أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (10): نسوة وإيقاع الرحى

عند الظهيرة في الدور السفلي من البيت (الدار)[2]، وسط الفتحته التي يمر من داخلها شعاع الضوء القادم من الأعلى، وهو يتسرب من بين السَّواري[3] الأربعة الرافعة لأسقف الدار، في منظر شبيه بذلك الذي ألفه البعض داخل قاعات المسارح المغطاة، عندما ينطفئ الضوء ولا يتبقى إلا دائرة ضوئية صغيرة يظهر من خلالها العارض وهي تلاحق جسده المتحرك فوق منصة المسرح، هكذا تبدوا لك السيدة فاطمة، وسط دائرة واسعة من الضوء، وأنت عند المدخل الرئيسي للبيت، قادم من الخارج حيث أشعة الشمس الكاشفة لكل شيء، لكن بعد لحظات تتعود عينك على طبيعة إضاءة المكان، وتدرك بأن فتحة البيت قد شكلت دائرة أكثر إضاءة في وسط ساحة البيت (رَحْبة الدار) ويتوزع الضوء من خلالها على جنباته بشكل خافت. فالجنبات يوجد بها أشياء وأغراض وربما جالسين من أهل البيت، لا تبصرهم بشكل واضح إلا بعد أن يتأقلم بصرك مع إضاءة المكان، المنبعثة من رَحْبة الدار المفتوحة على السماء. وهذه حالة شائعة عند أهل الواحة، إذ يقول لك صاحب الدار أنت مصاحب معك أعين الشمس، بعد قليل ستبصر كل شيء تحت الضوء الخافت الذي يقلُّ ويكاد ينعدم كلما ابتعدت عن فتحة البيت (رَحْبة الدار).

وأنت داخل العتمة في أبعد نقطة من الضوء بالقرب من باب الغرفة المخصصة لتخزين مختلف مستلزمات العيش من تمر وزيت وسمن وعسل وفول وعدس وخضروات... (بيت الخزين) وهو بيت يعمه الظلام طيلة النهار والليل، فعندما تفتح بابه لا تبصر أي شيء، وعندما تتلمس الحائط من بعد فتح الباب تجد بالقرب منك كوة الشمع أو القنديل، عندما توقد إحداها يظهر لك تحت الضوء الخافت ما شاء الله من قُلَل الفخار المحكومة الإغلاق، كل واحدة تخزن إما الزيت أو السمن أو شحوم البقر أو الغنم... وفي زاوية بجانب الحائط كومة من البصل والتوم...بيت الخزين دائما محكم الإغلاق وتتولى هذه المهمة جدة الأسرة، أو من هي أكبر سنا في الأسرة، الوحيد الذي يدخل الى بيت الخزين ويخرج دون حسيب أو رقيب هو القط، إذ تترك له فتحة تحت الباب، فمهمته أن يطارد الفئران وغيرها من الحشرات...أدرك أهل الواحة منذ القدم أهمية حجب البعض من الأطعمة عن الضوء حتى لا تفسد من بينها زيت الزيتون.

أنت في موقعك من البيت تبصر بشكل واضح من داخل بقعة الضوء، وسط (رَحْبة الدار) السيدة فاطمة وهي جالسة على الأرض ممددة رجلا وثانية أخرى، شعرها ملفوف بخرقة بيضاء من الثوب، أكمام قميصها واسعة وقد شدتها إلى أعلى مرافق اليد، الجزء العلوي من ردائها الذي يظهر من أعلى القميص مثبت "بخلالة"[4] فضية من جهة كل كتف، وهي تلمع على كتفيها كلما تعرضت لأشعة الضوء. إلى جانب الرجل الممددة وأمام الرجل المثنية، بساط من جلد خروف مدبوغ (هيدورة)، يبدو أنه كان خروفا متسع البنية الجسدية، جانب الصوف من البساط مفترش على الأرض مباشرة، والجانب المدبوغ منه، على سطحه رحى حجرية قطرها لا يقل على أربعين سنتميترا، وقد ثبِّت على أحد جانبي فكُّها العلوي عود أملس من الخشب بحجم قبضة اليد وزيادة، وبالقرب منه يظهر عود خشبي آخر منبعث من مركز شعاع الفك السفلي، ويخترق شعاع الفك العلوي، بشكل يسمح له بالدوران، يسمى بقطب الرحى، ففيه توضع الحبوب بقدر ما تمسكه اليد الواحدة، وتتسرب ببطيء نحو الفك السفلي، لتأتي بين الفكين، إذ يبقى الفك السفلي للرحى ثابت ولا يتحرك، وهو أكثر وزنا من الفك العلوي الذي يفترض فيه أن يسمح وزن بدورانه، بشكل سهل ومرن وسريع.

ها هي فاطمة تمسك بصلابة العود الذي يتحكم في النصف العلوي من الرحى، وتديره في اتجاه اليمين، وهي تضع بين الحين والآخر حبات القمح وسط قطب الرحى، وبعد لحظات يتسرب الطحين من جنبات فكي الرحى على سطح البساط الجلدي، فاطمة ستطحن ما وزنه ثلاثة كلو غرام من القمح... علاقة فاطمة كغيرها من نساء القرية وطيدة بالرحى، فعلى إيقاع الرحى يدور كلام طويل بين النساء، في مختلف البيوت والدروب، وعلى إيقاعها يتبدد ما بهن من أحران وأحاسيس وشجون، كما أن الاستعداد لمختلف الأفراح على رأسها الأعراس تكون الرحى أول من يعلم بها وهي تدور كل صباح في هذا البيت أو ذلك، ومن وراء باب هذا الزقاق أو ذاك أو وسط ذلك البهو أو ذاك... صوت الرحى وهي تطحن الحبوب، ينبعث من وراء أبواب البيوت داخل مختلف قصبات الواحة وقصورها، مصحوب أحيانا بأهازيج وأشعار تنشدها النسوة فيما بينهن وبالأخص إن اجتمعن أربعة أو أكثر وهن يتعاون فيما بينهن على تدوير الرحى وقد تتعاون امرأتان على تدوين فك الرحى الكبيرة الحجم.

عندما تتأمل في الرحى وهي تدور، تذكرك بدورة الزمن، ويأخذك الفضول لمعرفة تاريخ الإنسان القديم، وهو يستعمل الحجارة في كل شيء، وقد تكتشف بعض من غرور الإنسان الذي تصور أنه استغنى عن الحجارة والتراب... في حياته، ولكن عندما تتمعن في الحياة من حولك، تجد كل شيء يعود في الأخير إلى الأرض...الإنسان القديم طوع الحجارة لصناعة لوازم الحيات وبعها طوع المعادن من أجل ذلك...إنه نفس الطريق، فالإنسان اليوم يطوع المادة من حجارة ومعادن بطريقة مختلفة إلى درجة ينسى ويتناسى معها أصلها الذي جاءت منه...أليس أصل الإنسان نفسه من تراب!! ومن هذا الذي ادعى أنه جاء بمادة خارجة عن هذا الكون الذي نحن فيه!! إنه أمر مثير للاستغراب أن تختفي مختلف الوسائل الحجرية...وتبقى الرحى على طول الزمن حتى وقتنا الحاضر... فهي في دائرة الاحتياط في كثير من الواحات...

أنهت فاطمة عملية الطحين، وجمعت مسحوق حبات القمح من جنبات الرحى، وإذا بها تسحب الرحى من البساط، بعد إزالة ما تبقى بداخلها من مسحوق الطحين، سحبت الفك العلوي لوحده، ومررت يدها على الفك السفلي، لتزيل كل ما تبقى من مسحوق الطحين، ويدها تلامس خشبة قطب الرحى، وبعدها، سحبت الفك السفلي ووضعته جانبا بالقرب من الفك العلوي، وبعدها جمعت البساط الجلدي من جوانبه الأربعة، وبسطته مجددا، وقد ظهرت كومة من الدقيق الشديد البياض، تلمع بينه قليل من قشرة القمح الصفراء، وقد اقبلت فاطمة على غربلة الطحين بهدف فصل لباب مسحوق القمح عن قشرته... فما طحنه يكفي لإعداد خبز الغداء وفتل كسكس العشاء.

عند هذا الوقت بعد الظهيرة بقليل، يعود الرجال من حقولهم، وهم محملين، بما جلبوه منها من حشائش لإطعام بقراتهم ونعاجهم وماعزهم...ليس هناك فاكهة يتم جلبها من الحقول في الأيام الأخيرة من فصل الربيع، دون فاكهة المشمش وهي فاكهة تنضج بسرعة ورائحتها تملأ جنبات الحقول وقد تتساقط بشكل سهل تحت الأشجار إن لم يتم جنيها في الوقت المناسب، فبعض أشجار المشمش في الواحة وخاصة ذات الفروع الطويلة والأغصان الممتدة، التي تلقي بظلالها على الطرقات والمسالك الرئيسة في الواحة، تكون فاكهتها مشاعا وفي متناول الجميع من المارة، أو الجالسين الذين يستظلون بظلها البارد. في هذا الوقت من السنة تبدأ أزهار شجيرات الرمان بالتحول من زهرة حمراء اللون من كلا الجوانب إلى حبة رمان صغيرة مكورة الشكل. وهو الأمر نفسه مع شجرة اللوز وقد فقدت الكثير من أوراق زهرها الجميلة إذ تحول الجزء الكبير منها إلى مشروع حبات لوز صغيرة.

بعد لحظات اجتمع البعض من أفراد الأسرة في دائرة حول حبات من التمر يلتصق بعضها ببعض وهي مستلقية داخل طبق مصنوع من سعف النخيل، ويبدو على جنبات بعض منها بعض الخدوش، بفعل اقتلاعها بوتد خشبي صغير، من قعر خابية[5] الفخار الطينية، وقد ضغطت بداخلها منذ أشهر، فخابية التمر يصل علوها إلى حزام الرجل وقطرها يقارب المتر الواحد... قد تؤكل حبات التمر مع قليل من اللبن، وقد امتدت أصابع الأيادي من كل جهة، لتمسك بالتمر وهي تفكّ بعضه عن بعض... وإذا بأحد الأبناء قادم وهو يحمل معه سلة صغيرة من القصب من فاكهة المشمش، وقد أنزلها الى جانب طبق التمر وسط المتحلقين حوله، أعرض الجميع عن التمر وأقبلوا على المشمش...

إعداد خبز هذا اليوم ليس من مهام فاطمة، وها هي الآن قد أفرغت الدقيق وسط قصعة صغيرة من الفخار، وذهبت به في اتجاه غرفة تهييئ الطعام، في الدور العلوي من البيت، حيث تصطف ثلاثة كوانين وبالقرب منها فرن صغير...صحون فخارية صففت داخل كوة منقوشة على الحائط وبالقرب منها مجموعة من "الزلايف"[6] الخضراء والصفراء اللون... بعد أذان العصر بوقت ليس بالقليل أخذت فاطمة القصة الكبيرة المقعرة الشكل، ووضعتها على الأرض، وأفرغت وسطها جزءا من الطحين الذي أعدته عند الظهيرة... وأضافت قليل من الماء و...وشرعت في فتل حبات الكسكس، وهي مهمة تتطلب منها وقت يقترب من الثلاث ساعات ما بين دلك وفتل وبرم وتفوير.. قدرِ طهي الكسكس يتكون من طبقتين الطبقة السفلى وهي القدر الذي يطهى فيه المرق، والطبق العليا وهو "الكسكاس" الذي توضع فيه حبات الكسكس، وهو متقب كله من وسطه ويسمع للبخار ليتدفق إلى الأعلى ويخترق حبات الكسكس ...

في هذا الوقت قبل أن تصل الشمس إلى نهاية المسافة التي تقطعها كل النهار، أو بالأحرى، الأرض التي تدور حول الشمس، لم ينفك بعد، مجلس النساء في الدور السفلي من البيت من وراء باب المنزل من جهته الخارجية، وراء باب الدرب الذي يأخذك إلى الطريق الرئيسي داخل القصبة، مع أذان العشاء أنهت فاطمة مهمتها...يا الله كل هذا العناء منذ الظهيرة من أجل تهييئ طبق من الكسكس...هكذا هي نساء الواحة أيام زمكان، وهي تتناوب على إعداد الخبز والكسكس كل يوم...

أهم شيء لا حظته فاطمة أن مخزون قمح الأسرة لم يتبقى منه إلا القليل، وربما يكفي حتى موسم الحصاد، وأهل الواحة على أبوابه، ولكن هل الواحة لازلت تنعم وتأتي بما يكفي أهلها من حبوب القمح...في زمن اتضح فيه أن النهر الكبير قلَّ ماؤه ... فكيف يا ترى سيكون عليه الحال في فصل الصيف وما بعده؟

... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

.............................

[2] الدار: جمع دور وديار وديارات، ما يدار على الجدار، ويشمل مسكن الإنسان وتوابعه من مسكن حيوانه...

[3] أعمدة مبنية من الطوب المصنوع من الطين... وهي الأعمدة التي ترفع البيت إلى الأعلى والجمع السارية سوار، وتطلق أيضا على عمود من الخشب ينصب عليه الشراع.

[4] الخلالة: حلية فضية نسائية تضعها المرأة لتشد بها أطراف ردائها الذي يسمى بـ”الحايك” جهة الكتف، بشكل يجعلها بارزة. وتوجد الخلالة في شمال أفريقيا، لكن بتنويعات مختلفة

[5] الخابِيَةُ: جرَّة عظيمة، وعاءٌ يُحفظ فيه الماءُ أو التمر...

[6] وقد اختار أهل الواحة هذا الاسم، للصحن الذي نمسكه باليد الواحدة أو اليدين، ونقرّبه من أفواهنا لنشرب من خلاله مختلف الشربات من بينها شربة الحساء، فالاسم يعود إلى الفعل (زلف) فأَزْلَفَهُ قَرَّبَهُ وَازْدَلَفَ إلَيْهِ اقْتَرَبَ (وَمِنْهُ). الزلافة، سميت كذلك لأنها تقرب إلى شاربها وتقدم له، يقال زلف الكأس: أي قربه وقدمه، وقال الله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)﴾ (الشعراء)

 

في المثقف اليوم