أقلام فكرية
تشارلس تايلور: تأويلات الحداثة (3-3)
- أسئلة مفتوحة: إفراط تايلور في الشمولية؟
يدعو تفسير تايلور للحداثة إلى إنسانية حساسة لـ "حياة الروح" (هيجل)، وشاملة لتعددية الخيارات الدينية وغير الدينية). يركز في نظريته الأنطولوجية المبكرة على أهمية التقييمات القوية والمطالب المقابلة أو الممماثلة للأعتراف. يطور تايلور، على هذا الأساس، فكرة سياسة الاعتراف التي تتمثل ميزتها في تصحيح العمى عن الاختلاف في التنظير السياسي التقليدي.
لكن مايزال نموذج تايلور للإندماج يردد صدى حلم روسو بالتوفيق والمصالحة من خلال الاعتراف المتبادل. تتطلب صورة تايلور للمجتمع القائمة على الاعتراف الإيجابي والمتبادل باختلاف الآخرين نموذجًا أخلاقيًا وسياسيًا للديمقراطيات التعددية التي تتميز بخلافات عميقة وصراعات على السلطة.[1] إن سياسة الاعتراف، في سياق النضالات الديمقراطية، هي سيف ذو حدين، اذ يمكن أن تضمن ادعاءات الهوية/ الاختلاف في المجال السياسي صعوبات مختلفة ومترابطة. أولا، يمكن أن يؤدي إلى استخدام الأدوات والوسائل الاستراتيجية التي تفسح مجالًا وتقدم فرصًا لأصحاب المشاريع العرقية والدينية. وتستعمل نخبا السلطة لغة الاعتراف والهوية والحقوق فقط من أجل الحصول على الحماية والامتيازات. وهذا يقوي أو يخلق بدوره أشكالًا من الهيمنة والإقصاء. ثانيًا، قد يؤدي تسييس الاختلاف إلى استقطاب اجتماعي سياسي وعدم استقرار وليس مصالحة (وفقًا لأفضل نوايا تايلور). فمن المرجح أن تؤدي سياسات الاختلاف إلى تقنين متضارببين مطالبها وحدودها.[2] ويمكن أن تنطوي ديناميكية التقنين على أنغلاق وتحجر" للجماعات الدينية، مما يؤدي – مثلًا- الى استمرار الهيمنة على النساء[3] واستبعاد الأصوات المعارضة.
تخلى تايلور، في سياق طروحاته المتأخرة بخصوص تسييس الادعاءات الدينية والقومية، عن شكل أو صيغة سياسة الاعتراف التي طورها في أوائل التسعينيات. فشدد لاحقا على أهمية التفاعل الحواري والتبادلات بين الثقافات على تسييس الاختلاف؛ وكذلك، أكد على أهمية- ما يطلق عليه- مسار المواطن على المسار القانوني في التفاوض بشأن مطالب الهوية.[4] ومع ذلك، تظل مسألة الاعتراف/ سوء االأعتراف محورية في الرؤية الأنطولوجية والفلسفة السياسية التي يطرحها،[5] وتقوده إلى مقاربة توافقية تكيفية قوية مع الادعاءات الدينية.
ما مدى إقناع اقتراح تايلور الأخير بنموذج الإندماج القائم على الاعتراف؟ نرى أن اقتراحه يثير صعوبات أنطولوجية (وجودية) ومعيارية- سياسية تتعلق بالدين. فأولاً، رأينا تايلور يشدد على أهمية التعالي بما يتجاوز الأزدهار البشري.[6] ومع ذلك، فإن تعدد معاني وغموض مصطلح "التعالي" يجعل الدور الذي يلعبه في تصور تايلور غير واضح، فضلاً عن آثاره السياسية. ( ستجد تفصيله في (أ) أدناه. ثانيًا، أن تايلور محق في موقفه ضد المدافعين عن الحياد المطلق في الاعتراف بأن يجب أن تأخذ الدولة في الاعتبار الضرر المعنوي الذي يلحق بالمواطنين المتدينين من خلال القواعد التمايزية ضد معتقداتهم وممارساتهم الأساسية ومع ذلك، فإن الإشارة إلى صدق الاعتقاد كسبب مقنع لمنح الاعتراف يؤدي إلى نموذج شامل للغاية للاعتراف والتكيف. إن اقتراح تايلور الأخير شامل للغاية على عكس تصوره السياسي السابق للأعتراف، ويمكن أن يقوض عدالة واستقرار الإطار القانوني السياسي. قد يخفف اعتماد معايير أكثر تطلبًا للاعتراف من هذه المشاكل، لكنه لا يحلها بالكامل. نرى أننا تُركنا مع لغز: فيمكن أن يؤدي الموقف المحايد (مثل موفقف براين باري) إلى أشكال غير مباشرة من التمييز، كما يجادل تايلور وكيمليكا؛ ومع ذلك، قد يؤدي حتى النهج المعتدل أو المحدود للتكيف في عصر التعددية المفرطة إلى منح مكانة مميزة لمعتقدات معينة وتقويض الحياد والاستقرار القانوني (سأتناوله في ب و ج).
أ- انطولوجيا الأخلاق: مسألة التعالي:
يتسم استخدام تايلور لـ "التعالي" بالتناقض والغموض، حيث يدعي أنه يدرك قواسم مشتركة لمجموعة متنوعة محيرة من الظواهر كالإيمان المسيحي، والطريقة البوذية إلى النيرفانا، والسمو الجوهري لبنيامين وبلوخ، وأفكار كانط التنظيمية، وموقف فوكو ودريدا المضاد للتنوير، وحتى الفاشية. فيمكن أن يشير "تعالي تايلور" إلى "الرغبة في الخلود"، أو "حياة ما بعد الحياة"،[7] أو "واقع روحي خارج الإنسان"،[8] ولكن أيضًا إلى مُثُل إنسانية أكثر وضوحًا مثل "جمهورية المساواة" أو السلام الدائم نفسه.[9] وتشير كل هذه الإشارات إلى "التعالي" بشكل مفترض إلى أهداف أو ادعاءات تتجاوز الازدهار البشري،[10] والتي يؤدي السعي نحوها إلى تحولات جذرية. يثير هذا التعدد في المراجع مسألة فائدة التعالي عند تايلور، وتحوله إلى مفهوم شامل. ليس من الواضح أيضًا لماذا تهدف المُثُل التنظيمية مثل "جمهورية المساواة" إلى شيء يتجاوز ازدهار الإنسان وحتى الحياة؛ كما أنه ليس من الواضح متى تتوقف الرغبة أو الطموح عن كونه محايثًا ويصبح متعاليًا. يشير تايلور في إحدى الفقرات إلى معيار هو: "عندما يكون معيار السلوك الطبيعي مرتفعًا بدرجة كافية، قد لا يبدو مصطلح" المحايثة "هو المصطلح الصحيح".[11] ليس هذا الاقتراح لتحديد المساحة المحايثة / التعالي مفيدًا جدًا: أنه "مرتفع بما يكفي" يختلف عن "ما وراء الحياة" ويمكن أن يشير إلى أفكار الخير البشري؛ فالصياغة التي يقدمها هي مثال على لغة تايلور الغامضة عندما يتعلق الأمر بالتمييز بين المحايثة و التعالي. ليس محتوى التعالي غير واضح فقط ولكن مكانة حجة تايلور ليس لصالحها أيضًا.[12] لا يشرح تايلور، في كتابه عصرعلماني، حالة حجته فيما يتعلق بأهمية" التعالي".[13] يعترف في بعض الأحيان بما إذا كان "التعالي" وثيق الصلة بأزدهار الأنسان أم لا يعتمد على مجرد قفزة في الإيمان: ما يدفعنا بطريقة أو بأخرى هو ما يمكن أن نصفه بأنه يأخذنا في الحياة البشرية، ومحيطها الكوني والروحي (إن وجد). فعادة ما ينبثق موقف الناس من مسألة الإيمان بالله، أو الفهم المفتوح مقابل الفهم المغلق للإطار المحايث، من هذا المعنى العام للأشياء.[14]
يمكن تفسير هذه الحجة من التعالي على أنها ذات أهمية سلبية، أي أنها تشير إلى قيد أو حد وافتتاح. وكما يقترح برنشتاين، يمكن تفسير إطار تايلورالمحايث بأنه مغلق أو منفتح على التعالي ولا يمكن التعبير عن موقف قاطع في هذا الصدد.[15] إن إدراك هذا الحد والانفتاح من شأنه أن يقود تايلور إلى منظور تعددي ينتقد بنفس القدر الملحد المتشدد والمؤمن العقائدي، لأنهم يرتكبون الخطأ نفسه في تقديم ادعاءات حصرية لا مبرر لها.
ومع ذلك، يعطي تايلور أهمية إيجابية للتعالي. ويجادل بأن كتابه عصر علماني بأكمله هو محاولة لدراسة مصير الغرب الحديث ازاء الإيمان الديني بمعنى قوي. هذا المعنى القوي يعرِّفه بمعيار مزدوج: الإيمان بواقع متعالي من ناحية، والطموح المرتبط بتحويل يتجاوز الازدهار العادي من ناحية أخرى.[16]
يضيق هذا التوصيف الغربي المسيحي القوي للتعالي غموض المفهوم؛ ومع ذلك، فإنه يتعارض مع الفهم المنفتح والتعددي الذي يتبعه تايلور في أماكن أخرى أيضًا.[17] وكما يلاحظ كازانوفا، إذا كانت تكشف الأجزاء الأولى من كتاب اصر علماني عن المواهب التحليلية والتأويلية والسردية لفيلسوف يمكنه مساعدتنا لفهم تخيلاتنا الاجتماعية العلمانية"، فإن الأجزاء الأخيرة تكشف عن ضيق ومحدودية في تساؤل وتحقيق تايلورفي حديثه عن: "الروح الرومانسية للحب المسيحي، وإرادة الإيمان التي ترافق أمل الخلود، والعطش الطوباوي للتألوه المتجسد والتعالي وراء مجرد ازدهار الإنسان".[18] أنه صحيح وجود هذه الرغبة في الخلود أو "حياة ما بعد الحياة" وهي تميز المهام الدينية كما في المسيحية والهندوسية والإسلام،[19] لكن هذه الرغبة ليست مطلبا بشريًا بشكل مطلق، وأن الحياة الخالية منها ليست بالضرورة "مكبوتة".[20] بل على العكس من ذلك، رفض مثل هذا التوق إلى التعالي هو، بالنسبة للبعض، فعل ضروري للتحرر من التطلع الوهمي.[21]
على الرغم من غموض مصطلح التعالي عند تايلور، فإن اهتمامه بتجارب التحول أو التغيير وتفكيك الهوية يظل وثيق الصلة بفلسفة سياسية حساسة للاختلاف.[22] فيلفت تحليله الانتباه إلى تعددية المعتقدات، وخيارات الحياة، والتجارب الهادفة للحرية التي لا يمكن اختزالها في وجهات النظر الليبرالية أو الجمهورية التي تتمحور حول الموضوع السيادي (سواء كان فرديًا أو جماعيًا). حتى لو لم نتمسك بمصطلحات "التعالي"، فإن حساسية تايلور الهيرمينوطيقية للتجارب التي تنطوي على عدم التمركز (الراديكالي)، أو التنازل، أو عدم التجانس يمكن أن تكون تصحيحية لوجهات النظر الليبرالية والجمهورية المألوفة في الأوساط الأكاديمية الغربية التي تركز على مفاهيم الحرية غير القابلة للتعميم. يرى تايلورإن وجهات النظر هذه "محايثة"، لأنها تستند إلى مفاهيم الحرية باعتبارها ازدهارًا فرديًا وجماعيًا، أو الحرية باعتبارها تعظيم الاختيار والرفاهية، أو الحرية كاستقلالية. وأنه يمكن للتجارب الدينية والروحية للحرية غير القابلة للاختزال لوجهات النظر المحايثة أن تقود التغيير المجتمعي ويضرب أمثلة باللاعنف الراديكالي (غاندي، مارتن لوثر كينغ)، الترابط الإيكولوجي العميق (آرني نريس)، وفي ماقامت به من تغيير تجاه العدو وذلك بحب هذا العدو، وكذلك كما في التضحية والتفاني في خدمة الآخرين (بي آر أمبيدكار، آرثر شنيتزلر، دوروثي داي). يجادل تايلور بأن الأديان التاريخية قد جمعت بين الاهتمام بالازدهار والتعالي في ممارساتها المعتادة. لقد كانت القاعدة هي أن الإنجازات العليا لأولئك الذين تجاوزوا الحياة عملت على تغذية الحياة الكاملة لأولئك الذين بقوا على هذا الجانب من الحاجز. [23]
ب-الأذى المعنوي واختبار الصدق والإفراط في الشمول:
هناك، كما أشرنا، استمرارية في عمل تايلور فيما يتعلق بدور التقييمات القوية، والاعتراف، والضرر الأخلاقي على مستوى الأنطولوجيا والفلسفة السياسية. تحدد التقييمات القوية أو المعتقدات الأساسية الشعور بالأستقامة أو النزاهة الأخلاقية؛[24] وغالبًا ما يستند سوء فهم المعتقدات الأساسية إلى اختزالها الزائف إلى "مجرد تفضيل يمكن نسيانه أو استبداله بسهولة"،[25] ويمكن أن يتعارض مع حرية الضمير والاحترام المتساوي، و يؤدي، بالتالي، إلى "إلحاق الضرر". يشير تايلور إلى أنه، في الديمقراطية الدستورية، يجب الاعتراف بالمعتقدات الأساسية، وتعديل القوانين والقواعد (عن طريق توسيع القواعد، والإعفاءات، وما إلى ذلك) من أجل استيعابها. [26]
لقد اعترض المحايدون الليبراليون بشدة على المنطق التوافقي. فبالنسبة لبريان باري، إذا كان القانون شرعيًا وله قابلية للتطبيق بشكل عام، فإن تعديله لتصحيح تأثيره المختلف على جماعات أو أفراد معينين لا يمكن إلًا أن يؤدي إلى التعسف وعدم الاستقرار القانوني وتقويض حياد الدولة. لا تستطيع الدولة ولا ينبغي لها أن تصحح آثار قانون عام شرعي، ولكن تأكد فقط من أنه لا يستهدف جماعات معينة من الأشخاص. وفقًا لموقفه الحيادي، ينبغي على الليبراليين بدلاً من ذلك أن يهتموا بجميع حالات الإكراه، التي يجب أن تكون مبررة بمصالح عامة مناسبة، وليس بالاعتراف بقيمة المعتقدات والهويات الدينية الثقافية وتعزيزها. إذا كان هناك ما يبرر قاعدة قسرية، فيجب أن تطبق بشكل منفرد على جميع المواطنين بغض النظر عن عواقبها على جماعات أو أفراد معينين.[27] وهي قواعد موحدة لجميع أعضاء المجتمع السياسي بغض النظر عن معتقداتهم الأساسية.
نحن نجادل بأن القانون لا يستطيع ولا ينبغي أن يصحح جميع آثاره غير المتكافئة. وليست الآثار غير المتكافئة غير عادلة تلقائيًا: فيمكن، على سبيل المثال، أن تنشأ من الخيارات الشخصية التي نتحمل مسؤوليتها.[28] يجب على الدولة - كلما كان ذلك ممكنًا ومرغوبًا فيه - أن تضمنليس للقوانين العامة طابع تمييزي فيما يتعلق بأفراد وجماعات محددة بموجب مبادئ حرية الضمير والاحترام المتساوي. علاوة على ذلك، تُظهر حجة باري حول الإكراه أنه في بعض الحالات يكون مبدأ عدم التدخل كافيًا لتبرير إلغاء أو تعديل قاعدة عندما يتبين أنها غير عادلة. إذا كان ارتداء الحجاب الإسلامي لا يعيق المرأة عن أداء وظيفتها في متجر بيع بالتجزئة، على سبيل المثال، فيجب أن يحمي القانون حقها في القيام بذلك ليس بالضرورة لأن الدولة بحاجة إلى الاعتراف بقيمة هويتها الدينية أو معتقداتها الأساسية ولكن، يمكنها أن تفعل ذلك لأن التدخل في حريتها الدينة والضمير سيكون غير مبرر.
ومع ذلك، فإن تكيف تايلور يلتقط رؤية معيارية يغفلها المحايدون والتي لها صلة بالتوصل إلى قرارات عادلة ومفيدة في الخلافات المتعلقة بالدين. فكما يشير، على الدولة أن تكون محايدة لأن القوانين والمؤسسات العامة يجب ألا تمنح أي مجتمع ديني امتيازًا؛ ولكن التجاهل التام للتأثير التفاضلي للقوانين واللوائح يؤدي إلى تقييم غير لائق لدور الحياد والمعاملة العادلة. يمكن أن تؤدي القوانين واللوائح إلى ضرر معنوي وتمييز غير مباشر حتى لو كانت صحيحة بشكل عام ولا تستهدف بشكل مباشر أي مجموعة محددة.[29] الاعتراف بهذا التأثير التمييزي التفاضلي ومعالجته هو مسألة عدالة، علاوة على ذلك، يمكن أن يكون مفيدًا للتعاون الاجتماعي والعيش معا. عموما، لا يمكن التعامل مع قضايا تقع تحت هذه الحال من خلال تقييم الإكراه بشكل مجردة (وفقًا لاقتراح باري). فأولاً، يعتبر تقييم الإكراه سياقيًا، ويعتمد على تقييم مدى ملاءمة وقيمة أسلوب حياتهم ومعتقداتهم. ثانيًا، يؤدي تطبيق الاختبار السلبي للقسر فقط إلى إهمال الدور الذي يمكن أن يلعبه الاعتراف الإيجابي في بناء علاقات عادلة ومثمرة ومستقرة بين الجماعات أحيانًا. يحول موقف باري مبدأ الحياد إلى هدف في حد ذاته حيث يجب السعي وراءه بغض النظر عن السياق والتأثير، ويخلط بين المعاملة المتساوية ومبدأ القاعدة الواحدة للجميع.[30] ينتهي هذا الحياد الليبرالي بالعمى[31]عن الثقل الذي يمكن أن يؤديه تجنب الأذى الأخلاقي ومنح الاعتراف الرمزي في بناء علاقات تعاون اجتماعي عادل واستقرار سياسي.
ومع ذلك، يبقى السؤال الشائك عن تكيف تايلور هو التأسيس عندما يصبح سوء التعرف على معتقد ما أمرًا أخلاقيًا وسببًا لإجراء تعديل. بالنسبة لتايلور وماكلور، لفهم الضرر الأخلاقي بشكل صحيح، نحتاج إلى اعتباره معادلاً للضرر الجسدي الناتج عن سوء التعرف على حالة خاصة.[32].....
لكن التكافؤ بين نوعي الضرر بعيد كل البعد عن كونه بديهيًا.[33] يمكن التحقق من الأذى الجسدي بشكل موضوعي. لا يوجد اختبار مكافئ للمشكلة المثيرة للجدل المتمثلة في تقييم ما هو في الواقع معتقد أساسي، وما إذا كان يمكن أن يكون الاعتقاد الجوهري سببًا لمنح تكييف أو متى يمكن ذلك. يختلف الفلاسفة والمحاكم بشكل كبير حول هذه القضايا الحاسمة المتعلقة بمجال التفسير الفلسفي / القانوني، وليس بمجال الاختبارات العلمية الروتينية.
ج- معضلة االتوفيق:
يتمثل أحد الحلول البديلة للتكيف القوي عند تايلور في اعتماد معايير مختلفة وأكثر صرامة للاعتراف. ليس هذا النهج المتعدد المعايير غير مألوف في الممارسة القانونية.[34] عموما، لا يمكننا متابع المهمة المعقدة المتمثلة في إنشاء إطار عمل تقييمي لتصفية المعتقدات الأساسية التي تستحق الاعتراف وتبرير استيعاب الممارسات الدينية هنا بالتفصيل. فإذا كانت معايير التقييم هذه مقنعة فالواجب أن تتجنب ضيق الأفق بتفضيل نوعًا معينًا من المعتقدات والممارسات (الدينية). ويعتمد تعريفها على السياق وذلك لتنوع الترتيبات القانونية الموجودة مسبقًا والمكانة المختلفة للدين في كل مجتمع سياسي.
يشير معيار الملاءمة إلى المعتقدات والممارسات التي تلعب دورًا مهمًا في مجتمع المعتقدات تلك - أي المجتمع القادر على التعبير عن قصة أو سرد حدث ذي مغزى وموقف أمام الوجود والعالم. يستلزم التحقيق في أهمية المعتقدات والممارسات الأساسية تقييم مدى اتساقها وقيمتها الأخلاقية. ويتطلب تبرير الادعاءات التي يرفعها الأفراد بناءً على مجموعة متماسكة من المعتقدات التي يُعبًر عنها من خلال تقليد خاص بها من الاستقصاء الديني والأخلاقي. يوفر التقليد الداخلي للمجتمع خلفية من المناقشات وأساليب الحياة التي يمكن على أساسها تقييم القيمة الأخلاقية والوجودية للمعتقدات وممارساتها بشكل مناسب.
هل يخفف شكل من التكيف المحدود مخاوف المحايدين الليبراليين؟ لا توجد، كما نقترح، حجة كضربة قاضية لصالح أو ضد الحياد الليبرالي أو التكيف. يكمن ضعف الموقف الحيادي في أنه يمكن أن يؤدي إلى أشكال غير مباشرة من التمييز. من ناحية أخرى، ينطوي الشكل المحدود من التكييف في عصر التعددية المفرطة على خطر منح اعتراف خاص بمعتقدات محددة وتقويض الحياد والأندماج والاستقرار القانوني. فحتى التكيف المحدود أو المقيًد وغير الضيق لا يمكن أن يتعامل بشكل صحيح مع جميع مشاكل الانتشار والاستغلال. قامت العديد من مجتمعات المعتقدات الجديدة بالضغط على حدود المقاربة التوفيقية ؛ في حالة زيادة الفردية وتعدد المعتقدات، يصبح تحديد عتبة الملاءمة أمرًا صعبًا بشكل متزايد.. ...
وهناك صعوبة أخرى تتعلق في إن التكيف يحول المحاكم إلى مقيِّمين، مما قد يقوض حيادهم وثباتهم. تنطوي عملية التمييز النوعي على مخاطر التعسف واستبعاد المعتقدات والممارسات الأصلية وغير التقليدية ؛ علاوة على ذلك، لا سيما في الديمقراطيات التعددية والمعقدة، فإن إجراء التقييمات وفقًا لمعايير عامة ومستقرة يمثل تحديًا وطعنًا في جوهره. بينما أن الاستقرار المعياري والاتساق مرغوب فيهما، نجد النهج التوافقي يميل إلى توليد نهج يتعامل مع كل حالة على حدة مما يؤدي إلى عدم الاستقرار والتعسف.
استنتاج
بينما تقوم رؤية راولز وهابرماس للدين والسياسة على مفهوم كانط الإجرائي للعقلانية، تعيد تأويلات تايلور النقدية للحداثة صياغة مفهوم هيجل القائم على الاعتراف الأكثر حساسية لتضمين العقلانية والسياق التاريخي. إن "الواقع الروحي" و"التعالي" و"الرغبة في الخلود" مفاهيم غامضة في كتابات تايلور، ومع ذلك تحتل مكانة بارزة في الجدل ضد الأشكال المبتورة للعقلانية والدوغمائية الدينية. تأتي قوة الشكل الذي يقدمه من الليبرالية من عدم اختزاله الحرية في أي مفهوم محدد سائد في التقاليد الغربية (الفردية أو تحقيق الذات أو تقرير المصير) فهي منفتحة على أنواع مختلفة من البحث عن الامتلاء متمحورًا حول الذات الفردية أم لا. ولكن مع ذلك، آثار تكيف تايلور الشامل للغاية إشكالية لأنه يفتقر إلى معايير لتصفية وتمييز المطالبات ذات الصلة بالاعتراف ويمكن أن يؤدي إلى محاكم معطلة غير قادرة على التعامل مع التعددية المتزايدة للمعتقدات الصادقة.
تهدف رؤية تايلور إلى المساهمة في الفهم النظري والمصالحة العملية؛ ولكنه أيضًا نداء لاستعادة البعد الروحي الذي يميل إلى الخنق في الممارسة الفعلية للدين المؤسسي والفلسفة من خلال التركيز على الرموز والإجراءات على حساب تجارب التحول. إن الفلسفة السياسية، من هذا المنظور، ليست مجرد مسألة فهم على كرسي بذراعين؛ أن جزء اساس من أخلاق مشروع تايلور هو ضرورة تجنب اختزال الفلسفة الى مجرد حقل أكاديمي، واستعادتها كممارسة تحدث تغيير ملحوظ في المجتمع. ترتبط الأهمية المركزية للدين والروحانية في نقد تايلور للحداثة ارتباطًا وثيقًا بهذا الفهم للفلسفة كمعرفة ذاتية عملية ومشاركة نشطة. تعد مصائر مارتن لوثر كينج وغاندي نموذجًا يحتذى به للأحداث التغييرية التحويلية ونقطة تقاطع بين الدين والأخلاق والسياسة التحررية. تحتفي نصوص تايلور بالتعددية والتواصل المتبادل والدعوة - وإن كانت ضمنية - من أجل التجديد والتحول.
***
الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ
..........................
[1] للأطلاع على نقد نموذج الأعتراف بالأحترام أنظر:
Forst, R . (2014) Justification and Critique: Towards a Critical theory of Politics. Cambridge, UK: Polity Press.
[2] Habermas, J. (1987) The Theory of Communicative Action: Lifeworld and system. A Critique of Functionalist Reason, Vol. II. Boston, MA: Beacon Press.
[3] Okin, S.M. (2002) " ' Mistresses of their Own Destiny': Group Rights, Gender, and Realistic Rights of Exit", Ethics 112: 205-230.
[4] يوصي تقرير بوشار - تايلور بمتابعة التسويات التعاونية بين المواطنين في معظم الحالات، واستخدام المسار القانوني كاستثناء. لكن لا يخلو مسار المواطنين من الصعوبات. فقد يؤدي مسار المواطن في الواقع إلى تقوية الأغلبية على حساب حرية الضمير والحرية.
Bouchard, G., and Taylor, C. (2008) "Consultation Commission on Accommodation Practices Related to Cultural Differences, Building the Future: A Time for reconciliation. Report". The full Report is available online at: www.mce.gouv.qc.ca/publications/CCPARDC/ rapport-final-integral-en pelf (last accessed 29 March 2017).
[5] هناك اشكال أو صيغ أخرى قوية من التكيف والتوفيقغير صيغة تايلور التعددية، بالبعض الآخر محافظ ويتمحور حول تفضيل مؤسسة دينية معينة أو جماعة معينة.
[6]لا يمكننا الدخول هنا في نقاش تاريخي حول إعادة بناء تايلور للعلمنة في الغرب.
[7] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.726.
[8] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.404.
[9] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.769.
[10] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.21.
[11] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.632.
[12] يعترف تايلور في الواقع بهذا الغموض فيقول : بالطبع، أريد الاحتفاظ بمفهوم التعالي، على غرار تمييزي الأصلي بين النزعات الإنسانية الحصرية والشاملة، لأغراض أطروحتي الرئيسية. لكني هنا أريد أن أوضح إلى أي مدى تبدو فكرة التعالي غير واضحة وغير مرضية. Taylor, C.(2007a) A Secular Age.632.
[13] بدأ الحجة المتعالية من سمة من سمات تجربتنا غير قابلة للشك، ثم تنتقل إلى استنتاج أقوى يتعلق بطبيعة الموضوع وموقعه في العالم. يتم إجراء هذه الخطوة عن طريق الانحدار "إلى أن النتيجة الأقوى يجب أن تكون كذلك إذا كانت الحقيقة غير القابلة للشك حول التجربة ممكنة (وكونها كذلك، يجب أن يكون ذلك ممكنًا)". بعبارة أخرى، فإن الحجج المتعالية هي "تراجع من سمة لا جدال فيها للتجربة إلى أطروحة أقوى كشرط لإمكانية حدوثها". إنها تصوغ إنهم يصوغون "شروطًا حدودية يمكننا جميعًا التعرف عليها". فهي ليست "قائمة على أسس تجريبية، بل قبلية. فهي ليست مجرد احتمالية، ولكنها ثابته بشكل واضح لا خلاف عليه.
Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?".20.21.27. 32.
إنه خارج هذه الدراسة مناقشة صحة خط محاججة تايلور بشأن التعالي. ومع ذلك، يمكننا أن نفسر ذلك على أنه شكل ضعيف من استراتيجية محاججة التي لا تؤدي إلى بيان واضح ومفصل.
[14] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.331.
[15] Bernstein, R. (2008) "The Uneasy Tensions of Immanence and Transcendence", International
Journal of Politics, Culture, and Society 21(1): 11-16.13-14.
[16] Taylor, C.(2007a) A Secular Age.510
[17] Fraser, I. (2003) "Charles Taylor on Transcendence: Benjamin, Bloch and Beyond”, Philosophy and Social Criticism 29(3): 297- 314.
-Fraser, I. (2015) Dialectics of the Self: Transcending Charles Taylor. Exeter: Andrews UK Limited
[18] Casanova, J. (2008) "Secular Imaginaries: Introduction", International Journal of Politics, Culture, and Society 21(1): 1---4.2.
[19] انظر على سبيل المثال تحقيق جون جراي الرائع في كتابه:
John Gray, (2011)The Immortalization Commission: The Strange Quest to Cheat Death.
[20] أنظر:
John Gray's fascinating inquiry in his The Immortalization Commission: The Strange Quest to Cheat Death (2011).621.
[21] يقول تايلور: سوف يفترض المنظور الروحي أنه في مكان ما، في أعماقنا، سنشعر بالانجذاب للاعتراف والعيش فيما يتعلق بما يعرفه على أنه واقع روحي. قد نشعر بالانجذاب إليه، وقد نتحمس له، ونشعر بعدم الرضا وعدم اكتمالها بدونه. يتحدث الناس عن "السخط الإلهي"، عن "الرغبة في الحياة". قد يكون هذا مدفونًا في الأعماق، لكنه إمكانات بشرية دائمة. لذلك حتى الأشخاص الناجحين جدًا في مجال الازدهار البشري الطبيعي (ربما على وجه الخصوص هؤلاء الأشخاص) يمكن أن يشعروا بعدم الارتياح، وربما الندم، وبعض الإحساس بأن إنجازاتهم جوفاء.، فإن هذا القلق من وجهة نظر أولئك الذين ينكرون هذه الحقيقة الروحية المفترضة لا يمكن إلا أن يكون مرضيًا؛ إنها غير وظيفية تمامًا؛ يمكن أن تعيقنا فقط.
Taylor, C.(2007a) A Secular Age.620--621.
[22] لحجة مماثلة، انظر:
Abbey, R. (2014) T11e Return of Liberal Feminism. New York: Routledge.
[23] Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?",13-38.12..
[24] هناك اختلاف في التركيز بين "التقييمات القوية" و "المعتقدات الأساسية" المرتبط بالتحول من عمل تايلور المبكر إلى عمله اللاحق. يتم تضمين التقييمات القوية في الحياة المجتمعية، في حين أن المعتقدات الأساسية يمكن أن ترتبط فقط بنزاهة الفرد.
[25] Maclure, J. and Taylor, C. (2011) Secularism and Freedom of Conscience. Cambridge, MA: Harvard University Press.91.
[26]يجب استيعابهم طالما أنهم لا يدخلون في تضارب مع القيم الدستورية الأساسية.
[27] Barry, B. (2001 Culture and Equality: An Egalitarian Critique of Multiculturalism). Cambridge, MA: Harvard University Press.119.
[28] Nagel, T. (2012b) Mortal Questions. Cambridge, UK: Cambridge University Press.
[29] تحدث ماكليور وتايلور، لتأطير هذا الشكل من الأذى الأخلاقي، عن "الأهمية التي يحملها البعد الروحاني للوجود لبعض الناس، ونتيجة لذلك، أهمية حماية حرية الضمير للأفراد"
Maclure, J. and Taylor, C. (2011) Secularism and Freedom of Conscience. 58.
[30] Patten, A. (2014) Equal Recognition: The Moral Foundations of Minority Rights. Princeton, NJ: Princeton University Press.
كما يشير آلان باتن، "هناك ما هو أكثر من المعاملة العادلة من التطبيق الموحد لقانون واحد" 117, n. 23.
وبالنظر الى حالة المؤسسة ؛ يشير باري إلى أنه لا يوجد اعتراض شرعي قائم على الحياد للمؤسسة الدينية طالما أن القواعد والسياسات التي تشكل المؤسسة يتم تطبيقها بشكل موحد على جميع المواطنين. يعترض باتن على أنه، في ظل حياد المعاملة، فإن المؤسسة غير عادلة لأن الدولة تمنح شكلاً من أشكال الامتياز لدين معين لا توفره للآخرين.
[31] يقترح باتن أن المنظور الليبرالي الذي يركز على الحياد ليس بالضرورة معاديًا لحقوق الأقليات والتسويات الدينية. وهو يجادل بأن الحقوق الثقافية يتم تبريرها في الواقع من خلال مفهوم محدد للحياد الليبرالي يركز على حيادية المعاملة بدلاً من حيادية التبرير والآثار.
Patten, A. (2014) Equal Recognition: The Moral Foundations of Minority Rights.
[32] Maclure J. and Dumont I. (2017) "Selling Conscience Shore: A Response to Schuklenk and Smalling on Conscientious Objections by Medical Professionals", Journal of Medical Ethics 43 : 241-244.
[33] للمزيد من التفصيل عن هذا الموقف الليبرالي وفي ما يطلق علي فيشر : " التطوع السحري" أنظر:
Fisher, M. (2016) The Weird and the Eerie. London: Watkins Media Limited.
[34] على سبيل المثال، طبقت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أحيانًا، كجزء من تفسيرها القانوني، "اختبار كامبل"، الذي تنص المادة 9 من الاتفاقية الأوروبية على أنه لا يعترف إلا بالمعتقدات والمظاهر التي تصل إلى مستوى معين من "الحجة والجدية والتماسك والأهمية
Arguelles, E.E.V.I. (2016) "The Adjudication of Beliefs Before the European Court of Human Rights: Some Observations Against the Campbell Threshold", MA Thesis (unpublished).