أقلام ثقافية

أمان السيد: بيني وبين أبي ماضي.. لحظات تعبر في الزمن

منذ ليلة أمس، وأبيات إيليا أبي ماضي تلح علي، وتلح معها ذكريات فوق مقاعد الدراسة في المرحلة الإعدادية

ترى ما الذي ساقها إلي؟ّ

إنها صوت الرياح التي تنحب، وتنوح خلف نافذتي طوال الليل، وحتى اللحظة نهارا، ومعها تهب المشاعر والشعور الذي لا يمكن تنحيته جانبا دون أن يسلبك رقادك، ويثير فيك قشعريرة تجاه الخالق الذي بيده مقالد هذا الكون.

" السحب تركض في الفضاء الرحب

ركض الخائفين

و الشمس تبدو خلفها صفراء عاصبة الجبين

و البحر ساج صامت فيه خشوع الزاهدين

لكنّما عيناك باهتتان في الأفق البعيد

سلمى ... بماذا تفكّرين؟

سلمى ... بماذا تحلمين؟"

أتراني سلمى التي عرفت التأمل في الوجه المتواري وراء قهقهات الحياة، وضحكاتها العابثة بمصائرنا؟!

"أرأيت أحلام الطفوله تختفي خلف التّخوم

أم أبصرت عيناك أشباح الكهوله في الغيوم

أم خفت أن يأتي الدّجى الجاني

و لا تأتي النجوم"

وأستذكر وقفتي، وغوصي المطول في ذاك العمر الفتي جدا في الكتاب المدرسي الذي حمل قصيدة أبي ماضي الخالدة، وأنا التي ابتليت بهمّ الانصياع مبكرا إلى ما خفي في الكون، ودقّ، ومنه الكِبر والعجز، والرحيل، والفقد، والظلم، والعدالة المسلوبة، غير أني لم أستطع أن أكون سلمى، والشاعر يردد، وهو يحاول سحبها من أفق أظلم، واكتحل بغياب روحها في تلك اللحظات:

"أنا لا أرى ما تلمحين من المشاهد إنّما

أظلالها في ناظريك

تنمّ ، يا سلمى، عليك"

ورأيتني "سلماه" إذ يقول:

"إني أراك كسائح في القفر ضلّ عن الطّريق

يرجو صديقاً في الفـلاة،

وأين في القفر الصديق

يهوى البروق وضوءها

ويخاف تخدعه البروق

بل أنت أعظم حيرة من فارس تحت القتام

لا يستطيع الانتصار

ولا يطيق الانكسار"

وأراني "سلماه"  ثانية وهو يرطب قلبها، ويطمئنها ليردها عن الخوف، والشعور المرير الذي اجتاحها إذ يقول:

" هذي الهواجس لم تكن مرسومه في مقلتيك

فلقد رأيتك في الضّحى

ورأيته في وجنتيك

لكن وجدتك في المساء وضعت رأسك في يديك

وجلست في عينيك ألغاز،

وفي النّفس اكتئاب

مثل اكتئاب العاشقين

سلمى ... بماذا تفكّرين؟"

وكيف بي أرد إلا بالهواجس التي تبدل الحال حين يصرف المساء شمس النهار، ويلوكها في كبده ضاربا بمثلي الحال، فتنوء به وتكسر مجذافا استقوى به في النهار؟!

أما اكتئاب العاشقين يا صديقي الشاعر، فتلك حكاية الحكايات.. ففيها ألق الرومنسية، وصخبها، واستثارتها التي تخلق شجنا منه نرتوي ونتصبر على مرارة العشق، ولكن... ألست معي أنه لم يعد من عشق، ولم يعد من يستحق عناء العشق، والتشرد في أحضانه تلذذا؟!

يا لك من شاعر، وقد بلبلت بمفتاح رؤيتك أسرار حزني، وأنت تفصح عن تفكيري!

" سلمى ... بماذا تفكّرين؟"

بالأرض كيف هوت عروش النّور عن هضباتها؟

أم بالمروج الخضر ساد الصّمت في جنباتها؟

أم بالعصافير التي تعدو إلى وكناتها

أم بالمسا؟

إنّ المسا يخفي المدائن كالقرى

و الكوخ كالقصر المكين

و الشّوك مثل الياسمين"

ويا لها من دعوة وأنت بها تأخذ راحتي بترفق إلى الجمال في الكون الذي يهب الطمأنينة والسلام، رغم نوح الرياح وعصف صوتها الأجش المخيف:

"مات النهار ابن الصباح فلا تقولي كيف مات

إنّ التأمّل في الحياة يزيد أوجاع الحياة

فدعي الكآبة والأسى

واسترجعي مرح الفتاة

قد كان وجهك في الضّحى مثل الضّحى متهلّلا

فيه البشاشة و البهاء

ليكن كذلك في المساء"

ويا لك من عاشق ساحر حين حفظت تفاصيلي، بعد أن أكننت أسراري في وهج نبضك!

إذا لقد فقهت سر توردي ونور الضياء يغمرني، ولكن أتراك دريت أني أقتات على ضجيج النهار، ألوذ به وأسري، فأغفل عن وحشة تقبع في أعماقي تحيلني إلى ليل أود لو أن قمره ونجومه لا تأفل.. ولكن ما بيدي من حيلة يا صديقي سوى أن أحشر نفسي في نقسي، لأفلت بقيودي......

لقد صار الظلام حبيبا بفضلك أيها الشاعر..

سأجمع الآمال كلها باقة ورود أهديها لذاك العويل، فلعله يستكين ويهدأ، فأطمئن، وترتوي وسادتي بأماني سلاما، وسأحارب الخوف بعبير الهدايا، وإن لم أصب، فسألقي اللوم على الشعر وأصحابه..

غير أني أود أن أهمس لك بسر صغير وديع شفاف...

لقد تحولت دعوتك  في ذلك الزمان الذي صار حلما إلى أغنية، وطيف ذكرى، وهناك في ذلك الوطن البعيد الذي غادرني ولم أغادره تركت دفترا صغيرا مخمليا مزخرف الغلاف يخصني، أرجو أنه لا يزال على قيد الحياة، كنا نطلق عليه " دفتر الذكريات" أو

"أوتوغراف" ربما... ولم تخل حقيبة مدرسية لصبية منه وقعّت فيه  بعضا من نداءات قصيدتك:

" ولتملأ الأحلام نفسك في الكهولة والصبا

مثل الكواكب في السما

وكالأزاهير في الربى..."

لكننا جميعنا لم نتجرأ أن نرخي لدعوتك العنان، فنترك للحب يعمل أمره في قلوبنا عالما في ذاته..

"ليكن بأمر الحب قلبك عالما في ذاته

أزهاره لا تذبل

ونجومه لا تأفل"

فالحب كان محرما، محرما في زمننا نتزنّر به بعيدا عن عيون الرقباء، فرسانه أبناء الجيران، أو عابرون بحينا، أو رسم بطل شهير في فيلم بالأبيض والأسود، أو تخيل.... ولعل التخيل كان أقوى السلاطين على قلوب العذارى.

***

أمان السيد

18-5-2024

في المثقف اليوم