أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (8): أسطورة الكبش

عاد القطيع وقد اشتاقت الأمهات إلى صغارها فهي لم تصحبها معها إلى المرعي لعدم قدرتها على المشي طيلة النهار، مرياع القطيع، نعجة كبيرة الحجم يبدوا عليها كأنها جدة كل الخراف وأمهاهم. تتقدم جموع النعاج بثقة كبيرة رأسها إلى الأعلى من ورائها ثلاث نعاج أخربات، يبدو القطيع وأنت تنظر إليه وهو أمامك، على شكل مثلث حاد الزاوية متوازي الأضلاع ومتسع القاعدة... وبهذه الطريقة الهندسية يسهل على القطيع أن يتحرك بسرعة، كما يسهل عليه اختراق أي زوبعة قد تظهر أمامه بشكل مفاجئ تتصاعد في السماء وهي محملة بالرمال، فإذا به يمر بداخلها مثل الذي يسبح في البحر، وينغمس تحت موجة من أمواجه،

الغبار تتصاعد من وراء القطيع، بفعل الحوافر الصلبة التي تدك الأرض دكا، وتخلف من ورائها أنواعا مختلفة من صدى الحوافر، فعندما تعبر الرمال يكون صدى صوتها خافتا يكاد لا يسمع، وعندما تعبر مساحة واسعة من الحصى، يتحول صدى صوت الحوافر، الى محاكات لأصوات الحجارة الصغيرة وبعضها يلتطم ببعض، مثل ذلك الصوت التي تصدره حبات من الحصى ونحن نمررها من بد إلى أخرى.

كلما اقترب القطيع من القصبة التي تطل على الواحة، الا وتعالت أصوات النعاج والماعز. الكلاب كعادتها تختفي عن الأنظار عند الاقتراب من نقطة الوصول، الشمس تميل إلى الغروب... وإذا بالقطيع فجأة يفقد شكل المثلث، ويتحول إلى شكل دائري، النعجة المرياع تتوقف الان وسط الساحة، أمام الباب الرئيسي للقصبة وتلتف حولها مجموعة صغيرة فقط. يتفكك القطيع بعضه عن بعض يتحول بشكل تلقائي في أسرع وقت إلى مجموعات صغيرة متعددة، البعض من الخرفان ينتقل من مجموعة إلى أخرى ليستقر به المطاف في إحدى المجموعات، اتضح الآن أن كل مجموعة بداخلها نعجة مرياع يتجمع حولها أفراد المجموعة. هناك لغة بين أفراد القطيع توحي لك كأن افراده يودع بعضهم بعضا، كأنهم يضربون موعدا في اليوم الموالي، بعدها يتقدم صاحب كل مجموعة من اهل الواحة ليسوق مجموعة نعاجه ومعزاته أمامه، تتسلل المجموعات بين دروب وأزقة القصبة، كل منها يعرق بيت صاحبه.

لا يخلو قطيع الغنم من عدد من الماعز، وهذا لا يعني أن الماعز والغنم أي النعاج والخرفان، يمتلكون نفس الخصائص والمميزات، الماعز يبدوا عليه نوع من الذكاء، إذ يتجه بشكل سهل نحو الوجهة المناسبة، يسير وراء المرياع وفي الوقت ذاته، لا يسلم له بكل شيء، إن أحس بخطر يداهمه، يغادر القطيع ويترك الاتجاه الذي يسير فيه المرياع (أي الخروف أو النعجة التي تتقدم القطيع)، ويستعد للدفاع عن نفسه، له القدرة ليميز بين الذئب (ابن آوى) وبين الكلاب، النعاج والخرفان ليس لها القدرة على ذلك، الماعز يتسلق أعلى الأشجار ويمسك بأوراقها، يقفز من حافة جبل إلى آخر، يميز بين صوت راع وراع آخر، عندما تنادي عليه يستجيب، تشير عليه ويفهم الإشارة... لو اختار الهروب والتخلي عن القطيع لأقبل على ذلك.... كل ما في الأمر أن النعاج والخرفان تبدوا بلهاء بالمقارنة مع الماعز، وليس من العجب أن نجد الكثير من أهل الواحة يقدمون حليب وجبن الماعز عن أي حليب آخر، فمنهم من يرى أن حليب الماعز يقوى الذكاء عند الأطفال، ويمنحها قوة وقدرة عندما تكبر على تسلق الأشجار...

ومن الغريب عند أهل الصحراء منذ القدم، أن يحيطوا الماعز بكثير من الحكايات والأساطير، بينما الخراف كانت موضع تقديس، كثيرة هي من النقوش التي يفهم منها أن أهل الصحراء قديما وغيرهم، قد قدسوا "الكبش" أو الخروف، وكيف له أن يحظى بهذه المكانة؟ هل حظي بها للطفه ووداعته أم لبلادته؟ الخراف في مقدمة الأضاحي والقرابين؟ يتخيل الكثير من الناس بأن فداء ابن نبي الله إبراهيم كان بكبش، ودليلهم على ذلك ما ورد في القرآن قال تعالى: " وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)"(الصافات)، ما هو وجه العظمة في هذا المخلوق المتعدد الأسماء "الكبش" "الخروف" "الضأن"، أية عظمة هذه الخراف ترى الذئب (ابن آوى) وتقبل عليه لتعانقه، هل هناك حماقة أكثر من هذه؟ احتمال كبير أن يكون الذبح العظيم حيوان آخر، إنه ذبح عظيم، وليس كبش عظيم!! صحيح ومما لا شك فيه، أن الخروف لا يغدر بأحد، وقد نال الغدر منه كثيرا، حتى الرعاة يصاحبون الخرفان بهدف ذبحها!!

تورط أهل الصحراء في تقديس الخروف، منذ زمن ما قبل التاريخ، المجسمات والنقوش تفصح عن هذه الحقيقة، فمنطقة الصحراء الكبرى وشمال إفريقيا تميّزت بتكرار غريب لرسوم ونقوش الكباش على مختلف الصخور، وهذا يعني أن أهل الواحة قديما لهم يد في ذلك. كان الخروف موضع قداسة في الصحراء، وهي مكانة لم ينالها غيره من الحيوانات، بما فيها الجمال "سفن الصحراء" فهيأتها موضع كثير من الاستغراب والفضول، إنها موضع للتأمل والنظر.[1] فأسنمتها تحاكي شكل الجبال في الطبيعة، أرجلها دون حوافر، شكل أرجلها وهي تدفع بالصدر البطن إلى الأعلى، انحناء رقبتها، رموش أعينها التي لا تهزمها ذرات الرمال، لسانها الذي يلتهم الأشواك قدرتها على تحمل العطش... هناك أمر لا نعرفه قد جذب أهل الصحراء نحو ""الكبش" "الخروف" ليرون فيه موضع قداسة، ربما لكونه يتصف بالوداعة والطاعة، وهو سهل المنال ليكون قربانا وأضحية عن صدق طواعية منه، ففي الوقت الذي يتصف فيه الخروف بالوداعة، تتصف فيه الذئاب بالغدر، القربان والأضحية، ما هي إلا تعبير رمزي عن الطاعة والخضوع والانقياد، وليس هناك حيوان يحمل هذه الرمزية أكثر من الخروف، القربان والأضحية تعبير رمزي يرفع من قيمة الوداعة والصدق والوفاء، ويحط من قيمة الغدر.  ومن هذا الأحمق الذي يختار أن تكون أضحيته وقربانه ذئبا (ابن آوى) وهو يمسك به في الصحراء بعد أن ينصب له فخا من المؤكد أن يقع فيه، أو يتسمّر لوقت طويل بالقرب من جحره، ليصيبه بسهم من سهامه!! لقب الخروف عند أهل الواحة لقب مزدوج، يرمز إلى اللطف والوداعة والتواضع،[2] ويرمز إلى الإتباع والانقياد دون رأي ولا نظر. بينما الذئب لا يحتمل إلا رمزا واحدا وهو الغدر.

الجن عند أهل الواحة، لا يتقمص صورة الخروف، بقدر ما يتقمص صورة الجدي أي الماعز، أو أي مخلوق آخر، فإذا ظهر لك ماعز كله بلون أسود وأنت وحدك في الطبيعة، فأحذر أن تتبعه، سيوهمك أنك ستمسك به، سيقودك خطوة بعد أخرى، إلى مكان حيث لا أحد، ستجد نفسك في الخلاء لوحدك في ضياع دون أن تمسك به. تحكي الأسطورة أن شابا مفتول العضلات اسمه "حمودة" في يوم من الأيام، خرج لوحده من القصبة، وترجل داخل الواحة في اتجاه النهر الكبير، وإذا به يجلس بجوار بركة صغيرة من ماء النهر، بالقرب من المجرى الرئيسي للماء، امتدت يده لتلامس سطح الماء، فبدل أن يرى انعكاس ملامح وجهه على سطح الماء كالمعتاد، ظهر له انعكاس رأس ماعز جميل المنظر، يقف بالجانب الآخر من البركة، رفع الشاب رأسه ببطيء، نظر بعيدا الى الجانب الآخر من البركة، وإذا بعينيه تبصر جديا قصير القامة، صغير السن شعره أسود غامق ولامع، عينان برّاقتان، أذناه لست بالقصيرة ولا بالطويلة، قرونه فضية... جذاب المنظر، انجذب حمودة نحجو الجدي، إنه انجذاب غير طبيعي، حدث بشكل سريع وبدون تردد، مثل انجذاب مسمار نحو المغناطيس، بشكل تلقائي، هكذا هو حمودة أمام الجدي، كله رغبة أن يمسك به، دون أن يخطر بباله أن الجدي جرّه وجذبه إليه جذبا.

غمس حمودة رجليه في الماء عبر البركة إلى الجهة الأخرى، ابتعد الجدي منه قليلا ووقف والتفت يحدق بعينيه، وإذا بحمودة يلحق به، كلما اقترب من الإمساك به إلا وابعد عنه قليلا، المسافة بينهما لا تتجاوز عشرة أمتار، تتمدد وتتقلص، لم يخطر في بال حمودة بأن الجدي هو من يتحكم في المسافة الفاصلة بينهما، كلما ضاقت بينهما، إلا ومد يده ليمسك بالجدي من أعلى ظهره، الجدي يجري وحمودة يجري من ورائه، لمسافة طيلة، في الأخير وسط كثبان الرمال، قفز حمودة بكل قوة عالية وإذا به يجد نفسه من أعلى ظهر الجدي، فأمسك بيده اليمنى بالشعر الأسود المتدلي من رقبة الجدي، وامتدت يده اليسرى لتمسك بإحدى قرونه، وتلحقها اليسرى لتمسك بالقرن الآخر. الجدي الآن لا قدرة له على الهرب.

استرجع حمودة أنفاسه، وهو ماسك بقرون الجدي، بعد ذلك رفعه إلى الأعلى ووضعه بين كتفيه، إلى الوراء من قفا رأسه، وأرجله الروائية متدلية إلى الأسفل من جهة الكتف الأسر، أما رأس الجدي فهو متدلي بعد الأرجل الأمامية الى جانب الكتف الأيمن. اليد اليسرى تمسك الآن الأرجل الخلفية بالقرب من حوافر الجدي، واليد اليمنى تقبض بصلابة على الأرجل الأمامية بالقرب الحوافر، كلما تحرك الجدي ما بين أكتاف حمودة، إلا وجذبته حمودة من كلا أرجله الخلفية والأمامية الى الأسفل. كل ما يفكر فيه حمودة، هو الوصول الى باب القصبة، والجدي على كتفيه، ليعلن في الملأ أنه وجده تائها بالقرب النهر الكبير، ربما يظهر صاحبه، أو يتم ذبحه وتوزيعه على الجيران، أو ينضاف الى عشرت النعاج وهم في طريقهم نحو القطيع... بعد عناء وتعب شديد، ها هو الآن بالقرب من باب القصبة وسط الساحة، حافي القدمين، قميصه لا يتجاوز ركبتيه، خنجره مثبت على الحزام الذي يلف خصره بإحكام، أكمام القميص واسعة بشكل ملفت للنظر، الجدي من أعلى كتفيه يرفع رأسه ويدليه نحو الأسفل حينا آخر.  ها هو الآن، يفتح فمه ويخرج أسنانه ولسانه، ويلف رقبته في اتجاه رأس حمودة، ويهمس له في أذنه اليمنى " حمودة أنظر إلى أسناني" (حمودة شُوفْ سِنيَّ)

نعم كلّمه بهذه العبارة التي التقطتها أذن حمودة في المرة الأولى والثانية... منكم من لا يصدق هذا... لا يعقل لجدي أن يتكلم مع إنسان... لكن حمودة حدث له هذا، إنها حالة تخصه لوحده دون غيره، ربما هي حالة نفسية يمر بها حمودة وهو يتخيل نفسه يسمع كلمات جدي يخاطبه...اليس في علمكم بأن طير الهدهد كلم سليمان... يا الله، سليمان نبي الله، هذا أمر لا يستقيم، فلا مقارنة مع وجود فارق...

لم ينتظر حمودة تكرار المقولة للمرة الثالثة، وإذا به يرفع الجدي من كتفيه إلى أعلى رأسه، وينزله ويحطه على الأرض، وهو ممسك بكلا أرجله الأمامية والخلفية، أحكمه مرة أخرى بوضع ركبتيه على صدره وظهره، مرر يده بشكل نحو الخنجر وقد تمكن من أن يستله من مكانك بشكل سريع، أقترب من رقبة الجدي وهو مثبت على الأرض، حمودة الآن يتردد في سمعه صوت الجدي وهو يقول " حمودة أنظر إلى أسناني"(حمودة شُوفْ سِنيَّ) لا جواب عند حمودة، وقد ابتكر جوابا بشكل عفوي، والخنجر يمتد إلى رقبة الجدي "وأنت أنظر إلى الخنجر بأيدي" ( وأنت شُوفْ جَنْوِيَّ بِدِّيَّ)[3] وإذا به يمرر الخنجر يمينا وسيارا على رقية الجدي، فجأة وجد خنجرة يمرر فوق التراب، اختفى الجدي، ولم يعد له أثر... ركبتي حمودة الآن منثنيه على الأرض، وإذا به يقف ويدخل الخنجر في غمده ويضرب كفا بكف...هكذا تقول الأسطورة حمودة نفسه سار يتقمص صورة وشخصية الجدي، إن رغب في ذلك. فلم يعد يطيق الناس كثيرا، عندما يمر أمام جماعة من الناس، لا يحتملهم، يتقمص صورة الجدي. سار الأمر مشاعا بين أهل الواحة، عندما ترى جديا أسودا، احذر أن تلقيه بحجر، أنت لا تعرف هل هو جدي فعلا، ام إنسان يتقمص صورة جدي، إنها حماقات من يسلمون بأن الأرواح تخرج من جسد لتسكن جسدا آخر، والغريب أن تجد من الذي يدعي قدرته استحضار الأرواح بالضرب على الطبول، بإيقاعات مختلفة، وبالاجتماع حول وجبة لحم جدي أسود. الخروف لا نصيب له ولا قدرة عندهم في استحضار الأرواح.

الأساطير من شأنها أن ترتحل عبر الزمن من مكان إلى آخر، من ثقافة إلى أخرى، والغريب فيها أنها تتلبس بخصوصيات المكان والزمان والمحيط، كذلك هي أسطورة الجدي عند اليونان فقد ألقت بظلالها عبر التاريخ وسافرت عبر الزمن من مكان إلى آخر. وتمثلت في مختلف الحكايات الشعبية.

أهل الواحة يميلون لسرد مختلف الحكايات، الطولة منها والقصيرة، بالرغم من أنهم لا يصدقونها، ولكن عند ما يخلوا الفرد الواحد منهم بذاته، دون أن يكون معه أحد، وهو في طريقه إلى عمله، أو قادما من حقله البعيد عن القصبة أو القصر الذي يسكن بداخله، فقد تستحوذ عليه مختلف الحكايات والأساطير، من النادر أن تجد رجل في الواحة أو في جنبات الصحراء يطار جدي لوحده، فضاء الصحراء بطبعه ينسجم مع مختلف الإيحاءات والتصورات الغريبة، وهذا لا يعني أن أهل الصحراء و الواحة لا يكسبون قطعان الماعز، فعلى العكس من ذلك، الأسطورة تعود على الجدي الواحد، اما إن تجاوز الواحد، فقد تحللت الأسطورة والحكاية من معناها.

... يتبع ...

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

........................

[1]  قال تعالى: "أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)" (الغاشية)

[2] ورد في (إنجيل يوحنا 1: 29) "وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!"

[3]  جَنْوِيَّ، وهي الخنجر أو السكين، نسبة الى جنوة وهي الآن مدينة داخل التراب الإيطالي، قديما كان المغاربة يستوردون نوعا من السكاكين جنوة، وقد سمي السكين نسبة إلى اسم المدينة في العامية المغربية جَنْوِيَّ.

 

في المثقف اليوم