أقلام فكرية
علي أسعد وطفة: الصراع الطبقي في المدرسة
"لقد أسسوا المدارس، ليعلموننا كيف نقول نعم بلغتهم" (من رواية موسم الهجرة للشمال، للأديب السوداني، الطيب الصالح ).
"يا له من أب مغفل هذا الذي يرسل ابنه إلى المدرسة من أجل غاية واحدة هي أن يتعلم ما يفكر فيه المعلم" القديس أوغسطين.
***
انطلق أفلاطون Platon (427-348ق.م) في بناء نظريته التربوية من نموذج سياسي قوامه بناء مدينة عادلة وجمهورية فاضلة تحقيق العدالة والتوازن الاجتماعي وتعمل على بناء القيم الأخلاقية عند المواطن. اعتقد أفلاطون أن الشرور لن تتوقف أبدا، إلا إذا استطاع الفلاسفة والحكماء الوصول إلى سدة الحكم، حيث يمكنهم وحدهم استئصال الشرور وتحقيق العدالة الاجتماعية. فالفلسفة الحقّة كما يراها أفلاطون هي هذه التي تؤسس للعدالة الاجتماعية في مجال الحياة العامة كما هو الحال في مجال الحياة الخاصة. ولكن العدالة الاجتماعية تأخذ في منظور أفلاطون طابعا طبقيا، فالمدينة المثالية، التي يصفها بالجمهورية(1) La république تقوم على أساس تقسيم العمل، وهو تقسيم يعبر عن البنية الهرمية أو الطبقية للنفس الإنسانية التي تتمايز في تقاطعات ثلاثة: تقاطع الشهوة والغريزة والميل وفضيلتها العفة، وتقاطع الميول الانفعالية التي تتمثل في القلب بنزعاته وشطحاته وفضيلته الشجاعة، ثم في تقاطع العقل الذي يتفتق بالتفكير والتأمل والفهم وشميلته الحكمة. وتأسيسا على هذا التقسيم وعلى منواله تتموضع في المجتمع ثلاث طبقات اجتماعية مماثلة لما في الجسد: طبقة المنتجين، وطبقة الحراس، ومن ثم طبقة الحكام الفلاسفة. ومن أجل التخلص من كل أشكال الفوضى والظلم يجب تحقيق التلاحم الوظيفي بين مكونات هذا التقسيم حيث تتكامل قوة القلب مع حكمة العقل واندفاعات الميول الحيوية وهذا يعني بالضرورة أن يأخذ العقل مكان الهيمنة والسيطرة. وإذا كان الفلاسفة يرمزون إلى الحكمة فوظيفتهم تحقيق العدالة عبر الهيمنة والسيطرة للقضاء على كل مفاسد الحياة ومظالمها.
فالتربية هنا تتحول إلى عملية اصطفائية تهدف تدريجيا إلى الفصل بين طبقة الجند، وطبقة الصناع، وطبقة الفلاسفة التي يجب أن تسود وتهيمن. والبرنامج التربوي عند أفلاطون يبدأ من السابعة بالرياضة من أجل الجسد، والموسيقى من أجل الروح، ومن ثم يضاف إلى ذلك الأدب ( ويستبعد الشعر من التربية، وذلك لأنه يحمل في طياته الخرافات والأساطير والتي من شأنها أن تدفع الإنسان بعيدا عن البحث العقلي والمعرفي)، و بالتالي فإن الرياضيات توظف لإيقاظ العقل، هذا وتلعب الرياضيات دورا كبيرا في اصطفاء الشباب من اجل متابعة الدراسات العليا وذلك بعد أداء الخدمة العسكرية الإلزامية، ويتم في الثلاثين من العمر اصطفاء أخير يهدف إلى إيجاد فريق من الفلاسفة المنتجين الذين يمارسون أعمال الحكم في المدينة، وبعد أن يصل هؤلاء الفلاسفة إلى الخمسين ممن العمر فإنهم وبعد امتلاكهم للحكمة الفردية يمكنهم ممارسة شؤون الحكم.
بقي تفكير أفلاطون على مر العصور نوعا من الأيتوبيا، فالبرنامج الذي يرسمه يخرج عن إمكانية التحقق عند الأثينيين، وذلك لأن التعليم كان يهدف إلى تحقيق غايات فورية، فعلى سبيل المثال كان التعليم يهدف إلى إعداد كوادر سياسية، وكانت هذه الكوادر تمثل حاجة حقيقية بالنسبة للحياة الاجتماعية في أثينا (2).
واستطاع فريق آخر من الفلاسفة أن يحقق نجاحا أفضل في بناء نظرياتهم التربوية، أي بمعنى أن أفكارهم كانت أكثر واقعية وقابلية للتطبيق في المجال الاجتماعي. ويتجلى هذا النجاح في الآثار التي تركها كل من كارل ماركس Marxوكونفشيوس Confucius (551 env.-479 env. av. J.-C.)، بوصفهما نموذجا تاريخيا تربويا بالغ الأهمية، حيث تحولت نظرياتهما التربوية، بعد موتهما طبعا، إلى أفكار ونظريات تربوية رسمية، وعندما نقارن بين أفكارهما وأفكار أفلاطون يمكننا أن نقول أن العقيدة الفلسفية أو الدينية تصبح عقيدة رسمية للدولة عندما تلبي هذه العقيدة حاجة السلطة أو الطبقة الاجتماعية التي تسود وتهيمن فـ كونفشيوس كان يبشر بإرادة سماوية مهيأة لتحقيق الأمن الاستقرار وسيادة النظام القائم، ولكنه كان يؤكد في الوقت نفسه عل أهمية التعليم المفتوح لجميع الطبقات الاجتماعية دون تمييز فلكل فرد في المجتمع (بالمعنى الضيق للكلمة، حيث لا يشمل ذلك النساء) كان له الحق في أن يصل إلى أعلى المراتب الاجتماعية ولكن بشرط أن يحصل على تربية وتعليم كافيين. وكانت هذه الفكرة ثورية جدا بالنسبة لعصر كونفشيوس حيث اقترحت هذه الفكرة أن يجري النظام السائد مسابقات أدبية عالية المستوى من أجل اختيار موظفيه(3).
هذه الفكرة البيروقراطية بدأت تجد صداها في النظام القائم، لقد وجدت السلطات الحاكمة في الكونفوشيوسية تعبيرا عن أيديولوجيتها الكاملة، وذلك لأن تصورات الكونفوشيوسية بدأت تعزز الامتيازات الخاصة للحاكم، وتعمل على إلغاء إمكانيات ثورة الفلاحين ونضمن صعود الطبقة التجارية. فالتاريخ بين لنا كيف تحدث( أو لا تحدث) عملية الانتقال من النظرية المعيارية إلى النظرية العيانية المجسدة في إطار الواقع، وذلك يعني كيفية تحول هذه النظريات إلى أدوات لعملية الإنتاج، وإعادة الإنتاج الاجتماعي.
انطلاقا من وجهة النظر هذه يمكن تطوير منهج معالجة إشكالية النظرية التربوية، فالنظرية التربوية تعزز وجودها من خلال التحليل الأمبيريقي وهذا لا يعني أنها لا تنطلق من فرضيات أو أن المعطيات محايدة، ومع ذلك فهي تسعى أيضا إلى الكشف.
لم تظهر حتى الآن نظرية شمولية بمعنى أن تكون صالحة لكل المجتمعات أو لأغلبها، وذلك في مجال الزمان والمكان. فالنظريات القائمة هي نظريات جزئية ومحلية، هي نظريات جزئية لأنها تتناول جانبا من الحقيقة، وهي محلية لأنها غالبا تقوم على أساس تجربة معاشة في مجتمع محدود (ولا سيما في المجتمعات الصناعية الغربية) ومثال ذلك نظريات إعادة الإنتاج التي طرحت في الساحة الفكرية من قبل الماركسيين. ومهما يكن أمر هذه النظريات فإنها تختلف في المستوى العقائدي حيث يركز بعضها على مبدأي التوازن والتكامل، بينما يركز بعضها الآخر على مبدأ الصراع والهيمنة. وبعض النظريات المعاصرة في التربية يستمد جوهره من ماكس فيبر M.weber فيما يتعلق بالسلطة والمركز، بينما تسعى بعض النظريات الأخرى لتحقيق -التوازن بين الماركسية والوظيفية، ولا يمكن لنا في هذا السياق، أن نستعرض الأدبيات المعاصرة، حول النظريات ويكفينا في هذا السياق أن نستعرض عرضا موجزا حول هذه القضية.
تشكل أعمال المفكر الفرنسي دوركهايم DURKHEIM (1917-1858) الإسهامات الوظيفية الأولى في مجال علم الاجتماع التربوي، ومن أهمها المحاضرات التي ألقاها في السوربون التي جمعت بعد موته من قبل أحد تلامذته والتي نشرت بعنوان التربية المجتمعEducation et sociologie (4) (5). ثم كتابه المعروف التربية الأخلاقيةL’éducation moral((6)، وأعماله المعنونة بالتطور التربوية في فرنساL’évolution pédagogique en France (7).
فالتربية بالنسبة لدوركهايم تمثل مبدأ الوحدة والتنوع في آن واحد، فالحد الأدنى من التجانس بين أفراد المجتمع ضروري لوجود المجتمع واستمراره، وبالتالي فإن التربية تعمل على بناء وتعزيز هذا التجانس بين أفراد المجتمع، وهي من أجل ذلك تغرس في نفوس الأطفال عناصر الوحدة والتجانس الضروري للحياة الاجتماعية، ولكن من جهة أخرى فإن التعاون والتكامل الاجتماعي، لا يمكنه أن يتم إلا من خلال وجود بعض التنوع داخل المجتمع، وهنا يأتي دور التربية التي تضمن وجود التنوع الضروري في المجتمع، وذلك عن طريق تنوعها هي بالذات وعن طريق تخصصها. وهذا يشير بالضرورة إلى ضرورة التقسيم الاجتماعي للعمل عبر التربية، فالفرد نفسه معني بالخضوع للمجتمع الذي يعيش فيه، والفعل الجماعي ينمي في كل واحد منا وعن طريق التربية أفضل ما يوجد لدينا ولا سيما الجوانب الإنسانية. ويبين دوركهايم في هذا الصدد أن الجوانب الجسدية والأخلاقية والعقلية التي تطورها التربية تتلون بطبيعة المجتمع، وهي تتغير عندما يتغير المجتمع عينه، ومع ذلك فإن دوركهايم لا يذهب بعيدا في تحليله، وذلك لأنه لا يطرح المسألة السياسية كما يجب ولا يحلل العلاقات الطبقية والصراع الطبقي في المجتمع بما ينطوي من عمليات وفعاليات تربوية. فالدولة تشكل وحدة مجردة كالمجتمع، ودورها هو ببساطة العمل على إبراز الجوانب الحضارية الجوهرية، ونقلها إلى الأجيال عن طريق المدرسة مثل: احترام العقل، والعلوم، الأفكار والعواطف التي توجد في أصل البنية الأخلاقية للمجتمع الديمقراطي، فصراع الطبقات له ينابيع ولا تكمن هذه الينابيع في تعارض المصالح فحسب بل في الفوضى التي تنجم عن تنظيم سيئ لطموحات الأفراد.
لقد كانت الميزة الأساسية لدوركهايم إضافة لملاحظاته التاريخية العامة هي أنه أبرز الطابع الاجتماعي للتربية وذلك على خلاف الرؤى الفردية التي كانت سائدة في عصره. وتكمن عبقريته أيضا في أنه أبرز بصورة تاريخية أن التعليم يتغير على إيقاع التغيرات الاجتماعية إذ يقول: "تكون التحولات التربوية دائما نتاجا ومؤشرا لتحولات اجتماعية قادرة على أن تفسر ما يجري في مجال التربية"، ومع ذلك فإنه لم يدرس الجوانب العكسية، أي دور التغير التربوي في حياة المجتمع.
وعلى هدى الخطوات الدوركهايمية يولي تالكوت بارسونو TALCOTT-PARSONS أهمية أكبر لمسألة التوازن: فالمجتمع كما يراه بارسونز أشبه ببني حية مركبة من مجموعات بنيوية أربعة هي: الأدوات التي تحدد نشاطات الأفراد (آباء معلمون..الخ)، ومن ثم الجماعات والمؤسسات مثل: العائلة والجامعة والمدرسة والمعايير، وأخيرا القيم. وهذه الوظائف الأربعة تسمح بتحقيق ديمومة التوازن الاجتماعي، وكل وظيفة من هذه الوظائف تتوافق مع العناصر الأربعة المذكورة، وهي وظيفة المحافظة على النماذج التي تتم من خلال قبول أحد أفراد المجتمع للقيم الاجتماعية السائدة، ووظيفة تكامل المعايير الاجتماعية ووظيفة العمل على تحقيق الأهداف والغايات بواسطة الهيئات الاجتماعية، وأخيرا وظيفة التكيف عن طريق ممارسة الأدوار. والمدرسة وفقا لهذه الرواية تقوم بعملية تحقيق الاندماج الاجتماعي والمحافظة على النماذج الثقافية، وهذا الاندماج يتم من خلال تأكيد عنصر الولاء للمجتمع وإعطاء البنية الاجتماعية المتناحرة (التقسيم الطبقي) الشرعية الضرورة لوجودها، ومن ثم المحافظة على النماذج الثقافية والقيم المحركة للأفراد. وقد يحدث في سياق ذلك ظهور نوع من الإكراهات الاجتماعية والضغوط الناجمة عن ضعف في عملية الدمج الاجتماعي ولكن ذلك سرعان ما يجد توازنه من جديد عبر عمليات تصويب قد تكون معلنة وخفية إلى حد ما(8). ففي مقالة له الصف المدرسي كنظام اجتماعي The school class as a social system عام 1959. يبين لنا بارسونز كيف يمكن للمدرسة أن تصبح وكالة رئيسية للتنشئة الاجتماعية، والاصطفاء الاجتماعي، وذلك في مجتمع تكنولوجي مثل الولايات المتحدة الأمريكية. فالمدرسة كما يعتقد بارسونز تغرس في الطلاب والتلاميذ قيم المجتمع والكفاءات والمواقف التي ترمز إلى الشروط الأولية والجوهرية التي تسمح لهؤلاء التلاميذ والطلاب بإنجاز أدوارهم المستقبلية. وهي في الوقت نفسه تعمل على توزيع القوى البشرية في مجال بنية الأدوار الاجتماعية، وبالتالي فإن عمليتي التنشئة الاجتماعية والاصطفاء الاجتماعي تبدأان من المرحلة الابتدائية، ومن ثم يأتي دور المدرسة الثانوية في إكمال الدور وتوزيع الشباب وفقا لأدائهم المدرسي في مجال الفروع العلمية الدراسية المختلفة والحياة العلمية، حيث يترتب على قسم من التلاميذ في هذه المرحلة وتحت تأثير الاصطفاء المدرسي أن ينوعوا في اختصاصاتهم ودراساتهم بينما يترتب على بعضهم الآخر أن يندمج في إطار الحياة المهنية في داخل المجتمع، وتحليل بارسونز يكاد يكون شاملا إلا أنه أهمل أهمية الأصل الاجتماعي وقدرته على تحديد مستويات النجاح المدرسي، كما لم يتطرق إلى دور الطبقات الاجتماعية في تحديد القيم الاجتماعية العامة.
وفي منتصف الطريق بين الماركسيين والوظيفيين يعلن كل من بورديو وباسرون Bourdieu Et Pasron (1970-1964)(9) أن المدرسة تعمل على إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية الطبقية، فهي تعيد إنتاج اللامساواة في التوزيع الرأسمالي الثقافي بين الطبقات الاجتماعية، فالاصطفاء يجري تحت تأثير القيم والمعايير التي تحددها الطبقة السائدة في المجتمع، مع أن هذه المعايير اعتباطية إلا أنها مشروعة وشرعية بالفعل التربوي، وهذه الوظيفة الأيديولوجية الجوهرية –بناء مشروعية النظام الاجتماعي القائم –تكون أكثر فعالية كلما عملت المدرسة على نفي وجود علاقات القوة في نسقها، وكلما نجحت في أن يؤمن لهؤلاء الذين يمارسون أو يخضعون (لعنفها الرمزي) بشرعية عملها ووظيفتها(10).
وعلى خلاف الوظيفيين يعلن الماركسيون أن المدرسة مكان للصراع الطبقي بين طبقتي البرجوازية والعمال، ومع أن ماركس لم يعمل على بناء نظرية تربوية فإن اهتمامه كان باديا في أعماله المختلفة. لقد درس ماركس الجوانب الاقتصادية بوصفها عناصر لقوة العمل المستغلة من قبل راس المال، ففي كتابه الصراع الطبقي في فرنساLes Luttes des Classes en France(11). يبحث ماركس في دور المدرسة كقوة روحية للإكراه، وهو في سياق ذلك يشير إلى حدود التطبيع الأيديولوجي، وذلك لأن المعلمين كانوا يعانون من ملاحقة الحكام، وكان هؤلاء يلعبون دورا طبقيا يتعلق بطبقة الفلاحين.
لقد أهمل كل من ماركس Marx وأنجل Angels دراسة تأثير البناء الفوقي في البنية التحتية، ومن هذا المنطلق عمل غرامشي Antonio Gramsci (1891-1937) على بناء نظرية حول الفعالية الخاصة بالبنية الخاصة بالبنية الفوقية، فهو يولي الثقافة أهمية موازية لأهمية الاقتصاد والسياسة، هذا ويميز غرامشي(12) بين مستويين في البنية الفوقية حيث يشير إلى المجتمع المدني وإلى المجتمع السياسي أو الدولة، فالدولة تمارس هيمنتها في الوقت نفسه وفقا لمدخلين هما ممارسة الإكراه والقهر بصورة مباشرة من جهة، وتوظيف الفعل الثقافية من جهة أخرى، وذلك عن طريق المؤسسة البنيوية التي تشكل مكنونات المجتمع المدني مثل الكنيسة، النقابات، الأحزاب، المدرسة، إذ لا يمكن لطبقة اجتماعية أن تسيطر وتحافظ على أمنها من خلال الفعل السياسي والاقتصادي فحسب، بل يترتب عليها أن تنفذ إلى الشعب بأيديولوجية محكمة بالنموذج الذي تعتمده في عملية الإنتاج وإعادته، وأن تضمن موافقة الشعب بالنموذج الذي تعتمده في مجال الحياة الاجتماعية، وهنا في هذا المجال يشار إلى المدرسة بوصفها المؤسسة الأكثر أهمية في بناء هذه الأيديولوجية وتحقيق هيمنتها.
و في هذا المضمار يميز التوسر( Althusser 1918-1990) بين الجهاز الأيديولوجي وبين القسر والإكراه الذي يتم من خلاله اللجوء إلى العنف (الجيش، الشرطة، العدالة). فالجهاز الأيديولوجي يتمثل في (المدرسة، العائلة، الثقافة، والمعلوماتية..الخ. وهذه المؤسسات مهيأة لإعادة إنتاج شروط الإنتاج (علاقات الإنتاج، القوى المنتجة) وذلك في نسق من الصيغ التي تعزز وجود الأيديولوجيا السائدة وهيمنتها(13).
ويجد هذا التصور صداه عند بودلو واستابليه (14) (1971-1975) فالمدرسة ليست واحدة وليست موحدة فهي تنقسم إلى شبكتين: تضم الأولى أبناء الطبقات البرجوازية (التعليم الثانوي والجامعي) بينما تضم الثانية أبناء الطبقات الشعبية (المدارس المهنية)، وبالتالي فإن توزيع التلاميذ يبدأ من المرحلة الابتدائية حيث تعتمد لغة الطبقة البرجوازية اللغة السائدة في المدرسة، وبالتالي حيث يكون تعلم القراءة والكتابة لصالح أبناء الطبقة البرجوازية. وهنا يبين الكاتبان أن الأيديولوجيا البرجوازية توجه بطريقتين: إحداهما من أجل عمال المستقبل وهي تعتمد في هذا المستوى مفاهيم بسيطة في مجال الأخلاق. أما الأخرى فهي من أجل النخبة تقوم على أساس السيطرة على أفكار والتجريد.
وتنطوي نظرية إعادة الإنتاج جانبا كبيرا من الحقيقة، وإنه لمن المعروف أن اللحظة التربوية هي أداة المجتمع التي يعتمدها في تحقيق استمراريته، ولكن الآثار التربوية الحقيقية لا تكون دائما كما تريدها الطبقة السائدة، فهناك شريحة من المعلمين والمتعلمين تستطيع أن تنفلت من أسار التطبيع الأيديولوجي السائد وتعمل على بناء ما يسمى بالأيديولوجيا المضادة، فالاتفاق لا يكون كليا دائما، وهذا ينطبق على مسالة إعادة الإنتاج الرمزي والتقسيم الاجتماعي من خلال المدرسة والحياة. فهناك دائما تناقضات بين مختلف المؤسسات المدرسية بين المدارس الخاصة والعامة بين التربية الرسمية والتربية غير الرسمية التي تعمدها العائلة في مجال وسائل الإعلام والعمل والنشاط العام والاجتماعي. فالنظريات السابقة تبين أن المدرسة تسهم في إنتاج جماعات جديدة وقيم جديدة، فعلى سبيل المثال في القرن التاسع عشر، وفي أوروبا تحديدا كان يتشكل الوعي الطبقي للطبقة العالمة إطار المدرسة.
وفي هذا المجال يشار إلى أحد البحوث الحديثة التي قامت بدراسة الأطروحات الخاصة بالأجهزة الأيديولوجيا للدولة في مجال المدرسة، وقد انطلقت هذه الدراسة على أسس المنهجية التاريخية، لقد درست كلود لوليفر Claud Leliver تطور وظيفة التعليم ما بعد الابتدائي في إحدى المقاطعات الأمريكية في الفترة الواقعة ما بين عامي 1850و 1914، وكانت المنطقة التي تم اختيارها La Somme من أكثر المناطق تقدما في المستوى المدرسي، وتم اختيار هذه الفترة الزمنية لأهمية هذه المرحلة في إطار أحداث العلمانية التي شهدتها أوروبا في هذه المرحلة. لقد بينت هذه الدراسة أن المؤسسات المدرسية كانت تشكل مجالا حيويا للصراع الأيديولوجي والسياسي، ومع ذلك فإن حقيقة هذه المؤسسات لا يمكن أن تختزل إلى مجرد الأبعاد السياسية والأيديولوجيا. لقد بينت الدراسة تطور هذه المؤسسات وولادتها كانا مرتبطين بالبنى والظروف التقنية والاقتصادية ومع ذلك لا توجد قطيعة نهائية بين النشاطات السياسية والأيديولوجية والاقتصادية. فالسيطرة تمارس من قبل الطبقة السائدة والدولة في مجال الدراسة بصورة آلية. وفي هذا المجال عمل كل من باولس Boueles وجنتس Gintis (المدرسة في إفريقيا الرأسمالية 1976) (School in Capitalist America 1976) على دراسة المدرسة في قلب المجتمع الرأسمالي وتبين لهما بالنتيجة أن التربية تلعب دورين متكاملين، فهي تمكن الأفراد من الحصول على الكفاءة والقدرات الخاصة، وعلى رفع مستوى الإنتاجية عند العمال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهي تبرز اللامساواة بواسطة أوالية التعزيز المستخدمة، والتي تمارس على المتعلمين داخل المدرسة. وهي في هذا السياق تعزز عملية توزيع الأدوار الاجتماعية وتبررها اجتماعيا وسيكولوجيا. ويبين الباحثان أن وظيفة المدرسة لا تقف عند حدود إعداد التلاميذ مهنيا بل تسعى إلى تكوين وعي سياسي متطور عند الآباء والمعلمين والطلاب، لقد أسهمت الجامعة في بناء حركة قوية راديكالية وتقدمية في المجتمع الرأسمالي.
فالتعليم والتربية يتحركان على عجلات قوى متناقضة، وهذه القوى تلعب دورا بالغ الأهمية في الحياة الاجتماعية والسياسية. فهناك عدد كبير من المشكلات المدرسية التي تنبع من خارج المدرسة وليس من داخلها، وهذا بدوره يعود إلى وظيفة الاقتصاد الرأسمالي عينه وآليات فعله. هذا ويمكن تفسير الإصلاحات الجوهرية في التربية من خلال نضال الطبقات، وأغلبها جاء ليعزز البنى الاجتماعية القائمة والتي تعزز مصالح الفئات الاجتماعية التي توجد في أعلى السلم الاجتماعي. وذلك كله على حسب التغير الاجتماعي.
وباختصار يركز المنظرون الاجتماعيون على أهمية البعد الطبقي وأولويته في بناء نظرياتهم التربوية. فالتربية في هذا المستوى تتجلى بأبعادها الاجتماعية، فهي قضية اجتماعية ويترتب عليها أن تلعب دورا جوهريا في صيرورة الحياة الاجتماعية والثقافية. فالتربية هي نتاج للتفاعل الاجتماعي وهي في النهاية تجسيد لطابع الحياة الاجتماعية وهي في الوقت الذي تستمد فيه وجودها من نسغ الحياة الاجتماعية فإنها تنتج وتعيد إنتاج هذه الحياة الاجتماعية بصورة مستمرة وفقا لصيرورة طبقية لا تنقطع عن الحركة أبدا. ومن هذا المنطلق فإن عددا من المربين والنظريات التربوية تؤكد على أهمية إعداد الإنسان للحياة الاجتماعية.
***
علي أسعد وطفة
كلية التربية – جامعة الكويت
......................
مراجع المقالة:
(1) A. BLOOM, The «Republic» of Plato , New York, 1968
(2) A.-J. FESTUGIERE, Contemplation et vie contemplative selon Platon , Paris, 1936
(3) A. RYGALOFF, Confucius, Paris, 1946.
(4) تمت ترجمة هذا الكتاب من قبل الكاتب: إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، دار الوسيم، دمشق، 1991.
(5) E.Durkheim, ُُُeducation et sociologie (1922), rééd. P.U.F., Paris, 1966
(6) - E DURKHEIM, L'éducation morale (1925), P.U.F., Paris, 1963.
(7) - E. DURKHEIM, L’evolution pédagogique en France , 2 vol., F. Alcan, Paris, 1938
(8) T. PARSONS,Eléments pour une sociologie de l’action (Working Papers in the Theory of Action , 1949), trad. F. Bourricaud, Plon, Paris, 1955.
(9). BOURDIEU & J.-C. PASSERON, Les Héritiers. Les étudiants et la culture , Paris, 1964, rééd. 1966.
(10) - P. BOURDIEU & J.-C. PASSERON, La Reproduction. Eléments pour une théorie du système d’enseignement , Minuit, 1970.
(11) K. MARX, Les Luttes de classes en France (Die Klassenkنmpfe in Frankreich , 1850), trad. P. Meier et P. Angrand, ibid. , rééd. 1967.
(12) A. GRAMSCI, Œuvres choisies , trad. et notes G. Moget et A. Monjo, Paris , 1959.
(13) - L. ALTHUSSER, «Idéologie et appareils idéologiques d'état», in La Pensée , Ed. sociales, 1970.
(14) - C. BAUDELOT, R. BENOLIEL, H. CUKROWICZ & R. ESTABLET, Les étudiants, l’emploi, la crise , Paris. , 1981