أقلام ثقافية

محمد العرجوني: قراءة في قصيدة الشاعرة سنيا الفرجاني.. إعادة ترتيب الكون الثنائي

الرجال يدخلون قلوب النساء

كما يدخل جيش إلى مدينة نائمة

يرسمون أعلاما

ثم يرحلون من دون تلوينها.

**

القصيدة الاولى من ديوان قادم:

"أرفع قميص العالم لأرى أين يخبئون الشمس"

**

يبدو النص كذرة حسية ذات شحنة دلالية تتردد بين اختيارين: إما أن تكون انشطارية أو اندماجية، وفي كلتا الحالتين، تؤدي إلى تشظ قد يعيد ترتيب الكون الثنائي، المكون من ذكر وأنثى. تشظ، تذيعه بصوت مرتفع تلك الصورة التي تفاجئنا بها الشاعرة، بتشبيهها "دخول الرجال قلوب النساء"، ب"جيش يدخل إلى مدينة نائمة". فالصورة، التي تتشكل من صورتين، بقدر ما تجعل من الأولى: "قلوب النساء"، مكانا للحب والهدوء والارتياح والطمأنينة، بل والحياة بصفة عامة، لأن النبض/القلب هو الحياة، بقدر ما تخرق هذه القاعدة، بصورة ثانية، حيث يصبح الرجال "كجيش يدخل مدينة نائمة". وبحضور الجيش، تُفتقد الحياة. فتتراءى لنا "ر" لتقسم ظهر هذا الحب الذي يرمز إليه القلب. فبحرفه الأول "ح" المنطوق على مستوى الحنجرة، بفضل تسرب قليل من هواء الرئتين نحو الخارج، يجعلنا "الحب"، نتلذذ من عذوبة الانتشاء به، ونحن داخل القلب. ثم، هذا التسرب سرعان ما تنغلق عليه الأبواب لحماية ذلك الإحساس الداخلي، حيث تأتي: "ب"، وتسد الشفتين، خاصة وأنهما تنغلقان بقوة تفيدها تلك الشدة التي تبدو كتاج فوق "بّ". وهكذا يكون التتويج بين عنصري الكون الثنائي.  وهذا ما يمكن استخلاصه من "دخول القلب".

لكن لهذه الكلمة التي تستقر بالقلب، سحر آخر. بإمكانها أن تشعل فتيلا لا تخمد ناره. تحرق الأخضر واليابس. بدخول حرف "راء" حيث يصبح الحب....حربا. هكذا نجد ثنائية: حب/حرب. داخل القلب. تحشر الراء أنفها، وتشعل النار في الحب. كم من حرب اشتعلت بالحب، وكم من حب نما على بقايا حرب!! فالتاريخ حافل بمغامرات هاتين الكلمتين. يكفي التذكير ب: "هلين وحرب طروادة". وهذا دليل آخر على أن نسبة الاعتباطية حينما يتعلق الأمر بسحر الكلمة، ضئيلة جدا. فاستحضار الجيش إذن جعلنا نخرج من المتداول بفضل هذا النوع من اللعب بالكلمات، لعب ممتع لدرجة أنه يصبح ضرورة ملحة لاكتشاف ما تخبئ لنا الكلمات من دهشة، كما هو الحال هنا مع هذا النص/الذرة، نص كمومي بامتياز.

لكن سرعان ما تنمحي فكرة الحرب. فدخول الجيش لهذه المدينة النائمة، تم بعملية مسالمة، والحرب التي اعتقدناها، لم تتم. لكن أفضت هذه العملية المسالمة إلى استيلاء على المدينة، أي على القلوب، وهو ما ترمز إليه "الأعلام المرسومة" التي ترمز إلى الامتلاك. إلا أن هذا الاستيلاء، يبدو وكانه رمزي فقط؛ لأنه من جهة بقيت الأعلام بدون تلوين، ما يعني أنها حافظت على لونها الأصلي، والذي لن يكون إلا أبيضا، ما يدلنا على أن هناك استسلام، ما دامت المغادرة أو إخلاء المدينة من قبل الجيوش واردة في النص: "ثم يرحلون من دون تلوينها".

فالنص يبدو وكأنه ذرة فعلا، لا يمكن القبض عليه بشكل نهائي، مادام التضاد يؤطره، فيلعب على أعصاب المتلقي بهذه الانزياحات التي تؤدي إلى انزلاقات: قلوب النساء = مدينة نائمة، الرجال = جيوش. فننتظر نشوب الحرب. فإذا بهم يرسمون أعلاما من غير تلوين، فيرحلون.

فنتساءل في الأخير: ما مصير المدينة/ قلوب النساء؟ وما مصير الرجال/ الجيوش؟ فهل الرحلة بلا رجعة؟ ماذا يمكن لنا أن نستشف من هذه النهاية المفاجئة؟ عن أي احتمالات يمكن لنا الحديث؟ هل هو خطاب نسواني؟ يثير تلك الرغبة "الأمازونية" التي تحدثت عنها الأساطير، خاصة الميثولوجيا الإغريقية. أي الحلم بمملكة الأمازونيات المحاربات عن كرامتهن وخصوصيتهن. وفي هذه الحالة ربما نشهد تفاعلا انشطاريا. أم هي دعوة إلى السلم والاندماج في كون واحد ذي قطبين منسجمين وليس متنافرين؟ وهي حالة التفاعل الاندماجي، وهو ما يبدو جليا من رمزية الأعلام غير الملونة، بل ويمكن القول، غير المتلونة، لتحافظ على اللون الأبيض، رمز السلام والاستسلام الثنائي. فمن جهة فالمدينة نائمة، وهو استسلام من قبل قلوب النساء، ومن جهة أخرى فالجيوش راحلة من غير تلوين الأعلام المرسومة، وهو استسلام من قبل الرجال.

وهكذا تنسجم عناصر النص/الذرة، فيحدث الالتئام والوئام.

***

محمد  العرجوني

........................

* عن صفحة الشاعرة: فيس بوك

في المثقف اليوم