أقلام ثقافية
إبراهيم برسي: بين هسهسة القبح وهمسات الجمال
القبح ليس نقيضًا للجمال، بل هو وجهه الآخر الذي يختبئ في هسيس الظلال، حيث يولد الضوء من شقوقه المجهولة.
هو شقيقه الذي نسج من ذات الطينة، لكنه اختار أن يترك الخضرة جانبًا ليروي حكاية أخرى.
هو سردية لا تصفق لها الأغصان الغضة، ولا تحتفي بها الزهور المشرقة، لكنها سردية تهمس بما لا يُقال.
هناك، بين الأغصان اليابسة التي تحمل وطأة الفناء، وفي هسهسة الرياح التي تعبر دون وعد، يزهر الجمال همسًا.
هل رأيت الفراشات وهي تتراقص فوق خراب الأغصان؟
نسيم الجناح لا يحتاج خضرة ليحمل موسيقى الحياة، ولا همس الجناح يشترط اكتمال الأغصان ليخبرنا أن الجمال لا يُصنع من البهرج.
ضوء التنسيب المشرق الذي يتسلل من بين الأغصان الجافة لا يزيف الحقيقة، بل يكشفها.
القبح، في عمقه، هو تأويل آخر للجمال، فصلٌ ناقص من حكاية الكون، لكنه يحمل الحقيقة أكثر من سذاجة الزهور المتفتحة التي تخنق نفسها بالاكتمال.
القبح لا يصرخ، بل يهمس.
هو الهسيس الذي يمر عبر حطام الأغصان، الحفيف الذي لا ينسجم مع لحن المألوف، لكنه يحمل صمودًا صامتًا.
الجمال لا يزهر دائمًا في النضارة، بل أحيانًا في الأغصان التي انكسرت لكنها لم تسقط.
هناك، في فجوات الزمن التي تتركها الطبيعة بلا اكتمال، تكمن الحقيقة: حتى الموت أخضر، إذا أصغيت إليه بما يكفي.
وماذا عن الظلال؟
تلك التي تراقص الضوء وتتمايل معه في حوار لا ينتهي؟
الجمال يكمن في الظلال التي تمنح الضوء بُعده الآخر.
الظل ليس نقيضًا للضوء، بل شريكه الذي يعيد تعريف الأشياء، كما يُعيد الجفاف تعريف الخضرة.
أو كما قال كونديرا: الجمال ليس في ما يُرى، بل في ما يُحجب، في الفراغ الذي يتركه الظل لتملؤه العين بالخيال.
في الظلال يسكن الجمال البعيد عن الصخب، جمال يزهر في صمت ويكشف نفسه لأولئك الذين يرون ما وراء الضوء.
الأغصان التي تخنقها الخضرة لا تفهم سر الجفاف.
إنها تعتقد أن الحياة زهوٌ دائم، لكنها تجهل أن الجمال يزهر في الرماد كما يزهر في التراب.
حين يسقط الضوء على الأغصان الميتة، يكشف تأويلًا جديدًا: الجمال ليس في اكتمال الصورة، بل في هشاشتها.
هو في الرمزية التي تتسرب بين الشقوق، في الحكاية التي ترويها الريح وهي تعبر دون أن تنتظر تصفيقًا.
الجمال هو كأس ممتلئة حتى الحافة، لكنه ليس بالخمر الذي يسكر في لحظة، بل رشفة تتسلل إلى الوعي ببطء، تفتح أبواب الحقيقة وتجعلها أشبه بنشوة لا تنطفئ.
القبح هو الكأس التي نظنها فارغة، لكنها مليئة بالاحتمالات.
الضوء الذي يخترق الزجاج لا يَعد بالكمال، لكنه يعكس الحياة وهي تلمع في هشاشتها، في تأرجحها المستمر بين الكمال والانكسار.
حين تنزع الطبيعة زينتها وتبقى العظام العارية للأغصان، تبدأ في كتابة شعرها الأكثر صدقًا.
الهسيس الذي يلف هذا العراء ليس إلا موسيقى البدء، لحظة الخلق الأولى التي تنكرها الخضرة لكنها تحتضنها الحياة.
نسيم الجناح حين يمر على القبح لا يبحث عن عطر، بل عن حقيقته المتأرجحة بين الحي والميت.
الجمال ليس في الزهور المشرقة وحدها، ولا في الأغصان الغضة التي تنحني لتمدح الريح.
إنه يسكن القبح كما يسكن النضارة، يعيش في الظل كما يعيش في الضوء، ويتمايل بينهما كفراشة ثملة، لا تعرف حدود الرقص ولا تتوقف عن اختراق الخواء.
الجمال، في نهاية المطاف، لا يطلب الكمال، بل يعترف بهسيس الحياة وهمسها، بأن القبح ليس ضدًا للجمال، بل هو الجمال وقد نزع عن نفسه كل بهرج، وبقي خالصًا، كأسًا من الحقيقة التي لا تنتهي.
***
إبراهيم برسي
20 يناير 2025