أقلام ثقافية

أمان السيد: ثلاث عجلات للموت..

إلى روح خالي الغالي "غسان محمد المجذوب"

الموت.. تلك الرسالة المجهولة التي لا يأتيك بها ساعي بريد، ولا وسيلة أطرف حداثة، تحس به حولك، ومع ذلك تنسحب باطمئنان إلى مساعيك اليومية، تدعه، وأنت تراه قد جثم فوق عزيز لك، ولست تملك نحوه سوى النظر، والتمتمة بالدعاء، وطلب التخفيف عن المصاب به.

أهو داء تبتلى به، أم أنه الذي تعجزك أشرس الأسلحة عن مقاومته، أم هو شيء لذيذ يتجوّل كالخدر، وهو يكشف أمامك ما سرد لك في الكتب دينية، وغير دينية، متخيلة، أو مستنسخة من وادي عبقر.

لم يكن من إشارة اليوم لطفل يبتسم مداعبا، أو لحمامة حول الشباك ترفع رأسها تبشر بالسلام كما نُسب إلى.. أو أخبر بعض من عادوا بعد أن انصبّوا عبر النفق الطويل يتلمسون ضوءا شاحبا ينوء في نهايته فتيل شاحب.. ليس من شيء سوى المصاب به، هادئ هو، متلاشي الحضور إلا من أنفاس تلهث في صدره المنخور عجزا، ونحولا.. حوله من يبكي، ومن يتلو، من يدعو، ومن يفكر متى ستنقضي الساعة، ومن يفكر بأشياء أخرى لا يخاصرها عالم اللحظة الشائك..4145 امان السيد

ولعلي أنا الذي بصمت كان يتابع، وبالتمنيات الطيبة يتمتم أن يعبر بسلام، وقد استذكر أصناف الموت كلها التي تلقفها، وأسرَتْ فيه هدوءا لا مثيل له إزاء هذا المشهد الجليل، لينتشل نفسه بلأيٍ، ويفلتها لفضائه..

هناك حيث لا كلمات، ولا تلفاز، لا شيء سوى أفكاري أنضددها، وأنا أرتب ما تسوقته من متاع الغرور.

الموت رديف الصمت المحرض على الصمت، تسكت الأجراس المعتادة في رأسي الذي لا يملّ من الطنين، لأتقبل خبر الوفاة بتريث الحكيم، الذي تلبّسه العقل مبكرا جدا.

أرنو من وراء ستارة خلبية، وقد سحبه إليه بجناحين تطويان حكاية وطؤها ثقيل، لكن عينيه الزرقاوين لم تلبثا أن أومضتا لي غزيرتين.. باقتان من نجوم وديعة..

" يباشر.. الموت"

*

و.. أتراك تعلم أن الموت لا ينتهي سريعا، إذ ليس روحا تغادر، ولا جسدا ينطفئ، ولا عيونا تنسدل على الكتمان.. إنه سلسلة تسلم قيادها لعاقل، يتمرّس به التدبر، والتقليب.. وتختلف الطرق، فما بين أن تنهال الجرّافات هنا بالتراب على جسد استغنى عنك، وما بين فؤوس هناك في وطنك الأم يفتقد الدفن شفافيته، ويتشظى به حنينه.

هنا حيث تصلي النساء مع الرجال، وراءهم، على بعد خطوات، بحماية جدار، في مبنى منفصل.. ليس مهما، المهم أنهن يحصلن على حق لهثن حوله مذ خلقن، يصلين على الفقيد، ويتجمعن في بيت من بيوت الله لتطييب الخاطر، أما المغسل، فلقد فررت منه، دون أن أعلم بوقته، فررت، وحتى لو علمته، فإني سأفرّ منه، ومن الطقوس الشبيهة كلها سأفرّ..

هنا في المقبرة التي تحمل مسمى أجنبيا، غريبا عنك، تختلف عنه مقبرة "المَغربي" التي تقابل بيتك في الوطن شلفَ حجر، أو كيلومترا، ولكنك لا بد أن توقّع بامتنان وتقدير لروعة التنظيم، والاحتفاء البشري، ولسكائب حقول الزهور الثرية الألوان والفوح التي شتلت فوق القبور، ولمشاعر أخرى تنبثق فيك معها..

قد تشتهي فنجان قهوة، وأنت تجالس في تداعياتك مقعدا من مقاعد حديقة " البَطرني" ومثيلاتها من الحدائق العامة التي تجولت فيها هناك أيضا، وأنت تراقب من بينك وبينهم خطوات، وتبتسم وأنت تتساءل: أهم الأموات، أم أنت أيها الغريب الذي دعوت يوما على نفسك أن تموت ملفوظا، وهل سيستجيب الله لك دعاءا مريرا رجوته تحت ضغطة قيد، وفتكة معصم؟!

أهم الأحياء، أم أنت الذي عندما تشتهي فنجان قهوة، سترتشفه على الفور.. وهل هم نسوا رائحة قهوة الصباحات، أم مجّوها، لأن هناك طيورا ألزمت بها أعناقهم قد حان الوقت لهبوطها، ولفتح الدفاتر، ولتجريدها من اللحم حتى العظم، ثم في كفتين وزنها...

أيها المسكين، وماذا لو مالت إحدى الدفتين قيد شعرة؟!..

هل في تلك اللحظات سيقدّر للميت أن يستقوي بحكاية المجرم المذنب الذي اجتمعت ملائكة الموت لتحصد أعماله، وعندما اختلفت قيست خطواته إلى أي اتجاه كانت الأقرب، إلى رقعة الشر، أم إلى رقعة الخير، ليفوز حصانه بقصب السبق؟!

" يوم يلي الموت"

*

ها هم يتنادون فرادى، وجماعات في ذلك المنأى الذي لن يصل إليه أحدهم راغبا لو أراد الاكتشاف، أو شاعرا لو أنه أراد قصيدة، نفرت منه حيث الشمس والقمر يتشقلبان بمحبة وتساق، وبتناغم لا يرتقي إليه الغائبون، مكرها سيستقبله، مصرُورا كسجادة فارسية، شامية، يتساوى انتماؤها، نفضت عنها زخارفها، فالتزمت الصمت تجاه اشتهاء الدنيا، وغرائزها العصية على الشجب، أو على الإخراس..

من الذي أخبرهم بالمستجدّ، أمن جواب غير أن البصر اليوم حديد، وأن التحية سُنّة، والواجب أن يُحيّا الوافد بأفضلها، هم الذين لطالما تنازعوا فحرثوا الأرض أنانية، وكرها  ينفضون غبار الكدر، ويتشافون بمعين الصفاء والسلام في العالم الجواني، لبّ الجواني، أعماقه، دخائله العصية على الإدراك، والرضية قبولا، بل استسلاما..

في العالم الأثيري ستطفو الأرواح عزيزة رغم ما سبق منها، أوليست من نفخ روح الله تسلسلا، وهناك ستنطلق النفس بحرية بعيدا عن ملاكها الحافظ، إذ آن أوان الانفلات من كل قيد دنيوي، وسيُستعذب تطواف، وسيتعثر آخر..

أيها الوافد ستلتحق بالركب حثيثا، وسيعمر بك المقام، ولكن ماذا بشأنك، أنت الذي تذوقت لذة الاعتزال، وانتأيت بك حين استمطار الأرواح أصابك بالعناء...

رغم استثناءاتك كلها، لا مفر، ففي التراب استُودعت عجنا طريا لن يلبث أن يعتدّ به اليباس لخلود حقيقي، وحاذر التمرد، فالوجوه التي تُعرّى لا تستر أبدا...

".. وبعده.. الفراغ"

***

أمان السيد - كاتبة سورية / أستراليا

 

في المثقف اليوم