قراءة في كتاب

سعاد الراعي: قراءة تحليلية نقدية لكتاب: عقيدة الصدمة: الكوارث (4): صعود رأس مالية

المرحلة الانتقالية: حين تُصاغ الجغرافيا من رماد الصدمة

تمهيد: عقيدة تُصاغ من رُكام العالم

في القسم الرابع من كتاب عقيدة الصدمة، تمضي ناعومي كلاين أبعد من مجرد تحليل اقتصادي، لتكشف عن خريطة سياسية كبرى تُرسم بالدم، وتُحفر بمشرط المؤسسات المالية العالمية.

تعنون كلاين هذا القسم ـ"لقد ضعنا في المرحلة الانتقالية" والذي لا يأتي صدفة، بل كإعلان عن حالة من الفقد المتعمّد للاتجاه، تنتهزها الرأسمالية المتوحشة لفرض نظام جديد، يتغذى على انهيار القديم.

هنا، لا تكون الصدمة حدثًا عارضًا، بل عقيدة راسخة، تُديرها قوى عابرة للحدود، تلبس أقنعة المساعدات، وتأتي محمّلة بأدوات الخصخصة والقمع.

تفكيك البنية – كيف يُعاد تشكيل العالم بعد الانهيار؟

يبني هذا القسم هيكله على خمس تجارب نموذجية: بولندا، جنوب أفريقيا، إندونيسيا، الصين، وروسيا. لكن ما يجمعها ليس التاريخ المشترك، بل الصدمة المشتركة التي جرى استغلالها لإجراء جراحة كبرى في جسد المجتمع.

1. بولندا: من التضامن إلى الانسحاق

بولندا ما بعد الشيوعية أرادت عدالة انتقالية، فوجدت نفسها ضحية لوصفة مستوردة من "مدرسة شيكاغو". (خطة بالسروفيتش ـ "العلاج بالصدمة")، لم تكن إصلاحًا، بل صاعقًا كهربائيًا جماعيًا مزّق الروابط الاجتماعية، فرضت تحريرًا سريعًا للأسعار، خصخصة واسعة، وتخفيضات حادة في الإنفاق العام. نتج عن ذلك ارتفاع معدلات البطالة، انخفاض الأجور الحقيقية، مما أدى إلى تآكل الطبقة الوسطى وتفاقم التفاوت الاجتماعي فجعل الفقراء أكثر فقرًا، وأدخل البلاد في سباق خصخصة مفرط. "

لم تكن الصدمة هنا استجابة، بل كانت الخطة الأصلية." (ص 251)

2. جنوب أفريقيا: الحرية المنقوصة

جنوب أفريقيا خرجت من حقبة الأبارتهايد، لكنها لم تخرج من قبضة السوق البيضاء. فقد تم تسليم الحكومة سياسيا فقط، ولكن مع تعطيل أدوات التغيير الاقتصادي الحقيقي، بقيت الأرض والمال والذهب والالماز خارج متناول السود، وتحول حلم العدالة إلى وهم بلا جذور. إنها حرية سياسية في قفص اقتصادي. "لقد سلموا الحكم دون أن يسلّموا المفاتيح." (ص 266)

3.  إندونيسيا: الانهيار المصمَّم

حين ضربت الأزمة الآسيوية إندونيسيا، لم يكن العلاج هو الاستقرار، بل فرض المزيد من الفوضى: رفع الدعم، خصخصة فورية، طرد الموظفين، إغلاق البنوك. نتج عن ذلك بؤس منظم استغلته الشركات الدولية لشراء كل ما يمكن بيعه. ومن أبرز نتائج هذا البؤس، انتهاء الطبقة الوسطى وبيع الكثير من العوائل اطفالها وابنائها وبناتهم لتجار الدعارة.

"كلما تعمقت الأزمة، ازدادت شهية الشركات الغربية." (ص 278)

إنها مأساة حيث الجوع يُنظَّم، واليأس يُخطَّط له.

4. الصين: الإصلاح المقترن بالقمع

رغم أن الصين بدت قصة "نجاح اقتصادي"، إلا أن ذلك النجاح لم يكن دون ثمن: قمع دموي في ساحة تيانانمن، وصعود نخب اقتصادية من رحم الحزب الشيوعي. التحول لم يكن تحررًا، بل كان استبدالًا للبيروقراطية الاشتراكية بنخبة الأوليغارشية.

5. روسيا بين رماد الإمبراطورية وصدمة السوق:

بين الديمقراطية الحُلم والديمقراطية الأداة.

في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، بدا المشهد مهيأً لولادة نظام ديمقراطي جديد. وتكشف كلاين كيف تحولت لحظة التحول الديمقراطي المنتظرة إلى كابوس نيوليبرالي محكم الصنع، لا يختلف في جوهره عما جرى في تشيلي في عهد بينوشيت. حيث أن ما جرى لم يكن سوى تفكيكًا مبرمجًا للاقتصاد السوفييتي، لصالح نخب جديدة، تم انتقاؤها ورعايتها تحت إشراف مستشاري الغرب، خاصة من الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي.

"الديمقراطية لا تثمر إن زُرعت في أرض محروقة." (ص 352)

"تلقّت روسيا الجرعة الكاملة من صدمة السوق: تحرير الأسعار، إلغاء الدعم، خصخصة الشركات الكبرى، وإعادة كتابة القانون تحت الإملاء الأميركي." (ص 334)

ولان العلاج بالصدمة هي وصفتهم السحرية للفوضى، سُرِّع كل شيء دفعة واحدة: أُطلقت الأسعار، أُغلقت المصانع، وتمت خصخصة آلاف الشركات خلال أشهر قليلة، مما تسبب في انهيار شامل لمنظومة الحياة اليومية: تفكك نظام الصحة، تأخر الرواتب، تفشي الجريمة، وانتشار الجوع.

"أُقنع الروس أن المعاناة المؤقتة هي ثمن لا بد منه من أجل مستقبل مزدهر... لكن المستقبل ذاك لم يأتِ." (ص 360)

أوليغارشية لا ديمقراطية

وكانت النتيجة المباشرة، هي ظهور فئة محدودة من الأوليغارشيين الذين استولوا على الموارد الطبيعية والمالية للبلاد، فيما غرقت الغالبية في الفقر واليأس. تحوّلت روسيا من دولة عظمى إلى اقتصاد هش، مرهون بقوى السوق، فاقد لسيادته.

استطاعت كلاين ان تكشف ببراعة، ان ما حصل في روسيا مبني على ثلاث سرديات:

1. (السرد التاريخي الدقيق) يوثق الحقائق بالتسلسل.

2. (التحليل الاقتصادي المقارن) يربط بين تشيلي وروسيا.

3. (اللغة البلاغية المؤثرة) تحوّل الأرقام إلى صور دامغة.

كلاين لا تكتب كاقتصادية تقنية، بل كمفكرة إنسانية، تمزج الوقائع بالأسى، والإحصاء بالوجدان.

"لم يكن الأمر مجرد تحول اقتصادي... بل عملية اقتلاع جماعية للذاكرة، للوطن، للكرامة." (ص 377)

ان أهمية هذا الجزء تكمن في الدراسات الاقتصادية والسياسية

ففي الاقتصاد:

* يقدم هذا الجزء حالة تطبيق ميدانية قاسية لنظرية السوق الحر المتطرف.

* يكشف كيف يمكن للخصخصة أن تكون أداة نهب منظم لا أداة تنمية.

*  يُبرز فشل فكرة "الانفتاح السريع" في غياب البنية المؤسساتية.

اما في السياسة:

*  يكشف كيف تُستخدم الديمقراطية كقناع لأجندات الهيمنة الاقتصادية.

*  يُظهر التحالف الخفي بين المال والسياسة في لحظات ما بعد الصدمة.

*  يحذّر من أن الفوضى السياسية تولّد دائمًا فراغًا تملؤه قوى السوق، لا قوى الشعب.

كلاين لا تكتب كأكاديمية معزولة عن الواقع، بل كشاهدة استقصائية تكشف كيف تُستبدل الأنظمة السياسية بأخرى اقتصادية أكثر قمعًا، تحت شعار "الإصلاح".

ان هدف هذا النص هو فضح العلاقة بين الصدمة وبين سرعة التحوّل. فكلما كانت الأمة مكلومة، أصبح تمرير السياسات أسهل.

"حين تكون البلاد في حالة هلع، لا أحد يسأل عن التفاصيل." (ص 204)

الرسائل الضمنية ـ الخطر لا في الكارثة، بل فيمن يستثمرها

تُحذر كلاين من تحول الأزمات إلى أدوات هندسة اجتماعية.  فبدل علاج الشعوب من أثر الصدمة، يتم استثمار هذا الأثر لإعادة قولبتها: إعلاميًا، اقتصاديًا، وحتى نفسيًا.

وهنا تكمن عبقرية "العلاج بالصدمة": في قدرته على إخفاء الطغيان داخل عباءة "المساعدة".

محاكاة الواقع ـ من ماضٍ مُعاد إلى حاضر يُعاد تشكيله

إن ما حدث في تسعينيات القرن المنصرم يتكرر اليوم، بأدوات أكثر تطورًا:

* في غزة، تُسوّى البنية التحتية بالأرض تمهيدًا لإعادة إعمار "مشروطة".

* في أوكرانيا، تُدار الحرب كصفقة استثمار مستقبلية.

* في السودان، تُزرع الفوضى كي تُحصد الأراضي.

* في سوريا ولبنان والعراق، تستمر الخصخصة تحت رماد الفوضى والحروب.

باتت الكارثة مادة أولية، والصندوق الدولي هو الأداة، والنيوليبرالية هي المشروع.

الصدمة كأداة، والمقاومة كواجب

تكشف ناعومي كلاين في هذا القسم عن الوجه غير المرئي للأزمات: حين تُحوّل إلى منصة لتفكيك المجتمعات، لا لإصلاحها. فالعلاج بالصدمة لم يكن إلا تسمية ناعمة لانقلاب اقتصادي مقنّع، يُدار بشعار الإصلاح ويُمارس عبر أدوات الاستغلال.

إن أهمية هذا القسم، بل الكتاب كله، تكمن في دعوته إلى الوعي، إلى المقاومة، إلى رفض التسليم بأن ما يُفرض باسم الإنقاذ ليس إلا خطة سيطرة متنكرة في هيئة دواء.

***

سعاد الراعي

..................

* عقيدة الصدمة: صعود رأس مالية الكوارث، هو كتاب للمؤلفة الكندية ناعومي كلاين صدر سنة 2009. يمكن اعتبار هذا الكتاب الموسوعي الضخم أهم ما صدر عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المطبقة من قبل المؤسسات والدول الكبري في العالم منذ ثلاثين عاما، وخاصة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وإلى الآن.

* رابط القسم الأول: https://www.almothaqaf.com/readings-2/981610

*  رابط القسم الثاني: https://www.almothaqaf.com/readings-2/981659

 

في المثقف اليوم