أقلام ثقافية
علي الجنابي: وإنَّما زينَةُ الحَواجبِ العَوَجُ

حدثني فقال: قال القسيمُ الوسيمُ ﷺ: (استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خُلقت من ضِلْعٍ، وإنَّ أعوجَ ما في الضِّلْعِ أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمُهُ كسرتَهُ، وإن تركتَهُ لم يزل أعوجَ، فاستوصوا بالنساء خيراً)، فقلتُ لهُ: وإنَّما زينَةُ الحَواجبِ العَوَجُ، ثمَّ استدركتُ مِن فوري أنَّ هذا القولُ يا صاحبي بحواجبِ الإماءِ لا يتغزَّلُ، بل هوَ بمضارب مُفردةِ (العوج) يتنزَّلُ، وهاكَ تفسيرَها بحرفٍ عَفيفٍ خَفيفٍ لطيفٍ يتجزَّلُ..
فأمَّا العَوَج؛ بفتح العينِ فنقوله لشيءٍ ملموس: (في قوائم الدابة عَوَج، في جدارِ الدار عَوَج،..). وأمَّا العِوَج: بكسر العين فنقوله لشيءٍ محسوس؛ (تَبْغُونَهَا عِوَجًا)، (أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا)، (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)، (لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا). فردَّ عليَّ صاحبي بحاجبٍ مُقطَبٍ ولسانٍ مُتأوِّل؛
مهلاً يا صاحُ، فأنا لستُ من قومٍ ذي فكرٍ عِوجٍ أينما تَحوَّلوا يَتَحوَّل، في ذا دهرٍ ضريرٍ ذي طَرفٍ عَوَجٍ، ومريرٍ ذي عُرفٍ عِوَج يتغوَّل، وتراهُ مُتلهفٌ ومُغرمٌ بفكرِ عمائم ضالةٍ مُضلة ذواتِ ذكرٍ مُتسوِّل، فحذارِ حذارِ من تدليسٍ عليَّ من مثل ذكرِ العمائم المُتَعلعل، فإنَّ آيةَ (لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) تصفُ نسفَ الجبالِ، وإنَّما الجبالُ شيءٌ ملموسُ لكلِّ ناظرٍ مُتَجوِّل؟!
فزعتُ وما جزعتُ من صلابةِ ردِّهِ المُتشَكِّل، فنزعتُ الى ردٍّ باللينِ الوَدودِ مُتبلِّل:
- أجل يا صاح، وحاشا للهِ أن أكون ذا عمامةٍ مُدَلِّسةٍ تتقوَّل، أو حتى غيرَ مُدَلِّسة تلتقطُ اللقطةَ كي تتأوَّل، لكنِ الأمرُ ليس كما ذهبتَ فأشهبتَ بردٍّ مُتنفِّل، بل فيه نكتةٌ لطيفةُ بديعة تأسرُ ذا اللبِّ المُتأمِّل، ذلك أنَّ ربَّنا اللهَ ﷻ سوف ينسفُ الجبالَ فيجعلُها قاعاً صفصفاً لا يمكن لحسِّكَ أن يشعرَ بعِوَجٍ فيها محسوسٍ متأصِّل، فضلاً أن تنظرَ عينكَ على عَوَجٍ ملموسٍ مُتحصِّل، وهكذا فَسَّرَ سيد صنعةِ الضَّاد "الزمخشري" من قبلُ في تفسيره "الكشاف"، إذ قال وهو بميدانِ البيانِ يتجوَّل:
[..لو انكَ عَمدتَ إلى قطعة أرض وبالغت في تسويتها على عيون البصراء، واتفقوا على أنه لم يكن فيها اعوجاج، ثم استطلعت رأي المهندس فيها، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية، لعثر فيها على عوج لا يدرك بحاسة البصر. فنفى الله ذلك العوج الذي لطف عن الادراك إلا بمقاييس الهندسة. وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الاحساس لحق بالمعاني، فقيل: فيه (عِوَج) بالكسر].
ردَّ صاحبي يلتمسُ منيَ العذرَ وقد قذفني بعار عمائم التدليس المُتطفِّل. فأجبتُ بحرفٍ جميلٍ مُتجدِّل؛
لا عليكَ يا صاح، فلا لومَ على العمائمَ ذواتِ الذِكرِ المُتَسوِّل، لأنها لا تجرَّأ على دسِّ تدليسها على قوم ذوي فكرٍ نبيلٍ متأصِّل، حتى تستيقنَ أن أولئك القوم قومٌ مُرجفونَ مُرحِّبونَ بل مُغرَمون بكل ذرفٍ عِوَج مُتَبَدِّلٍ مُتجوِّل، ثم تراها - اي العمائمَ - منطلقةً في كل طريقٍ عَوَج مُتغوِّل.
انتهى الحوار مع صاحبي النبيهِ المًتفضِّل، وغادرَ الدار فبادرتُ لزوجي حذوي آمراً لها بقولٍ في الودِّ كفيف متهدِّل : "آتنا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِيتُ مِن حِواريَ هَٰذَا نَصَبًا، أوَما تَرَينَ حاجبَ السَّاعةِ قد غمزَ للرابعةِ عصراً، أمَا وإنكِ لزوجٌ عَوَجٌ عِوَجٌ عُوُجٌ عُوَجُ وعِوُجٌ، ولبئس يومُ العرس ذاك، إذ كانَ يومَ نحسٍ مستمرٍّ وذا نوءٍ عِوَجٍ غيرِ مُستقرِّ أهوج؟ فردَّت عليَّ زوجي بتَغَنجٍّ مزعجٍ يَبَسٍ بئيسٍ ذي عِوَج:
- وهلِ تهي (الشخابيط) التي تكتبها قدِ اسْتَنْزَفَت قواكَ وجعلَتكَ جائعاً يا بَعليَ ذي الفكرِ الأعرج، والذِّكرِ الرجرَج؟
واهٍ ثم آه!
ما أرانيَ إلّا قدِ اقترنتُ بزوجٍ همج، العمائمُ أهونُ منها حديثاً وأبلج، ولكن..
هذا جزاءُ كل مَنِ اقترنَ بزوجٍ عِوجٍ من غيرِ منهج !
***
علي الجنابي