أقلام ثقافية

محمد سعد: ليتنا كنا مجانين!

هل هناك حدود فاصلة ونهائية بين الجنون والعقل..؟

على امتداد تاريخ الثقافات المختلفة وخاصتاً في المجتمعات الريفية والبدائية، نُظر إلى الجنون على أنه يمثل أرواح شريرة لبست أجساد البشر من (الجن والعفاريت) وتيدأ سرديات من الخرافات والجهل وينشط، المشعوذون والدجالون، والسحره ومنذ متتصف القرن المنقضي حدث تقدم في مجال الطب واصبح هناك أطباء متخصصون لقسم مهتم، بهذا المرض، نُظر إليه على أنه حالة مرضية مثل اي مرض تحدثت مع استاذة للأمراض النفسية أثناء تطوعي بالذهاب مع حاله مرضية من قريتنا الي مستشفي/دميرة بالدقهلية للآمراض النفسية والعقلية .وحضرت جلسة أسئله تطرحها الطبيبة علي المريض، وقالت ان المريض في كامل قواه العقلية، وكان معي صديق اخر متطوع، فحدثت مشادة كلامية مع الطبيبة وصديقي، كانت الطبيبة ترفض ان يتم حجزة داخل المستشفي وقالت: يحتاج الي رعاية اسرية او شخص يتطوع للقيام بخدمتة من الطعام والملبس ونظافه المكان الذي ينام فيه ورفضت حجزة في اي مصحة نفسية و يلزم أن تعالج الحاله بالأدوية والعقاقير الطبية وكفي سمن سنوات داخل المصحة، أما الفلسفة لها رأي أخر (ديكارت) فقد أنكر عن الجنون أي معرفة ممكنة، لأن العاقل هو الذي يفكر .غير أن الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) استطاع وهو يدرس خطاب الجنون أن يقلب هذه التصورات؛ نزع عنه هالات الأسطرة والأدلجة، ورفض أن يعتبر العقل أفضل من الجنون، أو أن العاقل أفضل من المجنون بشكل مسبق، وكان السؤال الذي سيطر على ( فوكو ) هو: هل هناك حدود فاصلة ونهائية بين الجنون والعقل؟ أم أن الجنون من جنس العقل، والعقل من جنس الجنون ..؟

فيما هو يحلل خطاب الجنون اكتشف أن للجنون تاريخاً، وأن مؤسسة الطب النفسي متواطئة بشكل أو بآخر مع مؤسسات القمع الأخرى في المجتمع ضد المصابين بأمراض نفسيه، والمسألة منذ البداية ليست طبية، بقدر ماهي فكرية ثقافية وحتى اقتصادية، فالجنون ظاهرة نسبية اجتماعية متغيرة، وليست ظاهرة طبيعية أزلية، بل ظاهرة تاريخية ثقافية، تخص الظروف والمشاكل الاجتماعية. أراد الفيلسوف الفرنسي فوكو بدراسة خطاب الجنون أن يعطي لهؤلاء المجانين المهمشين الحق في الكلام وفي الوجود، وأن يخرجهم من عزلتهم التي سجنوا فيها، وهذا الكلام يتفق مع رأي الطبيبة معي بخصوص المريض،،  وقد كرس أغلب كتبه لهؤلاء ولغيرهم من المضطهدين والمقهورين لكي يعطيهم الحق في الكلام، وبالفعل الحق في الكلام عندما كان يعترض صديقي المرافق معي داخل غرفه الكشف وكان يطلب من المريض بالتوقف عن الكلام فطلبت الطبيبة من صديقي، الخروج من حجرة الكشف وهددتة بطلب الشرطة،، لآن المريض كان يحكي عن الحقيقة والمأساه التي يعيشها وعاشها من قبل،، وصديقي كان يريد ان يصمت حتي يتم حجزة داخل المستشفي، 

يقول "فوكو" عن الاضطهاد؛ ربما الاضطهاد بشبه الحب إلى حد ما، إنه كالحب لا يحتاج لأن يكون متبادلاً حتى يكون حقيقياً،، الاضطهاد لا يحتاج إلى مضطهدين لكي يكون اضطهاداً، إذ يكفي أن تشعر بالاضطهاد لكي تكون مضطهداً. تجربة الاضطهاد لا تحتاج في حقيقة الأمر للآخرين، صحيح أن للآخر وجهاً مكشراً عابساً، وأن الآخرين قريبون جداً من المضطهد لا تكاد تفصلهم عنه أي مسافة، ومع ذلك فالشيء الأساسي في عملية الاضطهاد ليس هذا .أن تكون مضطهداً فهذا يعني أن تكون لك علاقة خاصة باللغة، يعني ألا تستطيع استخدام ضمير الشخص الأول، أن تكون مضطهداً يعني ألا تستطيع أن تقول (أنا) إلا وتحس بأن هذه (الأنا) مشقوقة في منتصفها، ومكسورة في صميمها من قبل الآخرين، كل الآخرين . أن تكون مضطهداً فهذا يعني أن تتكلم في عالم صامت رهيب الصمت، حيث لا يجيب عن كلامك أحد، حيث لا يرد عليك أحد قط، وكأنا الفيسلوف الفرنسي يكشف عورات المجتمع الريفي من اضطهاد المريض النفسي، حيث يتجمع حولة الاطفال والكبار، وكأنهم يزفوا عجل في مواسم الاعياد،  لكن ما إن تصمت عن الكلام، وتمد آذان صاغية حتى تسمع كلامك الخاص بالذات وقد ارتد على نفسه، وصادره عليك الآخرون، وحوروه حتى أصبح لك عدواً، وهذا ما كنت اشاهدة في بعض البلدان الآوروبية عندما كان يصعد مريض نفسي في المواصلات ويتحدث كانت الناس تصمت ولا يعطوا له اي إنتباه مهما حدث منه..؟ في هذا الزمن اشكال الجنون كثيرة ومتعددة نمارسها في مناسبات مثل العزاء والأفراح  ليتنا كنا مجانين فنحن العقلاء سخيفون كئيبون مملون مثيرون للشفقة.

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

في المثقف اليوم