أقلام ثقافية

زهير ياسين شليبه: رسائل من زمن الحصار لكاتب مجهول (5)

الى صديقي يونس!

باص "الأمانة" الأحمر، "أبو طابقين"!

اليوم كنت في البريد. أرسلتُ لكم طردًا، وزنه عشرون كيلو "فقط لا غير"! انشاء الله يصلكم سالمًا غانمًا منعمًا بدون أي غارة. وأنا في الحقيقة ممتن لموظفي البريد العراقي، يوصلون كل شيء مضمونًا ويسلمونه كاملاً، كما أخبرتموني. هذه فعلاً خصلة لا نجدها إلا عند أغنياء النفس الميسوبوتاميين الأصيلين الغيارى.

أنا حقاً فخور بسعاة بريد العراق، يجوبون الشوارع بدراجاتهم ليسلّموا الأماناتِ إلى أهلها، أعتقد أن هؤلاء بقايا الرافيدينيين النشامى.

بالمناسبة انا وأصدقائي دائما نتذكر هذه المؤسسة بإيجابية، كانت تقدم خدماتٍ بريديةً ممتازةً، حدّثني هنا أحد موظفيها القدامى بفخر واعتزاز عن نظامها وأسلوب عملها، أتذكر رسائلي وطرودي البريدية، كنت أبعثها لكم ايام الدراسة من خارج العراق، كانت تصلكم كاملةً.

أما أمانة مصلحة نقل الركاب فحدّثْ ولا حرج، آه كم أشتاق إلى باص الأمانة الأحمر، بالذات "أبو طابقين"، تميزت بها بغداد في الشرق الأوسط. مؤسسة مدنية عريقة ساهمت في تطوير العراقيين وحققت مبدأ "المدينةُ تُطوّرُ الإنسانَ"، شبكة خطوط ومواصلات لم أجدها في البلدان العربية الأخرى. علامة بارزة في تطور العراق المدني وظفت آلاف العمال والمستخدمين من كل أنحاء بلاد الرافدين.

أرفق لكم مع هذه الرسالة قائمة بمحتويات الطرد، سيصلكم قريبًا، وهي على العموم ملابس و"فيتناميات" عفوًا أقصد فيتامينات وأدوية والخ من "تفاتيش" القلوب كما كانت جدتك تقول. إنسانةٌ رائعةٌ!

هل تتذكّر كيف كانت جدتك تسمي اليمن؟ "أمن"، عندما سافر أحد جيراننا إلى اليمن للعمل كمدرس، كانت تقول: "راح للأمن"، ونحن نلاشيها ونضحك! وبالمناسبة كانت هي ايضًا سعيدةً بمزاحنا معها، أليس كذلك؟ أجمل شيء أتذكره عنها أني سألتها في إحدى المرات:

- بيبي اشلون كنتم انت وجدّو الله يرحمه؟ كنتم مثل الشباب بالأفلام؟ يعني هَمْ ...؟

ردّت على الفور تلوك بالكلمات:

- أسكت لَك، عيب!

ثم أردفت مبتسمةً:

- ليش احنه وَحّد؟ كلّه شيل وبطح على السطح! وغرقت في ضحكتها، بس مو مثل الأفلام يقعدون من الصبح ...بلا ما يفرّشون أسنانَهم!

واطلقت العنان لضحكاتها وصدرها يخرخش، عقبت متنهدةً ماطّةً شفتيها السمراوين:

- ربي ضحكة خير، راحت الأيام الحلوه، سودَه عليَّ، راح عند ربه!

لم نكن نتحدث عن مثل هذه المحرّمات إلا مع العجائز وبالصدف، شويه، شويه، مثل ناقوط الحِب! هل تتذكر كيف كنا نتحيّن الفرص ونتلقّفها؟ أنت كنت تجلب سيجاير اللف لهن، وانا كنت متخصصًا بالبسويكت! كلها "رشوات" لسماع قصصهن ومغامراتهن عن الحُب بالأقساط، بينما هنا كل شيء مسموح به، طبعًا هناك حدود أيضا.

الصيف هنا جميل كما أسلفتُ، بالذات عطلة نهاية "الإزبووع" مثلما يقول المصريون أو الويك إند، ترى الناس هنا يقودون دراجاتِهم شبابًا وشيبًا، نساءً ورجالاً مرتدين أزيائهم الجميلة: النساء يلبسن السراويل، و"الجِماشه" أو الفيزون الملتصقة بالجسد المثير، تبرز مفاتنه، والتنانير القصيرة، ألوان زاهية كالأحمر والأبيض والأرجواني، مسكينه المرأة العراقية، سواد بسواد، باستثناء الجامعات، كانت أفضل مكان لعرض الأزياء في السبعينات! لكن محافظ بغداد آنئذ وشرطة الآداب كانوا لهن بالمرصاد، حتى الشباب الخنافس لم يسلموا منهم!

ماعدا ذلك فالدنيا عندنا كلها سوداء، ومع ذلك أتذكر أن سائقي سيارات بغداد كانوا يلصقون على مركباتهم قطعًا صغيرةً مكتوب عليها "الله جميل يحب الجمال"و "القلب يعشق كلَّ جميل" والخ.

لكن، انتبه، "مو كل أصابعك سوه"! المسيحيون المورمونيون وشهود يهوه الأصوليون هنا يختلفون قليلاً عن الناس العاديين، إنهم يؤمنون بالحشمة، يلتزمون بالتقاليد الدينية، لكنهم أقليّه. وهل هناك أجمل من العباءة العراقية السوداء؟ السواد يسبي العباد! إنها حقًّا جميلة، لكنها تحتاج لبعض "التنقيحات"! أنا أحب العباءة، تراث جميل بس عايزها شويه رتوش، خلّيني ساكت أحسن! وأتذكر أغنية "يا أم العبايه لِبسي عباتك!".

إذا تطلعتَ إلى وجوه الدنمركيين هنا يوم الجمعة ستشعر بها فَرِحَةً مستعدة لعطلة نهاية الأسبوع، يسرعون إلى منازلهم مشيًا وبدَرّاجاتهم، وسياراتهم مشغولين بحياتهم اليومية السلمية السليمة، إلا أن بعض العاطلين بمن فيهم بعض اللاجئين أو الأجانب القادمين الجدد إلى هذه البلاد من "البلدان الدافئة" أو "البلدان غير الغربية" لا يشعرون بهذه العطلة ولا يفهمونها، إذا لا يذهبون الى العمل ولا الدراسة في الأيام العادية.

هؤلاء الغرباء الجدد، ليس كلهم طبعًا، ممن لم يحصلوا على عمل في بداية حياتهم هنا، قد يشعرون إن أزعَجَ الأيام بالنسبة لهم هو "الويك إند"، أطفالُهم يبقون في شققهم الصغيرة المخصصة لعائلات عدد أفرادها لا يتعدّى الأربعة، تصور كيف سيكون الوضع إذا كانوا عشرة أنفار!

لكن هناك قسمًا آخرَ منهم مشغول طيلة أيام الأسبوع في العمل ليلاً نهارًا! وأجانب آخرون لا يختلف وضعهم عن اهل البلد، يعني كل واحد وظروفه! أرجوك لا تفهمني غلط! أنا لا احب التعميم، تعرفني جيدًا، ولا التعتيم، أُعطي كلَّ ذي حق حقه، أحاول ولا أدعي الكمال! لستُ "رب الكمان"! كما كان والدك يردّد!

هنا، في الدنمرك، أحيانًا ترى العائلة كلها خارجةً في نزهة: الأم والأب والأطفال أو الجدة والجد في الغابات والشوارع النظيفة، يقودون دراجاتهم مبتسمين رافعين رؤوسهم يحيّون الآخرين: هاي! هاي!

شعب الهاي، بالذات عندما تشرق الشمس، فخورون ببلادهم وطبيعتهم وإنجازاتهم وديمقراطيتهم وأسلوب حياتهم، صارَ كما يبدو لي أشبه بالدين، يحبون التظاهر بطقوسه مثل الحديث عن الجو والضرائب وإشعال الشموع وترتيب المناديل الورقية الزاهية وكؤوس الماء والبيرة والنبيذ الأحمر والحب في المساءات الهادئة.

قد يأتي شخص آخر، ويفسر هذا الأمر بطريقة سلبية كأن يقول عنهم إنهم أنانيون مشغولون بحياتهم اليوميه وغرائزهم ورغباتهم ودنياهم، وقد يزيد إنسان آخر فيقول لك: "مصيرهم الجحيم لأنهم ملحدون وكفار"، وهذا هو أخطر ما يمكن حصوله بين الشباب الأجانب، تكفير الآخرين ونبذ الحياة الاجتماعية مع اهل البلد الأصليين! قسم من هؤلاء الشباب الغرباء بمثابة قنبلة موقوته يحتار السياسيون والمتخصصون اليائسون بكيفية دمجهم في المجتمع ودرء خطرهم عليه. الله يستر من القنابل الموقوتة!

أما اللاجؤون الجدد فأغلبهم، أو قسم منهم، أعذرني لا أعرف كم هي نسبتهم، خاصة في بداية حياتهم هنا، لا يختلطون كثيرًا مع أهل البلد المنظمين المقولبين، المبرمجين، "الباردين"، البيتوتيين، وتصوراتهم عنهم غير دقيقة وغير أصليه، وإن سألتَ بعضَهم عنهم، أقصد عن المواطنين الأصليين، يجيبك: "شمعة وكأس نبيذ وحبيبة!".

هكذا يختصر بعضُهم انطباعاتِه عن أهل البلد. كل شخص يرى الأمور من زاويته!

صحيح، إن العتمة والشمعة جزء من ثقافة الإسكندنافيين، ويجيدون هذا الاسترخاء بهذه الطريقة، لكن ليس قبل أن يهدّهم التعب وينجزوا كلَّ أعمالهم. الدَنمَركيون عمومًا مشغولون بحياتهم اليومية، واوقاتهم مليئة بالمواعيد كل حسب ظروفه، وبالذات مَن لديهم أطفال. وبمرور الزمن يصبح اللاجؤون الموظفون والحرفيون منهم، مثل سكان البلد الأصليين بل أكثر، مشغولين غير مكترثين بالعلاقات الاجتماعية الواسعة. هؤلاء يصبح وقتهم من ذهب والحمد لله يعملون ليلاً نهارًا.

العمل هنا أهم شيء! من لا يعمل لا يأكل! هذا شعار الاشتراكية، و هناك أناس لا يعملون، ومع ذلك يأكلون من الإعانات، لكنهم لا يحسُّون بطعمه كما يقولون أحيانا!.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

 

في المثقف اليوم