أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (5)

يحلو لأهل الواحة طيلة أيام الربيع أن يترددوا على النهر الكبير، الوريد الذي يمد الواحة بالحياة، ويجعل منها حياة مفارقة للحياة والعيش داخل جوف الصحراء. جنبات النهر تتسع وتضيق على طول النهر، بعض بركه المائية يصل عمقها الى أربعة أمتار، وقد اكتسبت عمقها بفعل قوة اندفاع صبيب الماء، نتيجة السيول التي تصب في الوادي، زمن وفرة الماء  بفعل كرم السماء، النهر يبدوا  في بعض من جنباته هادئا يتحرك في صمت، إلى درجة يبدو لك أن مياهه راكدة ولا تتحرك، وذلك فخ  وكمين لمن رغب في عبوره إلى الجهة الأخرى، وفي جنبات أخرى يتسع عرضا بشكل كبير، ويتحول بذلك إلى فراش منبسط من الماء يعكش أشعة الشمس، وتعيق جريانه مختلف الأحجار المتوسطة الحجم، ويصدر بذلك  إيقاعا موسيقيا بفعل خرير المياه، وهي فرصة سهلة لمن رغب في عبوره بسلام.

في الصباح الباكر أو عند الغروب وأنت بين الحقول يصلك صدى سنفونية خرير مياه النهر، إذ تشدك إليها كثيرا، ولا تمانع أن تقترب أكثر، لتحجز مكانك على ظهر صخرة ملساء، إلى جانب صخور مماثلة، كأن النهر يستقبل ضيوفه بعناية ويوفر لهم سبل الراحة، إذ لا يعقل أن تطيل الاستماع لسنفونية النهر وأنت واقف، الضيافة والترحاب يقتضي تصفيف كراسي للجلوس. صوت خرير سنفونية العزف في الوادي تكاد تتوقف وسط النهار. النهر يحلو له العزف في الصباح وعند الغروب، تلتفت يمينا أو يسارا وتفاجئك شجيرات "الدفلة"[1] جانب الوادي وهي تميل يمينا ويسارا، على إيقاع خرير النهر، وهي تلقي بالبعض من أزهارها المتعددة الألوان بالأبيض حينا وبالقرنفلي حينا وبالأحمر...

هناك شيء ما يجذب الإنسان إلى خرير الماء، خرير الأنهار، خرير الشلالات، حتى خرير الماء وهو يسكب في إناء للشرب يحدث في الأذن إيقاع لا مثيل له. خرير الماء إيقاع ونوطة موسيقية تخترق العالم شرقا وغربا، كأن الماء يؤكد لنا من خلال خريره أنه لا حياة دونه... خرير الماء يوقد شعلة دافئة في النفس، ويلقي بها في عالم لا قبل لها به، إنه تذكُّر تلقائي وغير واعي للنشأة الأولى، وهي نشأة امتزج فيها الماء بالتراب، وتحول بذلك إلى طين، ألم يخلق الإنسان من طين![2]  الكثير من الناس شرقا وغربا عبر مختلف الثقافات يقصدون أمكنة خرير المياه، ومنابعها للشفاء من الحزن الشديد وضيق النفس... كما يقصدونها للتنزه والاستجمام، وقد لعبت النوافر دورا في إحداث خرير المياه في مختلف الحضارات، وهذا دليل على تلازم خرير الماء مع نفس الإنسان بوعي منه أو بدونه.

الجزء الكبير من جنبات الوادي مليء بالغطاء النباتي الذي اختاره النهر مصاحبا له على طول مجراه، إنها شجيرات قصيرة ومتماسكة وكثيرة الفروع والأغصان تسمى "الفرسيك" بين ثنايا، تفرخ العديد من الطيور بيوضها، وتضع الأرانب صغارها... وأنت على حين غرة يفاجئك طير دجاج الماء،[3] مندفعا بسرعة بين أغصان شجيرات "الفرسيك" في اتجاه النهر، وينغمس في الماء ويذهب بعيدا. تظهر لك بعيد بقع بيضاء على سطح الماء، عندما تقترب منها أكثر تدرك بأنها بضعة لقالق تبحث عن قوتها وسط الماء، طيور اللقلاق لا تبالي بمن يقترب منها، ولا توليه اهتماما كباقي الطيور، من نقط ضعفها أنها تبقى ثابتة في مكان واحد لوقت طويل كلها انتباهها مفرغ في اتجاه الماء، وإذا بها بحركة سريعة تخطف بمنقارها ثعبان أو ضفدعة أو سمكة.

استهداف اللقلاق بحجارة من بعيد أمر سهل المنال، ولكن من هذا الذي سيقبل على ذلك، و طائر اللقلاق "بلاّرج" موضوع تحيط به الأسطورة والقصص عند أهل الواحة، تقول الحكاية الشعبية أن اللقلاق كان رجلاً ورعًا لكن حدث ذات مرّة أنّ توضّأ باللبن فمسخه الله لقلاقًا، رجل يتوضأ باللبن، ما هذه المفارقة العجيبة؟ وتحكي الحكاية الشعبية أيضا، أن اللقلاق كان إذا رأى قوافل الحجاج رافقهم وأنس بهم واقترب منهم بلا خوف، فأطلقوا عليه لقب الحاج. كثيرة هي الحكايات حول "بلاّرج" فهو رمز للبساطة والزهد، فعشه يكون في مكان عال مكشوف، ويروى أن طائر "النّسر" سأل "اللّقلاق" عمي اللّقلاق لماذا عشك هكذا، مكشوف في مكان عالي، تأتي عليه هبوب الرياح، وتأتي عليه الأمطار... لو اتخذت مكانا مهيبا لعشّك مثلي، يحميك من حرّ الصيف ويحجب عنك قطرات الأمطار... كان جواب "اللّقلاق" أنا هكذا أتحمل مرور كل صعاب الطبيعة من حر وبرد وأمطار، أعاني بسببها كثيرا، لكن كل الصعاب تمرُّ كما يمرُّ الزمن... ورد عليه "النّسر"، نعم كل الصعاب تمرُّ بهذه الطريقة، على البخلاء مثلك... يا ترى هل البخل من شيّم اللقلاق؟  فمن ميزته أنه يتعايش مع طيور أخرى، كالحمام وبعض أنواع العصافير، بأن تبيض في عشها وتعيش برفقة فراخها من دون أن يسبب لها أذًى، فهو صديق للجميع.

في جميع الأحوال طائر اللقلاق عند أهل الواحة محطة عناية واحترام، وقد حفظ التاريخ لأهل الواحة دورهم المباشر أو غير المباشر، في بناء دار تطبيب طيور اللّقلاق وجبر كسورها "دار بلاّرج".[4] عناية أهل الواحة، بوضع وحالة طائر بلارج، في حد ذاتها عناية بكل أنواع الطيور. السؤال هنا كيف أدرك أهل الواحة منذ القدم بأن مصيرهم يتوقف على مصير مختلف الطيور؟ (المصير المشترك بين مختلف الكائنات في الوجود)، فكرة تبدوا للوهلة الأولى أنها فكرة بسيطة، وهناك من يرى بأنها فكرة ساذجة، ولكن حقيقة الأمر أنها فكرة تعانق الوجود، ببساطة أهل الواحة لهم فلسفتهم الخاصة في فهم وجود الإنسان، حياة الواحة داخل الصحراء جعلتهم يخبرون معنى الوجود وماهيته، وذلك يظهر واضحا وجليا من خلال أشعارهم.

وأنت الآن تخطو خطواتك بحذر، على جنبات الوادي، وإذا بك أمام مكان منبسط ومتسع امتزجت فيه الرمال بالماء، وأنحصر مجرى النهر في أقصى ضفته البعيدة عنك، الرمل مبللة و وتوحي لك بأنها صلبة قابلة لتتحمل ثقل خطوات من يمشي على سطحها، وقد تغريك وتجذبك حباتها وخطوطها المتعرجة، وهي سوداء اللون تتخللها بلورات رقيقة منها الشفافة واللامحة...إن تجرأت واقتحمت المكان ستجد نفسك بداخل فخ لم يخطر ببالك، ستسحبك الرمال المبلّلة الى الأسفل بشكل سريع، ستغوص أقدامك حتى ركبتيك، في فخ الرمال المبلّلة بالماء، وستجد نفسك في حاجة لجهد مضاعف لتستلّ رجلك بعد الأخرى، من عجينة الرمل، سيمتلكك الخوف ويخيل إليك أن الرمال ستسحب كل قامتك إلى الأسفل، ويخيل لك بأنها نهايتك، بعد جهد جهيد، تتمسك بشجيرات "الفرسيك" وشجيرات الدّفلة على جنبات الرمال المبللة، وستكون مساعدة لك في الخروج من ورطتك.

ومن هذا الأحمق من أهل الواحة الذي يضع نفسه في هذا الموقف؟ لحسن حظك، لم يراك أحد، وأنت على هذه الحال. لو بصرك أحد منهم لكنت موضوع لسخرية الجميع، ابتعد عن هذا المكان إلى مكان آخر، عد إلى سريعا إلى مكان خرير المياه، أغمس أرجلك في الماء، وهي الآن تلامس حبات الحصى والحجارة الصغيرة، أفركها جيدا وأزل عنها حبات الرمل العالقة بها، أغسل وجهك، لا تكتفي بهذا، أكمل الوضوء فغروب الشمس يقترب، صلي المغرب في عين المكان، وعد إلى مقر سكناك داخل القصر في جوف الواحة أو في القصبة التي تطل من أعلى الربوة على نخيل الواحة.

مع الأسف نهر بهذه الضخامة والفخامة، يتحول حاله إلى برك صغيرة من الماء، مثل أكواب بالية متباعدة مليئة بالماء على طاولة بئيسة، وربما سيتحول غدا قعره إلى كوب فارغة. هذا ما يخشاه أهل الواحة وقد هاجرت طيور اللقلاق "بلاّرج" وقد حل موعد عودتها، ولم تعد بعد...

...يتبع...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

........................

[1]  الدفلة أوالدِّفْلَى الزيتية أو خَرْزَهْره أو ورد الحمار... شجيرة صغيرة يصل ارتفاعها إلى 2.5-6 متر، وهي ذات شكل قائم التفريع وأفرعها غزيرة ومقوسة. لها أزهار ذات لون أبيض أو قرنفلي أو أحمر أو أرجواني.

[2]  قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)﴾ (السجدة)

[3]  دجاجة الماء هي دجاجة تستوطن في المغرب العربي ومصر والشام، وتمتد شرقاً للعراق حتى منطقة الخليج العربي.. وهو من الطيور المائية حجمه قريب من حجم البطة الصغيرة. يعشش على ضفاف الأنهار والمسطحات المائية وبين النباتات النهرية.

[4] ما بين 1803م و1804م بمدينة مراكش، عمد الأمير مولاي عبد السلام، نجل السلطان المغربي محمد بن عبد الله (-1790م) إلى تحويل منزل كبير في المدينة العتيقة (دار بلارج) إلى حبوس موقوف للعناية باللقالق معتلة الصحة، ورغبة منه في توفير أفضل الظروف لعلاجها، خصص للملجأ مداخيل كراء أحد «الفنادق». بيت بلارج لازال مزارا سياحيا إلى اليوم. ويرى الباحث المغربي محمد أيت العميم أن هناك دار مماثلة (دار بلارج) زمن الموحدين (1123م – 1268م)، أحدثت لنفس الغاية بمدينة فاس.  وقد كتب الكاتب الإسباني خوان غويتسولو قصة بعنوان «الرجال اللقالق»

أنشد أحمد بن شقرون:

إِذَا عَطَبَ اللّقْلاَقُ يَوْمًا فَإنّهٌ *** بِمَالٍ مِن الأوْقافِ يُجْبَرُ مِنْ كَسْرِ.

في المثقف اليوم