أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: الاختلاف بين ديفد هيوم وعمانوئيل كانط حول السببية؟
كيف اختلف ديفد هيوم مع كانط في نظرية السببية؟ هيوم وكانط ليسا فقط الشخصيتين الأكثر أهمية في تاريخ الفلسفة، وانما هما الشخصان اللذان تترابط أعمالهما بعمق. في الحقيقة، لم توضع مكانة هيوم بشكلها الصحيح، فقد اُنزلت الى مرتبة "سلف كانط" بدلا من اعتباره فيلسوفا أصليا ومقنعا بحد ذاته. وبصرف النظر عن ذلك، كان فهم كانط يعني فهم هيوم، وفهم هيوم يعني فهم كانط.
رد فعل كانط الفلسفي
ان تاريخ الفلسفة هو تاريخ ردود الأفعال. هذه عبارة مكررة لكنها تستحق التكرارهنا. لا يوجد في أي تخصص انساني أخر مثل هذا الشكل القوي من الاستجابة. الوعي بالانتساب والوراثة وعلاقات الإستجابة لاتنفصل عن الفعالية الفلسفية. انه من الصعب النقاش بان أي علاقة رد فلسفي تستحق انتباها أكثر من تلك التي بين ديفد هيوم وكانط خاصة العلاقة في تعاملهما مع موضوع السببية.
هناك ثلاثة أسباب لأهمية هذه العلاقة وما تستحقه من انتباه.
1- هما أكثر الفلاسفة الحديثين أهمية من حيث اتّساع وتميّز عملهما الفلسفي، ومن حيث الكيفية التي اثّرت بها أعمالهما.
2- العلاقة بين عمل هيوم وعمل كانط كانت مباشرة ولايمكن إنكارها. كما سنرى، كان كانط واضحا وبشكل استثنائي حول مديونيته لديفد هيوم، وللتأثير الواسع لهيوم على تطور كانط الفلسفي.
3- رغم ان تأثير هيوم على كانط لا خلاف فيه، لكن ظروف ذلك التأثير من الصعب جدا تحديدها. لا يتفق الفلاسفة ليس فقط على ما تعلّمه كانط من هيوم وانما على ماذا قال هيوم وكانط بشكل منفصل عن السببية.
تفسير هيوم للسببية
لا يتسع المقام هنا لتلخيص مختلف تفسيرات هيوم للسببية، لذا فان بيانا مختصرا للتفسير التقليدي يمكن ان يكون كافيا. نظرية هيوم (1711-1776) في السببية تعلن بان علاقات السبب والنتيجة ليست نتاجا لقانون طبيعي او حقيقة كونية وانما هما ارتكزا على ضرورة اننا نربط أحداثا اعتمادا على التجربة. هذا يعني اننا عندما نلاحظ حدوث (س) قبل (ص)، سنفترض ان (س) هو الذي سبّب (ص)، وهذا الافتراض يرتكز على التجربة وليس على ارتباط متأصل بين الحدثين. هيوم جادل بان السببية لا توجد في العالم المادي، وانما هي ببساطة وهم وبناء خُلق في أذهاننا:
"الذهن لا يمكن له ابداً ان يجد نتيجة في السبب المُفترض مهما كانت دقة الاختبار والتمحيص. لأن النتيجة هي مختلفة كليا عن السبب، وبالتالي لا يمكن أبدا اكتشافها فيه. الحركة في كرة البليارد الثانية تختلف جدا عن الحركة في الكرة الاولى، ولا يوجد أي شيء في الاولى ما يشير الى أبسط تلميح عن الكرة الثانية. عندما أرى مثلا، كرة البليارد تتحرك بخط مستقيم نحو كرة اخرى، وأفترض ان حركة الكرة الثانية حدثت كنتيجة لإتصالهما او إندفاعهما، فانا لا أتصور ان مائة حدث مختلف آخر ايضا ستتبع السبب وبنفس الطريقة؟ ... كل هذه الافتراضات منسجمة وقابلة للتصور". هيوم رأى اننا طالما لا نلاحظ ابدا السببية وانما فقط حدثا يتبع آخر، فان عقيدتنا في السببية هي ناتجة عن عادة لا اكثر، او تعميم لإرتباط متكرر بين حدثين، هذه السببية ليست الاّ وهماً فهي مادة للايمان وليست جزءاً من المعرفة.
تاثير ديفد هيوم على عمانوئيل كانط (1724-1804)
تأثير أعمال هيوم على كانط كانت واضحة. هنا واحد من أشهر المقاطع في أعمال كانط: " انا أعترف طوعاً بذكرى ديفد هيوم التي أوقفت سباتي الدوغمائي قبل عدة سنوات وأعطت لتحقيقاتي في حقل الفلسفة التأملية اتجاها مختلف كليا".
وفي مكان آخر، نجد كانط واضح جدا حول تأثير أعمال هيوم عليه: "لم يحدث حادث وله تأثير حاسم على مصير هذا العلم أكثر من هجوم ديفد هيوم عليه ... هيوم انطلق اساسا من مفهوم ميتافيزيقي معين لكنه أكثر أهمية، أعني ذلك الإرتباط بين السبب والنتيجة". انه مهم وواضح من البداية ان كانط لا يبدو يقبل بتفسير هيوم للسببية. في الحقيقة، تأثير هيوم على كانط تجسّد بطرح تحديا فلسفيا: وهو ازالة "الشك الهيومي تماما".
الحل لمشكلة هيوم
وضع كانط نصب عينيه طريقة لحل مشكلة هيوم من شأنها ان تحافظ على ما إعتقد به من "مفاهيم خالصة للفهم" وصلاحية القوانين العامة للطبيعة. للقيام بهذا، هو إعتقد ان هذه المفاهيم يجب إعتبارها تنطبق فقط على تجاربنا، وهو سعى للتحقيق بالطرق التي تؤسس بها هذه المفاهيم إمكانية التجربة. خطة كانط كانت كالتالي: هذه المفاهيم ليس كما اعتقد هيوم، تُشتق من التجربة، وانما "التجربة تُشتق منها"،نوع معكوس تماما لإرتباط لم يحدث أبداً لهيوم".
هو يتعامل بجدية مع ادّعاء هيوم بان المظهر لا يمكن بذاته ان يوفر أرضية لأي ضرورة لتعاقب المظاهر. "المظاهر بالتأكيد توفر الحالات التي تكون فيها القاعدة ممكنة طبقا لما يحدث عادة، ولكن لا يكون التعاقب ضروريا ابدا، ولهذا السبب، الامر يتعلق بتوليفة السبب والنتيجة الذي لا يمكن ابدا التعبير عنه تجريبيا، أعني، ان النتيجة لا تتبع ببساطة السبب وانما تُطرح من خلاله وتنطلق منه".
المعرفة القبلية لعمانوئيل كانط Synthetic a priori
المعرفة القبلية هي المعرفة التي نمتلكها بداهة وبشكل مستقل عن التجربة، مثل المثلث له ثلاثة اضلاع، او الرجال هم ذكور، الزمن لا يعود للوراء، او كل شيء له سبب. يقول كانط بدون مبدأ السببية سوف لا نستطيع التمييز بين التجربة التي تتعلق بنا والتجربة التي تتصل بالعالم الخارجي (مستقلة عنا)، سوف لن نتمكن من التعامل مع بعض التجارب على انها من صنع الذهن، وبعضها على انها تصورات لعالم مستقل عنا. فكرة كانط هي لكي نعمل هذا التمييز يجب ان يكون هناك ترتيبين اثنين للتجربة. واحد هو الذي يحدث فينا، والاخر هو الذي يحدث بشكل مستقل عنا. عندما ننظر الى منزل نستطيع اختيار الرؤية من الباب او من السياج او من الأعلى، لكن اذا كان هناك قارب مجاور يبحر في النهر، فلابد ان ننظر اولا الى مقدمة القارب لأنها اول ما يظهر لنا. بدون مبدأ السببية لا نستطيع التمييز بين الحالتين من التجربة. حقائق التجربة لا تنطوي فقط على تأكيد التجربة، وانما تتضمن أحكاما قبلية (تسير من العام الى الخاص او من السبب الى النتيجة). ... "انا اطرح سؤالي في هذا الشكل المبسط: كيف يمكن ان افهم حدثا مثل، لأن شيء ما موجود، فان شيئا آخر يجب ان يكون هناك؟". تحدّي هيوم للعقل هو، في الواقع، تحدي متمثل بكيفية اخذ العلاقة السببية الضرورية بالاعتبار. الحل الكانطي لهذه المشكلة هو تأسيس فرضية المعرفة القبلية، وهو ليس المفهوم الذي نعرفه بالعقل، ولا هو تحليل لما احتواه الجزء الثاني من الفرضية (predicate). فرضية المعرفة القبلية هي الاساس الذي عليه نكون قادرين على معرفة شيء جديد من تحليل تجربة خالصة، والطريقة الوحيدة التي نستطيع بها ان نصل للحقائق حول العالم هي ضرورية، لكنها لا ترتكز على اعتبارات منطقية.
ضرورة السببية: حل عمانوئيل كانط
طرح كانط الشكوك في السببية في كتابه نقد العقل المحض، هو يرى ان مفهوم السببية ليس شيئا نستطيع ملاحظته من خلال التجربة وانما هو ضروري. رؤية كانط للسببية هي ببساطة ان "التعاقب ضروري، ... النتيجة ليست ببساطة تتبع السبب وانما تُطرح من خلاله وتنطلق منه .. واضح جدا ان مفهوم السبب يحتوي على مفهوم ضرورة الارتباط مع النتيجة وشمولية صارمة للقاعدة، ان مفهوم السبب سيضيع كليا لو تظاهر أحد باشتقاقه كما فعل هيوم، من ارتباط متكرر مع ما يحدث سلفا، وبالتالي من العرف الناجم من الربط بين المظاهر".
علماء معاصرون مثل جراسيلا دي بيريس Graciela De Pierris و مايكل فريدمان Michael Friedman يوضحان استجابة كانط في الطريقة التالية: "هيوم يؤكد ان فكرة النتيجة ليست متضمنة في فكرة السبب (في لغة كانط، العلاقة ليست تحليلية)، وبهذا، طبقا لهيوم، لايمكن ابدا التعرف عليها قبلياً. لذلك نحن نحتاج التجربة بالمعنى الهيومي لكي نطرح اي ادّعاء سببي".
بالمقابل، كانط يحاول ان يقبل ويدمج عنصر الشك الهيومي بدون أي تأثيرات سلبية على قدرتنا لفهم العالم، يعني – بالنسبة لكانط – ان ننسب الموضوعية لمفهومنا عنه .
هيوم والعلوم
من الواضح ان العلوم من فيزياء وكيمياء وغيرها تعتمد على مبدأ السببية، فكيف سيكون الحال عندما تُنكر السببية؟ هيوم لا يقترح التخلي عن العلوم، هو يقترح ان علومنا ترتكز على افتراضات قائمة على الايمان وليس على العقل، وهذا يجب ان يقلقنا. العقل لايمكنه اثبات عقائدنا الاساسية حول كيفية عمل الكون. نحن يجب ان نتخلى عن الادّعاء بان عقلنا والعلوم يعطيان لنا معرفة تامة. بدلا من ذلك، نحن يجب ان نقبل بان المعرفة الانسانية ترتكز على افكار غير دقيقة مبنية على انطباعات عابرة تشكلت بالعادات الاجتماعية. هو لم يكن ضد العلم وانما اصبح واعيا بان العلم يضع افتراضات تقوم على أرضية رخوة. مشكلة العلم هو ان كل المعتقدات العلمية في القوانين تفترض ان الاشياء والقوى التي عملت ذات الشيء في الماضي هي تعمل الآن وسوف تستمر ذاتها بنفس العمل في المستقبل. ماذا لو لم يكن هذا هو الموقف؟ يشير هيوم انه لو بدأت الجاذبية تعمل بشكل مختلف غدا، هذا سوف لن يكون مخالفا للمنطق.
***
حاتم حميد محسن
......................
المصادر:
1-David Hume and Immanuel Kant on causation, the collector, 17 May 2023
2-David Hume on causality and science, Douglas Giles, Inserting philosophy, Sep1, 2021.