أقلام فكرية
تصورات الوجود في الفلسفة ما قبل السقراطية
إنَّ أول الفلاسفة الإغريق الفيلسوف (طاليس) الذي ينسب الى المدرسة الطبيعية القديمة الذي وضع لبناتها مع فلاسفة ثلاثة يرجعون الى مدرسة (ملطيا)، إذ يرى (طاليس) بإن كل شيء يرجع الى ماء،أو أن كل شيء يأتي من الماء والذي عد الماء هو سبب وجود الموجودات وهو العنصر الأصلي الذي تتألف منه عناصر الأشياء في الأرض، وأن الأرض أصلاً هي مرتكزة على الماء، ويرى الفيلسوف الإنكليزي (برتراند رسل) بأن (طاليس) في تفكيره هذا هو رجل علم أكثر منه فيلسوفاً على اعتبارات أن بحثه كان منطقياً من فرضية علمية بحتة(1)، على الرغم من أن هذه النظرة العلمية كانت مؤطرة بشكل فلسفي مكّن من خلالها نظرته الى ما هو أبعد من الماء في بعده الوجودي، بل ذهب في رؤيته هذه الى أن الارض هي وجود أبعد من أن تحضر في العين المجردة وهي بحاجة الى تقنيات حديثة حتى يتم التأكد من أن هذا الفرض الذي يجعل من الأرض مرتكزة على الماء، لذا فإن النظرتين العلمية والفلسفية شكلت رؤية (طاليس) الأولى الى شيئين في آن واحد هما الوجود والموجود .
إنَّ (طاليس) عندما يُرجع كل العناصر الى الماء والأرض مرتكزة عليه يرى بأن الماء مادة حية ولها روح وأن حركة الأشياء منطلقة من الحياة التي يوفرها هذا العنصر كما أن حركة الموجودات تأتي بالدرجة الأولى من هذه الحياة التي أوجدها عنصر الماء وهذه النظرة الى حركة الاشياء والى أصل الحياة في الماء التي تستمد منه هذه الموجودات في تشّكل وجودها وما يتكون من ماهيات نتيجة لهذه التشكيل يتطابق معه في النظرة الفيلسوف (لتاوي) الصيني (ليه تز) في القرن الخامس قبل الميلاد في أن الماء هو المادة الأولية التي ترجع اليها الموجودات(2) .
إنَّ طبيعة الموجودات التي يرجع أصلها الى الماء بحسب نظرة (طاليس) في المدرسة المالطية تأتي من مبدأ الذهاب والنظرة الى ما هو موجود وليس الى نظرة تأملية بعيدة عن الموجودات وتشكيلاتها في داخل هذه الطبيعة، لذا فأن النظرة هذه حتى وأن كانت أولية ولا ترتقي بنظر البعض ممن يبتعدون بنظرتهم الى الأشياء ويركزون فقط على الأفكار المسبقة تبقى نظرة بحاجة الى تأمل أكثر قبل أن ينطلق بالحكم على نوع الأسلوب والطريقة المتبعة في الوصول الى الحقيقة،لذا فإن المدرسة الطبيعية المالطية تعد هي من أول المدارس الفلسفية التي طبقت شرطية البحث في ما هو موجود والتفكير به حتى وأن كان الرأي الفلسفي متعارض بين أفرادها في من هو أصل الأشياء سواء أكان الماء حسب رأي (طاليس)،أو رأي (انكسمندرس) الذي يرى بأن الموجودات وطبيعتها ترجع الى عنصر آخر لا نهائي ولا يحده الزمان،ويقول في هذا المجال حسب ما ينقله لنا (رسل) بأن " الاشياء تعود فترتد الى العنصر الذي نشأت منه كما جري بذلك القضاء لأنها تعوض بعضها بعضاً لما وقع منها من إجحاف كما يقضي بذلك أمر الزمان "(3) وهذه النظرة في الطبيعة هي من الهمت (انكسمندرس) في أن الأشياء توجد من عنصر لا متناهي موجود في داخلها وكأنه المصنع الذي لا ينضب من عملية خلق وإيجاد مستمر،هذا يجري بحكم القضاء الذي أوجدها لأول مرة . أما الرأي الثالث في هذه المدرسة عند (أناكسمانس) الذي يرى بأن الهواء هو أصل الأشياء ويرجعه الى عملية التخلخل والتكاثف المصاحب للهواء في تكوين الأشياء والموجودات في هذا المجال(4).
وهنا يمكن أن نوجه نقدنا الى نظرة الانتقاص التي يقدمها (ولتر ستيس) في كتابه (تاريخ الفلسفة اليونانية) اذ يرى الأخير أن هذه " المذاهب الفكرية كانت فجة نظراً الى كونها لا يمكن أن تتبين فيها بذور التفكير الفلسفي إلا في عتامة "(5) وكذلك الى آراء أخرى في نفس الموضوع ترى بإن هذه المدرسة تعذر فيها التمييز بين ما هو (ذهني) وما هو موضوعي (وجود)، وتركيز فلاسفة هذه المدرسة فقط على ما هو مادي أو أشياء مادية فقط،(6) على عكس من هذه النظرة التي قدمها فلاسفة المدرسة المالطية كانت مبنية على بعد آخر اكثر منه اشياء مادية مباشرة وإذا أعدنا طرح أفكار هذه المدرسة التي انطلقت من الموجودات ذاتها في تشكيل أفكارها فهي ابتعدت الى ما هو أبعد من النظرة القاصرة، أو الفجة كما في النقود السابقة، فالذي يرى بأن الماء هو أصل الأشياء يتطابق مع القول القرآن الكريم (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، والحياة التي ركز عليها(طاليس) وإنَّ أختلفت في التفاصيل مع الآية القرآنية لكنها تطابقت معها في الأصل في أن الماء هو أصل الحياة وهو أصل تشكيل الحياة على الأرض، كذلك ترجع الى نظرة (انكسمندرس) الذي رأى بأن الأشياء ترجع الى عنصر لا متناهي مستمر في عملية الهدم والبناء على وفق قانون الوجود هي ايضاً نظرة تكررت في آراء اخرى مثل نظرية الخلق المستمر عند (ابن عربي) الذي اثار اعجاب (برتراند رسل) كما أثار أعجابه بالفيلسوف (انكسمندرس)، إذ يرى فيهما بأنهما يثيران الأهتمام والمتابع لما طرحاه من آراء مهم مهدت الى جدلية فلسفية مع من أتى من بعدهما من الفلاسفة(7).
إنَّ ما قدمته المدرسة المالطية من آراء فلسفية حول الوجودات والموجودات جاءت بعدها آراء مناقضة تارّة ومكملة تارّة أخرى، ومن الذين هاجموا أفكار المدرسة الطبيعية هو الفيلسوف الأيلي (بارمينيدس) الذي أعتمد على العقل وحده دون الحواس في معرفة الوجود،أي أنه لم يتجه بشكل مباشر الى الحقيقة المتمثلة بالموجودات وكيفية تشكلها وبناء حركتها وإعطاءها البعد الحضوري الفعلي، بل اقتصر على ما يوفره العقل من أفكار في هذا المجال الحسي لكنه أعتمد في تفسيرها على ما قدمته المعطيات العقلية في إنتاج المعنى دون إشراك الجانب الموضوعي في ذلك، لذا كانت الجدلية التي اطلقها في مهاجمة الفيلسوف الآخر(هيراقليطس) أن الجدلية بين الطرفين تجسدت في اعتقاد " بارمينيدس أن الإنسان يجب أن يتبع العقل وحده إلا أن عقله أوصله الى نتيجة هي عكس ما وصل اليه (هيراقليطس) تماماً، قال (هيراقليط): كل شيء يتغير وقال (بارمينيدس): لا شيء يتغير ؛ قال (هيراقليط): ليست الحكمة سوى تفهم الطريقة التي يدور بها العالم وقال (بارمينيدس) أن الكون لا يدور حقاً على الإطلاق وإنما هو ساكن سكوناً مطلقاً أن التغير والحركة والتبدل لم تكن في نظرة سوى أوهام مصدرها الحواس "(8).
إنَّ النتيجة لهذا السكون الذي يراه (بارمينيدس) في الكون والذي وصفه بالإطلاق جاء نتيجة لتبني أفكار قد لا تكون مستندة على قواعد حسية،أو أدلة قائمة على أن يكون هذا العالم ثابت ولا يتغير وأن الحواس هي مجرد مصدر غير مقبول يؤدي الى الوهم الذي يبعد العقل عن الحقيقة التي يتبناها العقل والتي أوجدها العقل وحده دون أدوات مهمة مثل الحواس،لذا فقد كانت نتيجة ذلك معارضة لما سبقه من الفلاسفة الطبيعيين، وكذلك لمعاصره (هيراقليط) .ودخل فيلسوف آخر قد دخل في جدلية انطولوجية مع (بارمينيدس) وهو (أمبذوقليس) من أصل (صقلي) الذي اعتبر فلسفة (بارمينيدس) راكدة، اذ يرى من خلال معارضة لمبدأ (بارمينيدس) الأعتماد على العقل وحده في إصدار الأحكام وعلى الرغم من القبول بمبدأ أن الحواس لوحدها غير كافية في إنتاج الأحكام النهائية لكنه دافع عنها باعتبارها تقدم من الشواهد التي تفيد في الوصول الى الأحكام،وهي قابلة للنقد والتمحيص في آن واحد(9)، لذا فقد عمل على إيجاد غاية محددة من اتباع الحواس ونقدها وتمحيص ما تقدمه من شواهد، هذه الغاية تتجسد في اتباع طريقة لتوضيح هذه الشواهد حتى لا تكون قاصرة فقط على الحواس وقد صاغ ذلك النقد في قالب شعري يقول فيه " والآن أدرس كل شيء بالطريقة المؤدية الى توضيحه بكافة حواسك، لا تعط لما ترى أهمية اكثر مما تعطي لما تسمع، وبالمثل لا تقّدر أذنك المرددة للأصوات أكثر من تقدير ما ينطق به لسانك من بيان فصيح ولا تحجب ثقتك عن أي جزء آخر من الجسم يمكن أن يوصلك الى تفهم شيء من الأشياء وعليك أن تدرس كل شيء بالطريقة المؤدية الى توضيحه ".
إنَّ عملية الفهم للأشياء هي ما تقع بين الحواس والعقل من عملية لا بد أن تكون تواصلية مستمرة في تبني الأشياء ودراستها مع ما تقدمه من دلائل كامنة في آليات هضمها عقلياً من بعد أن تقدمها الحواس بشكلها الأولي،لذا فإن التخلي من جزء من عملية تلقي وتقبل الأشياء هو بعين وفكر (امبذوقليس) غير سليم في تلقي المعرفة وبذلك فإن الجدلية مع (بارمينيدس) هي في أصل استخدام (العقل والحواس) معاً في الوصول الى المعارف وإطلاق الأحكام في ذلك المجال .
***
أ. د. محمد كريم الساعدي
......................
الهوامش
1. ينظر: رسل، برتراند: تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012، ص 61-63.
2. ينظر: العلوي، هادي، نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي، دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، ط 2، 2007، ص 7-8.
3. رسل، برتراند، المصدر السابق، ص64 .
4. ينظر: العلوي، هادي، المصدر نفسه، ص 8 .
5. الشلبي، كمال عبد الكريم حسين، أصالة الوجود عند الشيرازي، دمشق: دار صفحات للدراسات والنشر، 2009، ص 44.
6. ينظر: المصدر نفسه، ص 44 .
7. ينظر: رسل، برتراند، المصدر السابق، ص 64-66.
8. فارنتن، بنيامين: العلم الاغريقي ج 1، ترجمة: احمد شكري سالم، القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2011، ص 66.
9. ينظر: المصدر نفسه، ص 68 .
10. المصدر نفسه، ص 821 .