أقلام ثقافية

ناجي ظاهر: درس في كتابة الرواية

ايهما افضل، الرواية متشعبة الاحداث متعددة الابعاد، / أم الرواية المُركّزة المُكثفة ذات الاحداث القليلة لكن المُعمقة؟.. سؤال شغل العديدين من الكتاب والقراء على حدّ سواء، ما جعل هؤلاء وأولئك ينقسمون إلى قسمين، أحدهما يأخذ بهذا الرأي والآخر يأخذ بالرأي الآخر، بناء على هذا انقسم القراء إلى قسمين أو مجموعتين، احداهما تميل إلى رواية الاكشن والاثارة متعدّدة الاحداث، والأخرى تفضّل الرواية قليلة الاحداث مُركّزتها وذات القدرة الخاصة على الغوص في مجاهل النفس البشرية ومتاهاتها المُركّبة المعقدة.

بما أن هذا السؤال احتوى ما احتواه من خلافات بين الكتاب أولًا والقراء ثانيًا، فإنه لا بُدّ لنا من العودة إلى التساؤل الخالد عن الماهية، وهي هنا ماهية وجوهر الكتابة الروائية، فماذا يُريد الروائي حين يُقدم على كتابة الرواية؟.. وهل هو يريد ان يوصل رسالة ما تشغله وتحيّر باله؟.. هل تشعُّب الاحداث هو ما يُثير الكاتب وقارئ الرواية بصورة عامة؟.. فيما يلي نطرح رأيين متخالفين ومتعارضين، ونقدّم على كلّ منهما مثالًا شائًعا منتشرًا ومقبولًا، مُردفين هذين الرأيين براي اخر يتوسّطهما. بعد ذلك نتوصل الى نتيجة، نأمل ان تكون منوّرة ومُرضية للجميع كتابا وقراء.

ممن يأخذ بالرأي القائل بأهمية الاحداث المتشعّبة المتعدّدة والمثيرة، بإمكاننا الإشارة إلى قراء الروايات البوليسية، لكلّ من مؤلفيها مثالًا لا حصرًا كونان دويل، او اجاثا كريستي، او جورج سيمنون، ومَن إليهم مِن كُتّاب الرواية البوليسية.. فهؤلاء القُراء ينتشرون في شتى بقاع العالم، ويفرضون وجودهم الثقيل في إقبالهم على قراءة الروايات المذكورة، حدّ أن ما يُوزع من هذه الروايات يتجاوز في اعداده الآلاف والملايين من النُسخ!.. ويُذكر في هذا السياق أن هناك كُتّابًا من ذوي الوزن الثقيل، أمثال الفيلسوف الفرنسي الوجودي البارز جان بول سارتر كان من قراء هذه الروايات، وقد لا نبتعد كثيرًا في تبيان مواقف أصحاب هذا الرأي إذا ما أشرنا إلى العديد من الروايات العالمية البارزة والمقروءة في شتى اصقاع العالم، مثل الحرب والسلام للكاتب الروسي ليو تولستوي، او رواية فاتنة الرجال للكاتب الأمريكي جون شتاينبك، تنتمي إلى هذا النوع، متعدد الاحداث متشعبها، كما سبقت الإشارة. فالأولى تتحدث عن الاحتلال الفرنسي للبلاد الروسية، والثانية تتحدث عن القراصنة ومغامراتهم البحرية المتعددة والمثيرة.

في المقابل لهذا الرأي هناك مَن يرى خلافًا لهذا الرأي، فيذهب إلى أن التغلغل في أعماق النفس البشرية والتسلّل إلى متاهاتها بعيدة الاغوار، هُم المحقون. من هؤلاء نشير إلى قُرّاء الروايات الحديثة التي تمّ اعتبارها منذ صدورها قبل نحو المائة عام، مثل رواية يوليسيس للكاتب الايرلندي جيمس جويس، او رواية البحث عن الزمن الضائع للكاتب الفرنسي مارسيل بروست، الذي اعتبره العشرات من النقاد والدارسين الادبيين، علامة فارقة في تاريخ الرواية، فهاتان الروايتان اللتان تُعتبران مِن العلامات الفارقة في تاريخ الرواية الحديثة، رواية القرن العشرين تحديدًا، وكلٌّ منهما تحتوي القليل من الاحداث الخارجية/ الاكشن، بل إن رواية يوليسيس تدور احداثها في يوم واحد، 24 ساعة فقط، علما أنها رواية ضخمة تقع في مجلدين اثنين.

بين هذا الرأي وذاك وُجد رأي آخر، يمكن اعتباره وسطيًا، هو رأي العديد من الكاتب والباحثين الادبيين، ينتصب واقفا في مقدمتهم الإنجليزي ليون إيدل، الذي ضمّنه كتابه الفاتن عن" القصة السيكولوجية"، مؤلف هذا الكتاب يرى، بكثير من الحق، أن الادب ما هو إلا تجربة إنسانية يصوّرها صاحبها الكاتب ويعبّر عنها في رواية قد تكون ذات أحداث متشعّبة مثل رواية الحرب والسلام المذكورة آنفًا، أو قد تكون رواية تيار الوعي، مثل رواية عوليس المشار إليها سابقًا. فماذا أراد صاحب هذا الرأي أن يقول؟.. يُجيب هو عن هذا السؤال قائلًا ما مُفاده، إن رواية الحرب والسلام، مثلًا، تختلف عن سواها من العشرات والآلاف من الروايات التي كتبها جنود مُضمّنين إياها ذكرياتهم بكلّ ما حفلت به من أحداث بانها لم تشمل التجارب الروائية المتعمقة والرائية لعمق الحياة والحرب مثل رواية الحرب والسلام. ويذكّر هذا الرأي برأي آخر هو رأي الفيلسوف والمنظر الادبي الاغريقي العظيم أرسطو طاليس في كتابه الخالد عن" الشعر". فهو يرى أن الكتابة الأدبية بعامّة إنما تسعى إلى نقل تجربة مُتعمّقة ووُجهة نظر حسّاسة متخيّلة ومُميّزة في عرض صاحبها لها، بمعنى أن الكاتب المُبدع إنما يصوّر ويجسّد فيما يُنتجه من أعمال أدبية ما هو مُحتمل الوقوع وليس ما سبق وحدث!

إلى ماذا يُمكننا أن نَخلُصَ مِن هذه الآراء المتضاربة، المتفارقة، تباعدًا وتقاربًا؟.. يُمكننا أن نَخلص إلى الرأي التالي، ممثّلًا في عدد من النفاط، هي:

*ان العمل الروائي، قد يكون قليل الاحداث وقد يكون في المقابل مُتعدّدها، غير أنه لا هذا الرأي يحسم النفاش بين المختلفين، وإنما يحسمه العُمق في تناول التجربة الإنسانية المتخيّلة والنامية وفق حَبكة أحسن صائغها نسج أطرافها، وقدّمها إلينا نحن القراء، على طبق من عُمق في التناول ودقة في العرض، وهو ما يؤدي بالتالي إلى إحداث ما يرمي إليه كاتب الرواية من تأثير وأثر في نفوس قُرّائه. علمًا أن هناك نقادًا يتحفّظون على رواية الاكشن/ أو البوليسية ويخرجونها بالتالي من دائرة الاعمال الأدبية رفيعة المستوى.

* ومن هذه النقاط المُميّزة للعمل الادبي الإبداعي الروائي، أن الرواية ليست موضوعًا فحسب وإنما هي صياغة في الأساس، بدليل أن الموضوع قد يكون واسعًا، كبيرًا وشاغلًا للجميع، وعندما يُقبل على كتاباته وعرضه في رواية كاتبان، يُمكننا ملاحظة أن أحدهما أبدع أيما ابداع، وأن جظ الابداع لم يُحالف الآخر. ويُذكّر هذا بما تردّد لدى نقادنا العرب القدماء، مثل ابي عثمان ابن بحر الجاحظ، عندما قال كلامًا مفاده أن المعاني مُلقاة على قارعة الطريق، غير ان المبدع الحقيقي، هو الذي يتمكّن من تقديم صياغة مترابطة متماسكة لها.

* ومن هذه النقاط التي تُرسخ مفهوم الرواية لدى كُتّابها وقرائها على حدٍّ سواء، هو التغلغل إلى أعماق النفس البشرية، وذلك عبر تصوير التجربة المتخيلة، ومحتملة الوقوع، سواء كانت مُتعدّدة الاحداث ومُتشعبتها، أو كانت مَحدودة الاحداث مُتعمّقتها، فلكل من هذين النوعين من الروايات قراؤهما، علمًا أن قُرّاء الرواية الحديثة باتوا، كما تدُل التجارب، أقرب إلى الرواية النفسية، قليلة الاحداث لكن عميقتها، في التجربة والعرض، بدليل أن الروايتين المذكورتين آنفا، أقصد روايتي يوليسيس والبحث عن الزمن الضائع، باتتا منذ صدورهما في القرن العشرين المنصرم للتوّ، روايتي القرن والحداثة الأدبية في الآن ذاته.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم