أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: هل السعي وراء المثالية خطير ومؤذي؟
في مقال له عام 1988 حول الفلسفة السياسية بعنوان "السعي وراء المُثل" ينظر الفيلسوف اسحق برلين (1909-1997) بالنزعة الحالية للبحث عن نوع من "الخير المطلق". من خلال ملاحظاته في الاخلاق والسياسة، وجد ان العديد من الناس يسعون لتأسيس مُثل. ما هو الخير؟ ما هو النظام الاخلاقي؟ ما هو المجتمع المثالي؟. يجادل برلين ان هذا الاتجاه هو في الحقيقة مضلل: المُثل غير موجودة. لا توجد هناك طريقة واحدة لقيادة الناس بشكل تام او قيادة حياة عقلانية تامة.(1)
من الخطأ مثلاً تصوّر أوقات تنويرية في تاريخ اوربا – اليونان القديمة، النهضة، التنوير – باعتبارها تمثل مجموعة مشتركة من القيم، تشبه خيطا واحدا من التفكير في الكفاح ضد الجهل. يرى برلين، ان هذه الأزمان التنويرية "البُقع المشرقة للتقدم" جميعها غير منسجمة في الأساس مع بعضها البعض. وبينما نحن ننظر باعجاب للاعمال العظيمة لليونان القديمة، لكننا لا نستطيع مقارنتها مع أعمالنا لأنها كانت نتاجا لمجموعة مختلفة كليا من حيث القيم واللغة والناس.
اذا اردنا فهم نتاجات الثقافات الماضية، نحن لا نستطيع القيام بهذا من خلال عدسة قيمنا الحالية. نحن لا يجب ان نجبر الثقافات الماضية وقولبتها ضمن اشكال من "الدولة الجيدة" مقابل "الدولة السيئة". بدلا من ذلك، نحن يجب ان نعترف بان هناك طرقا متعددة لتنظيم المجتمع وحيث الناس في تلك المجتمعات يعتقدون انهم عموما يعيشون حياة عقلانية.
هذه ليست أخلاقية نسبية، حسب برلين، انها تعددية أخلاقية. هناك عدة طرق مختلفة لنعيش حياة جيدة، الفكرة بان هناك طريقة تامة واحدة للخير هي غير متماسكة. الإعتراف باننا نستطيع تجسيد الكثير من مختلف القيم هو جزء جوهري لما نعنيه بحياة انسانية حرة وعقلانية. اولئك الذين يستسلمون للدوغما ربما يجعلون أنفسهم افضل، لكنهم ليسوا عقلانيين. فكما يقول برلين:
"سعداء اولئك الذين يعيشون تحت نظام يقبلون به بدون سؤال. منْ الذي يطيع بحريته أوامر القادة الروحانيين او الزمنيين، الذين تُقبل كلماتهم كقانون ملزم، او اولئك الذين وصلوا، بطرقهم الخاصة، الى قناعات واضحة لا تهتز حول ماذا يعملون و ماذا يجب ان يكونوا . انا استطيع فقط القول ان اولئك الذين يستلقون على أسرة مريحة من الدوغما هم ضحايا لأشكال من قصر النظر الذاتي، ومضات من الرضا ولكن ليس لفهم ما يجب ان يكون عليه الانسان".
لا وجود لليوتوبيا
انطلاقا من التعددية الأخلاقية، يتبع ذلك ان الطموح لخلق دولة طوباوية مثالية ليس فقط سخيفا وانما مؤذيا. لا وجود هناك لدولة تامة، لا وجود لحل نهائي. لماذا؟ لأن كل جيل انساني يواجه مجموعة جديدة من المشاكل ويستجيب بأنواع جديدة من القيم والحلول. يكتب برلين:
"الأطفال حصلوا على ما اشتاق اليه آبائهم وأجدادهم من حرية اكبر ورفاهية مادية اكبر ومجتمع اكثر عدالة، لكن الامراض القديمة نُسيت، والاطفال يواجهون مشاكل جديدة نجمت بفعل حلول المشاكل القديمة، وهذه، حتى لو كانت حُلّت بدورها، لكنها تولّد مواقفا جديدة ومعها متطلبات جديدة وهكذا الى الأبد وبشكل لا يمكن التنبؤ به".
المجتمع باستمرار يجب ان يتكيف مع التحديات الجديدة طبقا لبرلين. لو دخلنا الى دولة "مثالية" قاسية، نحن لانزال غير مهيئين جيدا للاستجابة لهذه التحديات. "الطوباويات لها قيمها"- "لا شيء يمدد بشكل رائع الآفاق التصورية لإمكانات الانسان – لكنه كمرشد للسلوك يمكنه ان يثبت انه قاتل تماما".
لماذا قاتل؟ كل شخص يخدع نفسه بالتفكير ان هناك نسخة "نهائية" لمجتمع تقود جميع افراده للازدهار– وهو ما لا يقومون به للحصول على مثل هذا الهدف؟ اذا كانت المكافأة هي "كل الناس سيكونون سعداء الى الأبد"، أي فظاعة لايمكن تبريرها للحصول على ذلك؟ رعب القرن العشرين يوفر اجوبة لمثل هذه الأسئلة حسبما يذكر برلين.
وعد بمستقبل مجيد لتبرير حاضر مرعب
يتذكر برلين مقال عام 1848 للراديكالي الروسي الكسندر هيرزون بعنوان (من الشاطئ الآخر)، فيه ينتقد هيرزون اولئك الذين يدعون الى مستقبل مجيد لتبرير حاضر مرعب. هو يكتب:
"اذا كان التقدم هدفا، فلمنْ نحن نعمل؟ هل انتم حقا ترغبون بلوم الناس الأحياء اليوم على الدور المحزن للنصب المنحوتة في قواعد بنايات المسارح للرقص فوقها في يوم ما .. او لعبيد في سفينة بائسة يغوصون الى ركبهم في الوحل، يسحبون قاربا مرددين كلمات متواضعة "التقدم في المستقبل"؟ .. الهدف البعيد الى ما لانهاية هو ليس هدفا، انما فقط خداع، الهدف يجب ان يكون أقرب – او على الأقل اجور العمل او متعة العمل المنجز ...".
برلين يعلق على هذا المقطع بالقول:
"الشيء الوحيد الذي نحن متأكدين منه هو حقيقة التضحية، الموت والميت. لكن المثل الذي لأجله يموتون يبقى غير مدركا. البيض يتكسر، وما يتكسر منه عادة يكبر، لكن صحن البيض يبقى غير مرئي. التضحيات لأهداف قصيرة المدى، والإكراه، ربما تكون مبررة اذا كانت محنة الناس شديدة بما يكفي وتتطلب حقا مثل هذه المقاييس. لكن الهوليكوست كانت لأجل اهداف بعيدة، انها سخرية قاسية بكل ما يعتز به الرجال، الآن وفي كل الأوقات".
كيف يجب ان ننظم المجتمع؟
اذا لم تكن الطريقة طوباوية، فما هي؟ هل نتخلى عن جميع المثاليات؟ هل يجب ان نطمح للكثير؟ يعتقد برلين ان أفضل ما يمكن الكفاح لأجله هو المحافظة على "توازن غير مستقر"، فيه نبني مجتمعا بطرق تساعدنا في ضمان عدم قدرة أي شخص او حزب في السيطرة الكلية على السلطة وفرض رؤيتهم الطوباوية على مواطنيهم.
قد لا تبدو هذه نسخة مثيرة كحالة مثالية، لكن برلين يعتقد انها شرط مسبق لإنتاج مجتمع لائق وسلوك مقبول أخلاقيا. السؤال متروك للقارئ هل يؤمن بالتعددية الأخلاقية وأخطار اليوتوبيا ام انه يؤمن بان الصيغ المثالية توفر زخما للتقدم الانساني؟.
***
حاتم حميد محسن
..................
الهوامش
(1) اسحق برلين فيلسوف ومؤرخ روسي- بريطاني، عُرف بافكاره المدافعة عن الليبرالية والتعددية، ومعارضته الشرسة للتطرف السياسي.