وأتخيل أنَّ تصورات الإسلام حول ما هو كوني في الحياة أمر بالغ الحساسيةٍ تجاه الماضي كله. المفارقة أنَّ المعنى يرمي إلى التجاوز لا إلى الثبات، إلى الأكثر تنوُعاً لا إلى الأقرب انغلاقاً. والإسلام ريثما يُقرر الأبعاد الكونية فيه، لابد أنْ يتحرر– بنفسه- مما يجذبه إلى محدودية الواقع. ولاسيما أنَّ الكون كتصور وكفكرة يتطلب كلَّ ما ليس مطروحاً لدى الخاص والعرضي. فلا يُوجد في عرف البشر مفهوم ديني يعترف للآخر بكل اختلافاته وما يناسبها من حياةٍ في الوقت عينه.
كونية المعنى
مشكلة المسلمين أنَّهم حصروا الدين الإسلامي داخل أفكار محلية تركت بصماتها المشوهة على النصوص المؤسِسّة (القرآن والسنة)، ومازال الاسلام حبيساً لهذه (التأويلات البيئية environmental interpretations) القائمة على العادات والتقاليد الأقل تطوراً. وهي تقاليد انتجت الإرهاب ودعمت استعمال النصوص لاستباحة وجود الآخرين والنيل منهم ورسخت أنظمةً سياسية مستبدة وحولّت الإنسان إلى كائن هش ملتوٍ على ذاته (كالديدان)، أقصى آماله أنَّ يحيا ويأكل القوت حتى يبلغ الموت، ولا يتطلع إلى الإندماج في حركة العالم وتياراته الثقافية.
وخطورة ذلك أنَّ مفاهيم الاسلام (الإيمان والحياة والآخر والوطن والحياة والحرب والسلم والحقيقة والموت) ظلت مفاهيم ملوثة بآثار المذاهب والصراعات الفكرية على خلفيات التوظيف السياسي للدين والتزييف التاريخي للوعي. ولكمْ تمَّ تصوير القرآن تاريخياً كأنه " دستور حرب" لا علاقة له بالتسامح ولا العفو ولا الاندماج داخل الحضارات الكونية. وغاب التصور الإنساني عن العالم الذي يسمح بالاختلاف والتنوع. وهذا تأويل يتماشي مع لاهوت الحروب القديمة، تلك التي كانت إفرازاً لجماعات التأويلية ودوائر انتاج الكلام فيها.
لقد ظلّ القرآن مرهوناً بتأويلات لا تخرج من حيز المكان والزمان، مما قلّص طاقة النص الديني ونطاقه الدلالي إزاء الإنسانية الفسيحة بما يتوافق مع غاية الإسلام. وبخاصة أنَّ النص القرآني ينتمي إلى مساحة أفعال الكلام speech acts، وهي التي- فيما يقول جون سيرل- تهدف إلى التأثير (المباشر أو غير المباشر) فيمن يستمع وكيف يمارس ما تطرحه اللغة في الواقع[1].
وتاريخياً أهمل المسلمون البعد الكوني في المفاهيم الدينية، رغم أنها من صلبها الدلالي والوظيفيٍ. وربما أن أبرز ما يميز الاسلام عن سواه من الأديان أنه ينطوي على (حَدْس كوني) يخص الإنسان. بخلاف اليهودية والمسيحية اللتين اختصتا بأناس معينين في إطار ثقافة وموروثات ابراهيمية، وهي موروثات حملت عادات المجتمعات وقيودها البيئية.
في كل ما يقول الإسلام عن الآخر (المتنوع، المختلف، المغاير، النقيض) وبخاصة عبر القرآن توجد خلاله (بذرة كونية رحيمة) على الدوام. والمقصود بها هو مخاطبة الإنسان ككائن يستحق معالم الإنسانية وحقوقها لذاته. بينما الممارسة المذهبية والفقهية نتيجة الاستغراق في التأويلات البيئية تهبط بالاسلام من تلك المكانة وتجعله سلاحاً أيديولوجياً ليس إلاَّ. وهذه ليست مجرد حالة عابرة، بل كارثة تحل على مفاهيم الدين والإيمان والاعتقاد إجمالاً ولا سيما لافي عصور الانحطاط، حتى تحولت مناهج القول الكلامي- برأي فخر الدين الرازي- إلى جدال وتناقضات تخالف الغايات الروحية والإنسانية الكبرى[2].
الرحمة تنتمي إلى البذرة الكونية، لعلَّها تنمو شجرة وتستوي على سوقها ثم تظلل آفاق الإنسانية في المسلمين قبل الآخر. وهذا المعنى ليس تكملةً تأتي عرضاً كلما اتفق، بل من صلب الإسلام. ويمكن القول بأن الرحمة إبرز طُرق الانفتاح على العالم المختلف. فلئن كانت الأديان تجد نفسها في مفترق طُرق بفضل البيئات الثقافية وصعوبة الانخراط مع تطورات التاريخ، فالرحمة رؤية كلية ذات طابع إنساني بالمقام الأولى لتحقيق هذا التجاوز. هي دعوة مفتوحة للإنخراط في كل ما يتصل بالعوالم والحيوات المختلفة.
وفي المجتمعات المعاصرة، تعد الرحمة لغة عالمية بموجب أن الصورة الطبيعية والثقافية للإنسان قد تحققت فيها إلى أبعد نقطة، فهي تعود عليه بدرجة من العمومية التي لا تتوقف على شيءٍ معين. فكل رحمة لا تستحق اسمها كما هي في الاسلام دون تلك النبرة الجامعة وقد تفقد وجودها بمجرد حدوث شيء يناقض هذه الكونية الإنسانية والروحية.
وأتصور أنَّ فكرة الرحمة لم يأخذ بها بعضُ فقهاء الإسلام تاريخياً لعدة أسبابٍ، وهي أسباب تعود إلى درجات الوعي بالجوانب الفلسفية للرحمة. كما أنَّه نظراً لعدم تأسيس الفقه على النقد الذاتي والمعرفة الإنسانية ومناهجها المتقدمة، فقد يرى منطلقاته ونتائجه صحية تمام الصحة:
1- تحول الفقه من فقه يهتم بالإنسان إلى فقه صراعي يشتغل على الغرائز الحسية والرغبات والكراهية والنزعات العدائية.
2- ارتباط الفقيه بالسياسي في تاريخ الإسلام، إذ لم يكُّن الفقيه مفكراً ولا مُلماً بالمعارف والعلوم الإنسانية، لكنه ظل خادماً للتوجُهات السياسية. وحرصت الساسية على الإحتفاظ به في تلك الخانة.
3- كان الفقيه بمثابة الموقَّع (اسمياً) عن رب العالمين بتعبير ابن القيم الجوزية، كأنّه يتحدث بلسان السماء دون أي إنسان آخر. مما خلع عليه هالةً من القداسة لم تسمح له ببذل الرحمة في المُطلق بحكم محدودية آفاقه.
4- وجود التأويلات العنيفة لخدمة الجهاد والصدام الحدي بين الثقافات، وكأنَّ الاسلام مجرد (طرف حربي لا غير)، يذود عنه الفقهاء ورجال الدين بالنصوص واحتكار المفاهيم والتصورات، حارمين أنفسهم من تطورات الحياة ومن التنوع الخلاق لكل المجتمعات.
5- اختفاء التوجُهات العقلانية التي تخاطب إنسانيتنا الكونية المشتركة (كما يقول ديكارت العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس) . وهي بطبيعتها توجُهات ذات صلاحية خارج وجودنا المحدود.
6- انتشار ثقافة العنف والتنظيمات الإرهابية التي تركت آثارها على النصوص ومحاولة اخراج تأويلات قاتلة للدين نفسه قبل أن تصل لما هو كوني. والوصول إلى ما هو كوني تحت عنوان أرض الحرب في مقابل أرض السلام. وكأن ثقافة العنف بإسم الإسلام تقطع الطريق على الإسلام ذاته!!
7- اللُّهاث السياسي- من قبل الأنظمة والدول- على إمتلاك النصوص المؤسسة للإسلام، فالمجتمعات العربية تنخرط في صراع محموم للاستحواذ على القرآن مصحفاً ونصّاً وتفسيراً وتأويلاً وتوظيفاً وقراءة وطباعة. حتى غدا لدى المسلمين ما هو رسمي وما هو غير رسمي من الإسلام.
8- الحرص على نشر مفاهيم (العبودية والتذلل) باسم الله للحاكم وأصجاب الصولجان، أو العكس التذلل لله باسم الحاكم على إعتبار أنه ولي الأمر. وهذا ما يلغي الرحمة من حيث هي مستوى من الرأفة والتعاطف والاعتراف بلا سلطة ولا قهر. أنْ ترحم يعني أن تكون مدفُوعاً برغبة كونيةٍ على ممارسة الرحمة دون انتظار آثار لدى الآخر.
والسؤال: هل يمكن إلغاء تلك الأشياء من مفهوم الرحمة أم أنه مفهوم مغاير؟! في الحقيقة تعد الرحمة مفهوماً مغايراً من زاويته الكونية كما نوهت. ولذلك كان القرآن دقيقاً عندما استعمل ألفاظاً لا تلوي على عنفٍ، وأنه قد أسند دلالة الرحمة إلى الله ذاتاً مطلقاً وتوحيداً بلا أدنى تصور آخر. لأنَّه بتلك العملية قد رفع من المعاني ما قد يضُر إنسانياً بالرحمة. لأن العنصر الإنساني الذي يجب أن يتعامل مع الرحمة كتعامل الله معها قد يحوّل الرحمة إلى قسوةٍ. وقد يحدث ذلك ما لم يعِ الإنسان مساحة القسوة التي تضر بنفسه قبل سواه. والوعي ها هنا في غاية الأهمية لكيلا يُصبح مرهوناً بما يقيده ويعتبره مبرراً لعوامل القصور من جهةٍ. ومن جهةٍ أخرى، إذا كان الذي يستحق الرحمة هو الباذل لها على الأصالة، فمن باب أولى أن تكون عامة على الجميع.
إن الإله أراد أن يضرب مثالاً بذاته كي يقترب الإنسان منها وإن كان لا يستطيع على وجه القطع. لكنها مثال قابل للمعرفة ويظل مثالاً بارزاً للمسير نحوه في كل الأحوال، إنَّ الرحمة الإلهية مسيرةٌ لا تتوقف نحو العطاء. المبرر أن الرحمة من جنس المفاهيم التي لا يألفها البشر. فنحن نبذل شيئاً من أجل الحصول على شيء ولو نفسياً، ولكن الرحمة تمارس تعميماً من نوع جديد. وعدم الألفة لا يعني التعجيز، ولكنه يعبر عن الجانب غير المفكر فيه لدى الإنسان. وكأن عدم الألفة تقول دوماً: لماذا لا نفكر بطريقةٍ أخرى؟ وبأي أسلوبٍ تقلّب ما نُؤمن به لصالح مستوى آخر أكثر عموميةً باستمرار؟ ومن ثمَّ، فالرحمة تحمل المفاجأة المذهلة حتى لمن يقوم بها. فهذا من دواعي المغامرة ومن دواعي البذل والشغف بالمزيد منها. ولذلك تشتغل الرحمة على ما يعجز عنه البشر أحياناً، حتى يصبح إنجازُه لها قادراً على تعويض كل عجز ممكن.
وتقتضي كونية المعنى في الاسلام فتح آفاق المسلمين على أنْ يكونوا مؤهلين لممارسة دور (الإنسان الكوني)، فما لم يوجد المعنى بهذا العمق، لن يفهم مسلم واحد: كيف يخرج من محددات المفاهيم إلى نوع مغاير منها؟ وفي ذلك الاتجاه، لم يمر المسلمون في كل مراحلهم بهذا اللون من البشر.
أولاً: (المسلم الفرد)، حيث ظهر هناك في بداية نزول الرسالة تبعاً للإختلاط بالمجتمع المحيط، والقضية البارزة كانت تأكيد وتدعيم الدعوة بصورة فردية. وكانت الأولوية معطَّاة لترسيخ فكرة الإسلام تمشياً مع المرحلة الأولى من المجتمع. وظهر تأكيد متواصل على الدين قبل الفرد وعلى الاعتقاد قبل الإنسان، مع أن نماذج المسلمين الأوائل قد فهموا الفحوى من ذلك ولم يتركوا الجانب الإنساني، وظهرت في بعض الممارسات العامة تجاه غير المسلمين.
ثانياً: (المسلم الداعية)، وهو المسؤول عن نشر الدعوة وممارستها في جوانب المجتمع المكي والمدني. وذلك النموذج قد ظهر مع تعقد الحياة وتداخل الثقافات، فاقتضت حركة الإسلام نحو الكون لأن يبدو الداعية أسلوباً بشرياً تجاه الآخر. وهذا النموذج كانت له سماته الخاصة. وربما هذا النموذج من أخطر نماذج المسلمين لكونه قد استمر طويلاً حتى اللحظة وأخذ أشكالاً متنوعة في مجالات المعرفة والتعليم والثقافة والإقتصاد.
ثالثاً: (المسلم السياسي)، وهو الذي انشغل سياسياً بإقامة دولة الاسلام في الحضر والممالك والإمصار، وقد أخذت الدولتان العباسية والأموية في تدعيم هذا النمط البشري الذي يدافع عن الدولة ويسيس القضايا لصالح السلطة الحاكمة. وهو الحشود التي تتنادي لدعم القضايا والدفاع عن الإسلام وهو ذاته الحشود التي تزظفها الأنظمة لغير إرادة الإسلام الكوني.
رابعاً: (المسلم السياسي المؤدلج)، وهو نموذج قديم كان موجوداً في الدولة الفاطمية من حيث قيامها على فكرة اللاهوت السياسي الشيعي. وربما هي الدولة التي تجسدت فيها الإيديولوجيا كحركة وإيقاع للواقع والحكم وطرائق التعبير عن رؤى العالم والحياة.
خامساً: (الملسم الحركي المؤدلّج)، وهو ما ظهرَ مع الجماعات الاسلامية والأذرع الحركية التي تنفذ عملياتها على الأرض. وهي تعتبر نفسها الجانب الكوني من الإسلام وتختصر الإسلام في كيانها.
سادساً: (المسلم المنكفئ على ذاته)، وهو الغارق في تصوراته الجزئية والتي التهمت وعيه وطرائق تفكيره ونمط عيشه. ولقد كان ذلك رد فعل و نتيجة ممارسات الأنظمة السياسية الموظفة للدين ونتيجة تحول الإسلام إلى وسيلةٍ للتربح كما لدى الدعاة والفقهاء ورجال السياسة في عصر لا يمتلكون مفاتيحه وتطوراته الحضارية.
كل تلك الأنماط السابقة فشلت فشلاً ذريعاً في أنْ تواكب مفهوم (إنسان الرحمة) بكل معالمه الثقافة والمعرفية والحضارية والدينية. وهو الإنسان القائم بدلالة الرحمة وممارساتها بحسب الفهم الكوني لوجود الإنسانية الراهنة في التاريخ والحضارة مع كل عصر. وبجانب ذلك لم يتطور الجانب الإنساني في المسلم، حتى يواكب طاقات المفاهيم الكونية الخاصة بالاسلام.
ولندقق سنجد أنَّ مفهوم الرحمة أكبر مما يستوعبه مسلم بهذا النمط أو ذاك، لأنها تخص كل العالم، وهذا المعنى هو ما يتعثر المسلم المعاصر في دروبه الواسعة والوعرة، فهو مسلم لم يخترج نمطاً من العيش المعاصر يلائم ما يمتلك من مفاهيم. ولم يخترع مفاهيم كونية تلائم وجوده المنطوي على مفارقة التأسيس والإنطلاق.
ولذلك فالمسلم الكوني هو إنسان في المقام الأول، ويجب على الفكر الإسلامي أن يناقش قضايا هذا الإنسان ويشرّع لوجوده ويطرح أفكاراً تخصه تحديداً، لأن المستقبل ينتظره في نقطة بعيدة عن كل ما مضى. إن المسلم الكوني ما لم ينمو ويتطور عبر الحياة، فلن يعود قادراً على مواكبه الإسلام قبل غيره، ولن يواصل وجوده الحيوي في العالم.
إنَّ مفهوم الرحمة يشد كيان المسلمين من الأمام لا الخلف، من الأبعد لا الأقرب. وهذا هو الفارق بين قدرة الإنسان على التجاوز والتفكير بصورة جديدة. وغياب المسلم الكوني مشكلته في عدم القدرة على نحت أسلوب داخل التراث الإسلامي يخص هذا الجانب الأوسع. ولو نظرنا- من باب التوضيح- إلى فكر محي الدين بن عربي لوجدناه يردد أصداء هذا الإنسان الكوني بكل سلالةٍ وبلاغة فكرٍ لا بلاغة لفظٍ وحسب. وكذلك فلسفة جلال الدين الرومي حيث يتكلم عن الإنسان والحياة والموت والحب والآخر بلغة كونيةٍ تقطر صفاءً ونقاءً. ولعلَّ ذلك ما يجعل التصوف دون غيره من مجالات الفكر الإسلامي سابقاً نحو فكر جديد، حتى وإن نظر إليه البعض نظرة قاصرة. إن التصوف الكوني من تلك الزاوية - وكل تصوف أصيل لا يخول من نبرة كونية- قد نحت مفاهيم بإمكانها أن تمتد الرحمة إلى كامل عروق الحياة.
وبخلاف ذلك، سنجد نمط الحياة التي يشرعها المسلمون لغيرهم من البشر لم تكُّن على مستوى التوقعات الكونية. وهذا مجال أكثر تعقيداً، لأنّه مرتبط بشق طرق أخرى للحياة، وأنْ تخطو نحو الأكثر تطوراً على الصعيد الكوني. علماً بأن تراكم الحيوات الإنسانية يجعل المهمة شاقة، ويفترض أنْ يبدع المسلمون في تجديد واقعهم وتقديم بدائل كونية جاذبة.
***
د. سامي عبد العال
.......................
[1]- John R. Searle, Expression and Meaning, Studies in the Theory of Speech Acts , (New York ; Cambridge University Press 1979) ,PP30-33.
[2]-Tariq Jaffer, Rāzī: Master of Qurʾānic Interpretation and Theological Reasoning, (New York and Oxford: Oxford University Press 2015) , PP 40-41.