أقلام فكرية
فلسفة السؤال ورحلة الرجوع للأمام
حريُّ بنا ما دمنا في عصر أضحى فيه (التفكير الناقد) فرض عين، وبات فيه التحليل والمراجعة ضربين من الثوابت التي لا غنى عنها لمن ينشر الحقيقة وليس الأوهام، أن نتسهل حديثنا بذكر إحدى نفحات (فلسفة نقد النقد) فنحاور قلمنا ونبادره بالاستفهام، هل هناك حقاً فلسفة للسؤال؟ ثم كيف الرجوع إلى الأمام؟ وهل العودة محمودة أم جمود وشرود عن سبيل التطوير والتحديث والارتقاء؟
فيجيب القلم أنني قد أسهبت في الحديث عن تلك الفلسفة، تلك التي فُطرت على طرح الأسئلة؛ بل إن شئت قُل إنّ الفلسفة قد ولدت من رحم الحكمة العقلية المستفهمة دوماً ساعية تلتمس المعرفة والعلم والعلل والنهوج وغير ذلك من المشارب والطعون التي تنميها وهي تُعين مُحبيها على السعي في دروب الوجود بكل ما فيه من واقعات وتصورات يلفظها العقل، فتقودني الذاكرة إلى ذلك المقال الذي نشرته على صفحات روز اليوسف فناقشت في المقال الأول المعنون بـ (من السؤال الفلسفي إلى فلسفة السؤال) ونُشر عام 2013م عن علة وغاية فلسفة السؤال وعبقرية أدوات الاستفهام، وانتهيت منه إلى طرح هذه التساؤلات:
- لماذا اتحد الأغيار وتآلفوا، وتفككنا؟
- لماذا تقدّموا وتطوروا، ونُكبنا وأخفقنا وتخلفنا؟
- لمَ نتجرع مرارة التآمر رغم معرفتنا بأن السم لا يأتي لنا إلا في العسل؟
- ثم من المسؤول عما كان وما هو كائن وما سوف يكون؟
- وماذا لو مات البطل أو اكتشفنا أنه مثل من سقطت أقنعتهم وانكشفت عوراتهم ؟
- وإلى متى سوف نتبادل التهم ؟
- وإلى أين تنزع مقاصدنا ؟
- وهل نحن أيقاظ في طرح هاتيك التساؤلات أم مازلنا في طور العبث؟
أما في المقال الثاني المعنون بـ (عودة إلى فلسفة السؤال) الذي نُشر في عام 2017م، فقد انصب حول السؤال باعتباره حواراً نقدياً مع الأنا، وخطاباً استنكارياً مع القلم المتمرد على واقع الأغيار، وانتهيت فيه إلى التساؤل من جديد : "هل في مقدورنا تفعيل وتطبيق فلسفة السؤال في حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية؛ لننتقل من طور الإجابات المحفوظة، والمعارف المغلوطة، والمعلومات المزيفة، والحقائق المبتورة، إلى آفاق فلسفة الإبداع؟ علماً بأن السؤال الفلسفي يراوغ ولا يكذب، لذا سوف يظل أهم من مئات الإجابات التي لا تخلو من الغش والكذب".
واليوم أُمسك بجرس التنبيه محذراً إلى الخطأ المتربص بنا لإهمالنا التدريب على فن صياغة السؤال وإدراك الحكمة من طرحه للوصول إلى الإبداع في انتقاء أدواته، وانصرفت جهودنا في معاهدنا الدراسية ومنابرنا التنويرية إلى حفظ إجابات المتلاعبين بالعقول، وعصبة من المشككين، وجماعة من المتعالمين، وحفنة من المتقعرين. حتى أنتهى الأمر بنا إلى بنية السؤال في الكُتب الدراسية في المرحلة الثانوية والجامعية؛ بل في أبحاث المتقدمين للترقية من المتخصصين في الفلسفة الذي راق لهم عنونة أبحاثهم (بإشكالية إحدى القضايا الفلسفية!).
ويُزَيّل قلمي ذو السن المشيب بأن هذا الحال يدفعه إلى الحديث عن رحلة الرجوع إلى الأمام؛ مُبيناً أن وقائع تاريخ الدرس الفلسفي في مصر يحثنا على فحص متنه لاستلهام العبر، والوقوف على إصلاح ما فسد وأنحدر. ومن المثير للتنكيت والتبكيت أن نجد جُل محافلنا الفلسفية في مطلع هذا العام تتأهب للاحتفال بذكرى اليوم العالمي للفلسفة الذي حدّدته اليونسكو بيوم الخميس الثالث من شهر نوفمبر من كل عام، وقد تمّ الاحتفال به لأول مرة في يوم 21 نوفمبر 2002م. أمّا عيدنا القومي ليوم الفلسفة في مصر- الذي نجهله - فهو ذلك اليوم الذي دعى فيه سعد زغلول أثناء توليه وزارة المعارف بضرورة إدراج مقرر الفلسفة في برامجنا التعليمية ولا سيما في مدارسنا الثانوية. وذلك في 24 سبتمبر 1907م حيث جاء في القرار الوزاري (تمت المواقفة على تدريس مادة الفلسفة في القسم الأدبي الثانوي، غير أن التنفيذ قد أرجئ لأول مرة عام 1909م حتى يتوفر من يقوم بالتدريس والمقرر المناسب لذلك). بيد أن ذلك لم يتحقق بصورته النهائية أي تدريس المعارف الفلسفية بمباحثها الرئيسة إلا في نظارة محمد حلمي عيسى الذي تولى نظارة المعارف في الفترة الممتدة من (1931- 1934م) وجاء في القرار (تمّت المواقفة على إدراج تاريخ الفلسفة النظريّة لطلبة القسم الأدبي للمرحلة الثانوية) وجاء في مقدّمة الكتاب الدراسي المقرّر أنذاك (أن الهدف من أدرجها في مقرر السنة النهائية هو إثارة تفكير الطالب، وفتح باب التفلسف أمامه، وتنمية قدراته العقليّة).
وقد تبارى أعلام قادة الرأي في الإشراف ومراجعة المحتوى المعرفي لبنية الكتاب المقرّر والأسئلة التي تذيل المذكرات التربوية للتدريب على الامتحانات، تلك التي تعبر بحق عن غاية السؤال الفلسفي، وتسعى في الوقت نفسه إلى تحقيق الغاية المرجوّة من دراسة المعارف الفلسفية التي تعمل بدورها على تثقيف الرأي العام، وشحذ العقول، وتنمية الملكات، وتهذيب القيم الأخلاقية، وترقية الأذواق.
وسوف نتحدّث بشيء من التفصيل عن تلك المحاولة الرائدة لصياغة السؤال الفلسفي لطلاب المرحلة الثانوية تلك التي ظهرت على صفحات مجلة الرسالة في الفترة الممتدة من (1948- 1950م) وذلك في الأعداد (760 -870) بعنوان (مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية) بقلم كمال دسوقي.
وحسبنا أن نشير في عجالة إلى تطور المعارف الفلسفيّة في البرامج الدراسية للمرحلة الثانوية، تلك الفترة التي شهدت مرحلة تواصل الأجيال المعاصرة بين الجيل الأول الذي يمثله أحمد لطفي السيد ومصطفى عبدالرازق، ثم الجيل الثاني الذي يمثله عثمان أمين وأحمد فؤاد الأهواني، ذلك الجيل الذي حمل الخطاب الفلسفي في الثقافة العربية باعتباره الآلية الرئيسة للتجديد والتواصل مع الأغيار، والنهج التربوي الذي يدفع الشبيبة للقيام بدورهم لمواصلة المشروع الحضاري.
وقد أنصب السؤال الفلسفي في الفترة الممتدة (1955-1965م) حول المفاهيم المصاحبة للتغيّر الاجتماعي والسياسي والثقافي (الوعي، الهُويّة، الوطنية القومية، الاشتراكية، الليبرالية، الشيوعية، موقف الفلسفة من القوة الرجعية، والاستبداد والعدالة، والاستعمار والحرية، وعبادة البطل، والثورة على الاستبداد والفاشية) وغير ذلك من عشرات المصطلحات التي أجتهد حملة الخطاب الفلسفي من التنويرين الذين قاموا بتدريس المعارف الفلسفية في الجامعة أو في المدارس النظاميّة، أو انصرفت جهودهم للكتابة في المجلات والجرائد والأحاديث الإذاعية. وأستمر الحال على هذا النحو وأمسى الخطاب الفلسفي أقوى الأليات للتفسير والتبرير وإعداد الرأي العام لمواكبة حركة التغيير. ولم تتوقف هذه الرسالة إلا عقب نكسة 67 : الفاجعة التي زلزلة بنية الجيل الثالث من قادة الرأي وتوقف على أثرها المشروع الفلسفي والمدارس التي كان يقودها رواد الاتجاه المحافظ المستنير، وإصابة المعارف الفلسفية بالوهن والضعف ليس في التعليم الثانوي فحسب؛ بل في شتى منابر التثقيف والاستنارة ولا سيما بعد كفر الأبناء بما كان يؤمن به الآباء، فظهرت خطابات التبعية وجماعات التغريب وعصابات التطرف. وراح أصحاب الأقلام يزعمون بأنهم أحرار الفكر الجُدد وحملة لواء التحديث والعلم والثورة على القيم الموروثة التي هوت بهم إلى آتون التيه والتشرذم وأوهام الفهم التي عجزت عن بلوغ اليقين، ويبدو ذلك بوضوح في كتابات دعاة الوضعية والفلسفة المادية والنزعات الوجوديّة، والفلسفات الإلحادية المناهضة للفكر السائد في العالم العربي، وعلى الجانب الآخر العصبات الظلامية المروجة للفكر الوهابي المعادي للنظر العقلي والدرس الفلسفي.
وإذا نظرنا في الكُتب الدراسية عقب ثورة يوليو 1952م فسوف نجد تحولاً في المحتوى المعرفي للكُتب الفلسفية في المرحلة الثانوية، وذلك لظهور كتاب "مشكلات فلسفية" (1954-1955م). وذلك للمقابلة بين نهج الفلاسفة وأسلوب علماء النفس في معالجة المشكلات الإنسانية (الأخلاق، التفكير، النفس)، ثم أستبدل عنوان الكتاب بـ "مسائل فلسفية" (1955-1956م)، ولم يضف هذا التغيير شيئاً يذكر عن وجهة متن الكتاب السابق إلا بعض المعلومات عن تاريخ القضايا الفلسفية ومشكلاتها، ومبحث المعرفة ومبادئ المنطق. وفي الفترة (من 1958إلى 1964م) أضحت مادة الفلسفة مقرراً أساسياً في المنهج الدراسي للتعليم الثانوي بشعبتيه العلمي والأدبي، وقد وضع كتاب "الثقافة الاجتماعية" للصف الثاني الثانوي الشعبة العلميّة، وأنصب متنها حول معالجة ثلاثة موضوعات (التفكير العلمي، قواعد الأخلاق، وقضية الحرية والنضال ضد الاستعمار والاستبداد). ويؤخذ على هذا المحتوى أنه أقرب لأسلوب التلقين والفكر الموجه منه إلى الوعي الحر وبناء العقل المستنير.
وفي عام (1959-1960م) حدثت الانتكاسة الأولى للفلسفة، وذلك عندما جُعلت المعارف الفلسفية مقرّراً اختيارياً تنافسياً مع مادة الاقتصاد. وقد غضب معظم أساتذة الجامعة لهذا التغيير، وعبروا عن ذلك في كتاباتهم الصحافيّة وخطاباتهم للحكومة حتى تراجعت عن ذلك الإجراء. وأضحت الفلسفة تدرّس في القسم الأدبي للصف الثالث الثانوي فقط. وأنصب المنهج على دراسة التفكير المنطقي وقضايا علم النفس والقيم الأخلاقية والمبادئ الروحية، وذلك في كتاب مبادئ الفلسفة.
وفي الفترة الممتدة (من1965إلى 1970م) أنصبت قضايا الفلسفة في الكتاب المقرّر على قضايا الاشتراكية، ومحاربة الفساد، والإيمان بمبادئ الثورة، والولاء والانتماء القومي. ويبدو ذلك في كتاب (الأصول الفلسفية للتربية) للتربوي المخضرم سعيد إسماعيل علي. وفي هذا الطور لم تتحرّر الفلسفة من قيد التوجيه في الكتب الدراسية في المرحلة الثانويّة. وذلك في كتاب "الفلسفة" الذي صدر عام 1965م. الذي أضحى مُقرراً على الصف الثالث الثانوي من القسم الأدبي. وأشتمل الكتاب على معالجة ثلاث موضوعات هي (التفكير الفلسفي والعلمي، خصائص التفكير الفلسفي، بعض المشكلات الفلسفية الكبرى) وذلك كله بمنهج تلقيني مُوجّه. وقد أعترض أكابر المعنيين بالدراسات الفلسفية في مصر والعالم العربي على المحتوى المعرفي والأسلوب التلقيني التي اصطبغت به فصول الكتاب. ذلك فضلاً عن تعرض بعضها لفلسفات واتجاهات مناهضة للفكر السائد الذي سعى الكاتب لترسيخه في أذهان الدارسين؛ الأمر الذي تسبّب في بلبلة أفكار الطلاب وتشتت آرائهم. وأضحى هذا الكتاب مسار تساجُل الكُتاب المحافظين والتغريبين الحداثيين على صفحات الجرائد عام 1970م.
وأنتهى المتناظرون إلى أن هذا الكتاب سوف يحث الطلاب على كراهية الفلسفة والابتعاد عن مسائلها المعقدة. ورغم ذلك ظل هذا الكتاب يُدرس حتى عام 1976م؛ الأمر الذي أسهم في ذيوع الادعاء الكاذب والاتهام الجاهل في أذهان العوام والعديد من المثقفين بأن الفلسفة ولدت في برج عاجي، وأن الفلاسفة أصحاب تصورات خيالية وقضايا معقدة اصطنعوها للفت الأنظار إليهم من جهة، وتبرير استعلائهم على الجمهور من جهة أخرى.
ومن المؤسف أن نجد هذا الزعم قد لاقى رواجاً في الرأي العام، فأستحسنه الراديكاليون والرجعيون والجامدون في المعاهد الدينية، وبات كذلك مسار سخرية من المتفكهين الساخرين والمتحذلقين. وأصبحت الفلسفة مرادفة للسفسطة في عيون الراغبين للالتحاق بكلية الآداب ودار العلوم والتربية، أمّا أرباب الخطاب الفلسفي الجدد؛ فكانوا مشغولين بترميم مشروعاتهم المزعومة وأفكارهم المشوهة وآرائهم المستوردة من محافل الحداثيين، والماسونيين، والمنظمات الإلحادية، والكتابات الوجودية الغربية المعاصرة. وقليل منهم ألتزم الصمت ليتمكن من الانسحاب الهادئ من تلك المهزلة التي دفعته أحياناً للسير خلف نعش المشروع الفلسفي المصري.
وفي وزارة مصطفى كمال حلمي للتربية والتعليم في الفترة الممتدة (من 1974إلى 1977م) صدر قرار وزاري في 2/2/1975م بتشكيل لجنة لمراجعة مناهج الفلسفة. وفي عام 1976م، تم تعديل برنامج تدريس المعارف الفلسفية على هذا النحو (منهج مسائل فلسفية للصف الثالث الثانوي أدبى مستوى عام، ومنهج فلسفة القيم للصف الثالث الثانوي أدبى مستوى خاص، ومنهج المنطق ومناهج البحث (مبادئ التفكير العلمي) للصف الثالث الثانوي أدبى مستوى عام. وقد أشتمل المنهج الفلسفي المُعدل على تاريخ المذاهب والاتجاهات، والمدارس الفلسفية الكبرى على مر العصور.
ويمكننا أن نلاحظ أن الفترة من 1965م إلى 1976م تُعد أكثر السنين إظلاماً وأفولاً للمعارف الفلسفية وهي نفس الفترة التي غاب فيها الرواد الإوُّل الممثلين للمشروع الفلسفي في النصف الثاني من القرن العشرين؛ الأمر الذي ساهم في عودة الفكر الرجعي الراديكالي الإظلامي المتطرف لمغازلة الرأي العام وإقناعه بأنه يمتلك الحل والنجاة ممّا أصاب مصر عقب عام 1967م.
(وللحديث بقيّة)
***
بقلم : د. عصمت نصّار