أقلام ثقافية

سوف عبيد: في مقهى النّوفرة بدمشق

دمشق 2018

ما كدت أدلف خطوتين أو ثلاثا في بهو ـ فندق الشام ـ حتى هرع نحوي بالأحضان الصديق الأديب الفلسطيني حسن حميد سائلا عن أحوالي وأحوال تونس وأدبائها الذين يعرف الكثير منهم ثم التقيتُ بصديقي الشاعر العراقي جبارالكوازالذي لقيته أول مرة في بغداد سنة 1984 بمناسبة المهرجان الأول الشباب

واحسرتاه على ذلك المهرجان وعلى أيامه ولياليه التي قضيناها بين شعر وندوات ورحلات وسهرات

والحق أنّ صديقي جبار الكواز هو الذي تعرّف عليّ الأول فناداني وهو الذي لم يرني منذ تلك السنة متعجّبا من شعري الذي غدا أبيض

تلك هي سنوات العمر

مضت سريعا

لم تترك وارءها إلا القصائد والذكريات

إن مثل هذه اللقاءات بين الشعراء والأدباء العرب مناسبة مهمة للتعارف ولتبادل الإصدارات التي لا تنتشر في أرجاء البلدان العربية وحتى المعارض التي تنتصب هنا أو هناك ليس بوسعها أن تفي بالحاجة بسبب الرقابة الصارمة واِرتفاع تكاليف نقل الكتاب

من أصدقائي القدامى الذين لقيتهم في دمشق الأديب رشاد أبو شاور الذي ما أن أتممت قراءتي الشعرية حتى هرع إليّ مبتهجا بما سمع ثم ونحن جلوس في البهو اِسترجع بحنين ذكرياته في تونس من حين نزوله من الباخرة التي نقلته مع المقاتلين الفلسطنيين بقيادة الزعيم ياسر عرفات من بيروت نحو بنزرت سنة 1982 إلى أن عاد إلى الأردن غير مطمئن إلى الاتفاقيات التي أبرمتها المنظمة في أوسلوا وقتذاك ولم يكن الوحيد من الأدباء الفلسطينيين الذين أبدوا احترازهم من تلك الاتفاقية وذكر لي أن صديقنا الشاعر أحمد دحبور قد مات وفي صدره غصّة خانقة من الوضع الذي آلت إليه الحالة الفلسطينية

لا شك أن الانفسام بين الفصائل الفلسطينية والذي وصل أحيانا إلى الاقتتال هو من أهمّ الأسباب التي جعلت القضية تتخبط في المعاناة بعد المعاناة فعندما يتوحدون ويتحالفون ضمن جبهة واحدة آنذاك سيجدون درب النصر

كان يمكن لرحلتنا أن تكون من تونس إلى دمشق مباشرة مثلما كانت من قبل ولكن حكومة الثلاثي الحاكم بعد 14 جانفي 2011 أسرعت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا مما نتج عنه انقطاع الخط الجوي المباشر ناهيك عن المعاناة الأليمة التي يتحملها آلاف التونسيين المقيمين في سوريا للعمل أو الدراسة وتلك هي عواقب اتخاذ الإجراءات المتسرعة وغير المسؤولة والتي لا تراعي المصلحة الوطنية بل هي بسبب إملاءات وولاءات ما كان لبلادنا أن ترتهن لها فمن الأجدر بها أن تظل تونس منتصرة لقيم الحرية والعدالة والتعاون والحوار فتكون بذلك مساعدة على التقارب والتفاهم بين مختلف الأطراف سواء بالنسبة للشأن الداخلي لكل بلاد أو بالنسبة للخلافات بين بقية البلدان إذا ما اِستوجب الأمر ذل

تلك هي دمشق اِحتفلت كعادتها بالشّعر والأدب فالحياة فيها نابضة دافقة وقد تأقلمت مع ظروف الحرب فالأسواق عامرة والشوارع ناشطة والأرصفة مفروشة بالكتب واللّعب ولابدّ من مقهى النّوْفرة

و ما أمتع الجلوس ساعة في النّوْفرة بعد أن دخلتها من سوق الحميديّة ووقفت للحظات عند تمثال صلاح الدين الأيوبي ثم زرت الجامع الأموي وصلّيْت فيه ركعتين وهو الجامع الذي يمكن اعتباره تحفة فنية وذاكرة معمارية للحضارات التي عرفتها دمشق

مقهى النّوْفرة

أعود إليه بعد عشرين عاما فأجده كما هو يختزن ذاكرة ويبعث الصّفاء والمسرّة رغم كراسيه الخشبيّة القديمة وطاولاته الحديديّة المتهالكة ولكنّ كأس الشّاي المنتصب فوقها يعطي لها بهاء فلا تجده إلا في بعض مقاهي مدينة تونس العتيقة أو في حيّ خان الخليلي بالقاهرة

مقهى النّوفرة

والجالسون فيه من كل الأعمار

***

سُوف عبيد

في المثقف اليوم