أقلام ثقافية

غاني بأتياسي: لوحات بروح قديمة للفنان التشكيلي فائق العبودي

يعكس الفن الهوية الثقافية، والتاريخية للمجتمع، ومن خلاله نتواصل مع جذورنا وتقاليدنا، فهو يمتلك السحر الذي يتخطى به الحواجز اللغوية والثقافية، مما يُمكّننا من ذلك التواصل العالمي.

في يوم السبت الماضي، تلقيت دعوة لحضور معرض في زيورخ. لم أكن   أعرف المعرض أو الفنان الذي يعرض أعماله.

جاء الفنان من لوزان، لكنه أحضر معه الروح الفنية (وكذلك الثقافية والتاريخية) لوطنه، في الحقيقة، هو قادم من العراق، أحد أقدم بلدان الثقافة والحضارة. ربما كان هذا هو الدافع الأكبر لحضوري المعرض الذي كان يقام في المدينة التي أعيش فيها منذ فترة طويلة.

من ناحيتي فأنا لدي رغبة دائمة في متابعة تيارات الفن الحديثة التي تُنتج وتُعرض في المكان الذي أعيش فيه. وأشعر بالفضول لرؤية القيم الفنية التي تُنتج خارج هذه البيئة التي أعيش فيها. بشكل خاص، تجذبني الأحداث الفنية التي تخرجنا من الروتين الفني اليومي، الذي قد يكون مملًا في بعض الأحيان. لذلك، أفضّل تلك الأحداث النادرة التي تحمل معها قيمًا فنية مميزة.

الفن يتخطى الحواجز اللغوية والثقافية، ويمكّننا من التواصل العالم

عندما قررت الذهاب إلى المعرض، كنت أعلم أن البلد الذي ينتمي إليه الفنان هو واحد من أقدم البلدان ذات الثقافة العريقة والتاريخ الدرامي. إنه يمتلك ثقافة قديمة. إنه الشرق، ملتقى طرق الثقافات المختلفة عبر التاريخ. وطن الفنان هو واحد من البلدان التي تتمتع بقيم خاصة في مجالات الفن والأدب. لديه أدب شفوي من أقدم وأجمل الآداب. وعلى أساسه، نشأ الأدب المكتوب. وكنت أعلم أيضًا أنه من هذا البلد جاء ذلك السرد الجميل، والدرامي لألف ليلة وليلة، وشهرزاد. من هناك جاء الفنان فائق العبودي، الذي ذهبت لرؤية لوحاته. ومن هناك، أتى للعالم أيضًا واحد من أقدم وأجمل الملاحم، ملحمة جلجامش، التي تمثل أول حضارة أدبية مكتوبة.

الفنان فائق العبودي عراقي جاء إلى سويسرا، كما جئتُ أنا في يوم من الأيام، نتيجة للعواصف التاريخية التي عانت منها بلاده.

في المعرض

كان الفنان سعيدًا، ودودًا، ويبدو أنه كان يشعر بالسعادة لأنه يعرض جزءًا من أعماله الفنية في زيورخ، لوحاته الفريدة من نوعها. لم أتواصل مع الفنان بلغته أو لغتي، بل بدأنا الحوار بلغة ثالثة، الفرنسية، ثم انتقلنا إلى تلك اللغة العالمية وربما الوحيدة التي تجمع البشر جميعًا، لغة الفن.

 تتميز لوحات فائق العبودي بتقنية خاصة. فهو يستخدم الأكر يليك على الخشب والقماش. تقريبًا، جميع لوحاته كانت تحمل خلفية سوداء، مما أضفى عليها قوة خاصة، وغموضًا فريدًا، ربما كان اللون الأسود الثقيل هو الذي منح التعبير الفني للفنان وزنه الخاص، الفنان بصفته محترفًا، يعلم تمامًا أن الأسود يجب أن يُستخدم بدقة، وإلا فإن الإفراط في استخدامه قد يصبح خشنًا، ويفسد جماليات الفن، ولكن فائق العبودي أضاف إلى الأسود مجموعة غنية وحيوية من الألوان الدافئة والمشرقة، مما منح لوحاته دلالات رمزية قوية.

هذا الاستخدام للألوان كان مستوحى بالكامل من روح الشرق، وعند تأملي في لوحاته، كنت أحيانًا أشعر بحرارة النار وأحيانًا أخرى بلهيب الشمس. وفي لوحة أخرى، كان يظهر ضوء أصفر يشبه ضوء القمر، وفي مكان آخر، كنت أرى ألوانًا خضراء تشبه واحة في الصحراء، تعلوها لمسة من الزرقة السماوية البعيدة. وفي بعض الأحيان، كانت تظهر خطوط حمراء تُذكرنا بالأحداث الدرامية التي مرت بها بلاد الفنان عبر القرون. تلك الألوان توضح للمشاهد أن التاريخ في وطن الفنان فائق العبودي كان مليئًا بالأحداث العنيفة. وقد حوّل الفنان هذا الواقع التاريخي العاصف إلى واقع فني، مما جعله ذاكرة تاريخية. فمن خلال فنه، يعبر الفنان عن كل الألم الذي تسببه الأحداث التاريخية.451 faeq

أبجدية قديمة تحولت إلى رمز للتواصل الفن

بينما كنت "أقرأ" لوحات فائق العبودي، شعرت كما لو أنني أشاهد أجزاء من مآسي العصور القديمة، بل حتى مآسي أيامنا هذه التي يتم تجسيدها على مسرح التاريخ. بهذا، تتواصل لوحات فائق مع العصور، مع الأحداث، ومع الدراما التي تحدث في مسرح التاريخ. من خلال فنه، أنشأ فائق لغته ورموزه وطريقته الخاصة في التعبير الفني.

تتميز لوحاته بأنها تحتوي على عدة لوحات أصغر داخل اللوحة الواحدة، فقد أنشأ في بعض اللوحات خمس، أو ست، أو حتى ثماني لوحات أو محتويات. لقد تمكن فائق من إنشاء لغة تواصل خاصة بلوحاته، حيث أدرج في أعماله حروفًا وعلامات ورموزًا. وبذلك، تواصلت لوحاته مع الجمهور عبر هذه الرموز الفنية.

في الحقيقة استخدم فائق العبودي في جميع لوحاته حروفًا من أبجدية قديمة تعود لآلاف السنين، من خلال هذه الأبجدية اللغوية القديمة، أنشأ فائق أبجدية فنية حديثة. وبهذا، وصل بين العصور المختلفة، ربط بين القديم والحديث، بين الماضي والحاضر، وبينهما جميعًا وبين المستقبل.

الفنان فائق العبودي هو فنان يتواصل مع العصور، مع الفترات الزمنية، ومع الأحداث. وفي هذا التواصل، يتجلى بوضوح فهمه الفني، وطريقته في التعبير عن اهتماماته، والرسالة التي يريد إيصالها إلى الجمهور المحب للفن.

بينما كنت أغادر المعرض، شعرت وكأنني ما زلت أتحدث إلى العصور الفنية القديمة، وكأنني ما زلت أقرأ تلك الألواح الطينية التي كتبت عليها، قبل 5000 سنة، ملحمة جلجامش، واحدة من أروع الأعمال الأدبية المكتوبة.

***

Gani Baytyçi

فنان وناقد من البانيا

..........................

* مقالة نقدية للناقد والاعلامي الالباني غاني بأتياسي عن معرض الفنان التشكيلي فائق العبودي في المركز الثقافي العربي السويسري / غاليري الأرض في زيورخ الذي افتتح مساء السبت 19/ 10/ 2024

في المثقف اليوم