أقلام فكرية
خمسة اتجاهات في فلسفة التاريخ
اذا كان هناك تاريخ، وهناك اشياء حدثت، فالسؤال الواسع هو كيف حدث هذا التاريخ وما الذي يقوده؟
على مر الزمن، جرى تداول مختلف الفلسفات للتاريخ، لذا من المألوف ان نجد مختلف التفسيرات لنفس الفترة ولنفس الشخص: التاريخ له تاريخ خاص به.
بعد قراءة التاريخ يمكن القول هناك على الأقل خمس مدارس مختلفة لما يقود التاريخ.
1- التكنلوجيا كمحرك في فلسفة التاريخ:
ويقود هذه المدرسة كارلوت بيريز العالمة البريطانية المتخصصة في التكنلوجيا والتنمية السوسيواقتصادية حيث تُعتبر التكنلوجيا هي المحرك الاساسي للتاريخ ونحن نستطيع فهم المستقبل أفضل عبر التنبؤ بالميول التكنلوجية. التنبؤ بالاتجاه الذي يسير به العالم يمكن ان يتم بالنظر الى التكنلوجيات الناشئة في أي عصر والوصول وفقا لذلك لإستنتاجات منطقية.
مثال: محرك الإحتراق الداخلي قاد الى صنع سيارة خلقت هيكلا حضريا للولايات المتحدة ولمناطق الضواحي.
2- الجغرافيا والديموغرافيا في فلسفة التاريخ:
الفرضية: الجغرافيا هي المحرك ونحن نستطيع فهم المستقبل بشكل افضل عبر تحليل الجغرافيا وتأثيراتها.
مثال: آلمانيا تاريخيا اعتُبرت بلدا حربيا لأنها تقع في منطقة يصعب الدفاع عنها بين روسيا(عبر بولندا) وفرنسا. الولايات المتحدة كانت ناجحة بسبب المصادر الطبيعية الغنية فيها والموقع الحصين للدفاع عنه بمحيطين من كلا الجانبين.
3- نظرية فوكاياما في فلسفة التاريخ (المأسسة):
الفرضية: الناس مخلوقات تتبع أعرافا ومعايير. هم يتبعون أعراف وسلوك الآخرين الذين حولهم. طالما المؤسسة ليست اكثر من عرف يستمر عبر الزمن، فان الناس لهم ميل طبيعي لمأسسة أعرافهم وسلوكهم.
مثال: في اوربا، الكنيسة الكاثوليكية غيّرت قواعد الإرث لتجعل من الصعب لجماعات النسب تمرير المصادر نزولا لذرياتهم او عوائلهم المتسعة التي جرى تأسيسها كمؤسسة منفصلة. حكم القانون يمكن فهمه كقواعد تقيّد حتى اكثر الافراد المؤثرين سياسيا وله اساسه في الدين و الثقافات. حكم القانون اصبح مؤسسيا بعمق في اوربا الغربية نتيجة لدور الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.
4- الاتجاه الثقافي:
هذه الفرضية يقودها المؤرخ نوح هاراري Yuval Noah Harari(1) وتقوم على ان الثقافة والقصص هي المحرك الرئيسي للتاريخ وان التاريخ يتطورعلى طول خطوط هذه الاساطير. ان الخاصية المتفردة الحقيقية للغة الانسان هي قدرتها على نقل المعلومات حول الاشياء التي لا توجد ابدا: قصص واساطير.
مثال: التجارة لا يمكن ان توجد بدون ثقة، ومن الصعب جدا الوثوق بالغرباء. شبكة التجارة العالمية اليوم ترتكز على ثقتنا في كينونات لا نرى لها وجود في أي معنى فيزيقي مثل العلامات التجارية الطوطمية للشركات، واشياء اخرى، انها أساطير جميعنا نثق بها.
5- فلسفة ماركس الاقتصادية للتاريخ:
الفرضية: التاريخ يُقاد اساسا بالاقتصاد. كان ماركس اول من دافع عن هذا الموقف المادي التاريخي وحيث الشيوعية هي النتيجة الحتمية للصراع الطبقي الناتج عن رأسمالية القرن التاسع عشر. نظريات اقتصادية مشابهة برزت عبر طيف سياسي واسع.
مثال: الامبريالية البريطانية والولايات المتحدة لاحقا تزرع دمى دكتاتورية او تتدخل في السياسة الخارجية المصممة لترسيخ المصالح الخاصة. هذا يمكن القول استمر عبر مؤسسات زُعم انها حيادية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان بالاساس فرضا برامج ليبرالية جديدة مقابل القروض. الدول التي تطورت بنجاح في النصف الثاني من القرن العشرين كانت هي التي تجاهلت هذه الافكار.
مدرستان في الحتمية التاريخية
هناك بُعد آخر هام. هذه الاتجاهات الخمسة تقع بين قطبين في كيفية عمل الآلية السببية للتاريخ كما صاغها اسحق برلين في مقاله (الثعلب والقنفذ). الى أي مدى تُقاد كل تلك العناصر بتفاعل مؤقت من القوى يصعب تحديده (مدرسة الثعلب) او الى أي مدى تلك تقاد بـ "اشخاص عظماء" يؤثرون على مسيرة التاريخ "مدرسة القنفذ".
مدرسة الثعلب
الفرضية: لا يمكن تمييز محرك للتاريخ، انه دائما معقد جدا ومليئ بتأثيرات الفراشة التي تنتهي بنا لنكون "ننخدع بالعشوائية"(2).
مدرسة القنفذ
التاريخ يُقاد باشخاص عظام يصوغون مسار التاريخ ونحن جميعنا فقط نسير في أعقابهم.
نحو نظرة دقيقة للتاريخ
يمكننا القول ان هناك ميول قوية نحو مدرسة الثعلب مقابل القنفذ لأن الاعتقاد الشائع هو ان التاريخ دائما هو اكثر فوضوية مما يبدو في كتب التاريخ. رغم ان قادة معينين ربما يحفزون على التغيير لكن الامر يشبه كومة كبيرة من القش الجاف وسط مخزون الحبوب، ما يحدث لا يعني ان حدثا مشابها آخرا سيتبع. لابد من التقليل من قيمة أي فلسفة تاريخية مبسطة لأن اختزال تلك الى نموذج بسيط من السبب والنتيجة هي عادة ما تكون طريقة خاطئة في التفكير. يُعتقد ان معسكر الاقتصاد هو السبب المباشر لمعظم التغييرات التاريخية.
المؤسسات والثقافة والجغرافيا والتكنلوجيا جميعها تستمد قوتها من الاقتصاد. التكنلوجيا تصبح تدريجيا اكثر تأثيرا والجغرافية أقل تأثيرا بمرور الزمن لذا نرى ان الاقتصاد والتكنلوجيا هما اكثر الفلسفات التاريخية مفيدة لوقتنا الحاضر.
غير ان هذا قد لا يكون صحيحا في سياقات معينة. لو اخذنا مثالا واحدا، عصر الاستكشافات الاوربية كان اكثر تحفزا بالاعتبارات الدينية والثقافية منه الى الاقتصادية. يذكر احد الكتاب عن تاريخ الامبراطورية البرتغالية:
"منذ سقوط القسطنطينية، شعرت اوربا المسيحية باستمرار انها مطوقة. ولكي تتغلب على الاسلام، وتتواصل مع القس جون والجماعات المسيحية في الهند، وتسيطر على تجارة التوابل لتحطيم الثروة التي غذت سلاطين المماليك في القاهرة، كانت هناك رؤية جيوستراتيجية ذات طموح واسع تتبلور سلفا لتكتسح في الوقت المناسب البرتغاليين حول العالم".
لابد من التأكيد ان هناك عنصر اقتصادي لكن يبدو من الصعب قراءة تاريخ العصور الوسطى مثل (كتاب مرآة بعيدة لبربرا توكمان) ونصل الى رؤية اقتصادية تكنلوجية اساسية محركة للتاريخ، الثقافة والمؤسسات يبدوان يلعبان دورا اكبر.
الشيء الرئيسي الذي يمكن اكتسابه من قراءة التاريخ هو كم عدد التفسيرات المختلفة هناك وكم عدد التفسيرات التي تنطوي على دفاع شرعي. ان أحسن طريقة للتفكير حول هذه المدارس هي الإعتراف ان جميعها تهم بدرجات مختلفة ولها تأثيرها المتغير بمرور الزمن. اذا كان الواقع فيه كمية مدهشة من التفاصيل فسيكون من الواضح ان ذلك ينطبق ايضا على تاريخ الواقع. لذا فان السؤال هو دائما ما هو الأكثر اهمية للحظتنا التاريخية.
***
حاتم حميد محسن
.....................
الهوامش
(1) هو مؤرخ واستاذ يهودي ومؤلف كتاب (العاقل: تاريخ مختصر للبشرية، 2014) تحدث فيه عن التطور المعرفي الذي يُفترض حدث قبل 70 ألف سنة عندما حل الانسان العاقل محل منافسيه من انسان نياندرتال والانواع الاخرى، حيث طور مهارات اللغة وأقام مجتمعات ارتقت الى أعلى مرتبة في سلّم الحيوان مستفيدة من الثورة الزراعية والتسارع في التقدم العلمي وهو ما سمح للانسان للاقتراب من السيادة على بيئته.
(2) تأثيرات الفراشة butterfly effects هي الفكرة بان شيء صغير يمكن ان يكون له تأثير كبير. يعتمد تأثير الفراشة على فكرة ان العالم مترابط بعمق بحيث ان حدثا صغير يمكن ان يؤثر في نظام معقد اكبر بكثير.