أقلام ثقافية
علاء البغداديّ: سرقوا جنونك وسَرَقتَنا بذلك.. إلى صاحبي خضيّر ميري
كثيراً ما ينبغي أن تكون الكتابة مثل الحُبّ، عَصيّة على المنطق والتّنميط، أشبه ما تكون بالمُغامرة، تتقاطع مع السّائد من الأنساق العقليّة، ترفضها وتوبّخها وتكفر بقدسيّتها المُدعاة..
الكتابة: أخالها انفجارات خُطِّطَ لها أن تكون على الورق، تستهدف تدمير كُلّ ما أنشأته الدّيكتاتوريّة العقليّة، ليتمّ التّأسيس من جديدٍ لكلِّ ما هو مجنون ونَقيّ، فمن يحاول الكتابة، عليه أن يُحاصر العقل بأكثر مما يستحقّ من المعنى..
الكتابة تكون أحياناً مُهمّة شاقّة مثل الحُبّ وبسيطة جدّاً مثل الموت في بلادي، لاسيّما عندما تكون عن رجلٍ كان يُمرّر لسانه على سكين الرّطانة، لأنّ قلبه يُخبره بالمزيد يوم قَرّر الجنون وهو يقول: مستشفى المجانين هو المكان الوحيد الذي يُمكنني أن أقول فيه ما أشاء فيه، دون أن يَتّهمني أحد بالجنون..
والكتابة الكاذبة لا يُمكنها تقديم رغبةً مفيدةً أو نتائج ذات مغزى، مَثَلها مَثَل رجال الدّين الذين يحشرون مؤخّراتهم في السّياسة، فيفسدون الدّين والسّياسة على حَدٍّ سواء.
أحاول الكتابة عن رجلٍ نَجَحَ في سَرقةِ حياته من أنياب العقل والتّديُّن الزّائف والسّلطويّة بشتّى أصنافها الدّينيّة والسّياسيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة، وكان يتوزَّع في أكثر منه، وكان يتناسل فكراً وفلسفةً وأدباً وجنوناً..
كان صاحبي الذي أتوق كتابته، أو الكتابة عنه أو الكتابة فيه، قد رأى ببصيرةِ جنونه، كُلّ الرّؤى خارج أسيجة العقل والتّمنطق وما قبله وما بعده وما فوقه وما تحته، وظَلَّ يرى ويرى ويرى حتّى ابيضت رؤياه من الحُبّ، وبات لونها إنسانيّاً أكثر مما ينبغي، أو أكثر مما تعوّدنا..
قَرَّر صاحبي أن يكون مجنوناً، لينجو من عبثيّة العقل السّائدة، بعد أن لم يبقَ له من الجروح ما تُناسب التحمُّل، وكان يعرف بأنّه لا يُمكن أن يكون حليفاً لمرايا المستقبل، بعد أن عاداه الأمل..
تَمَكَّن من إضاءة الأمكنة المُعتَمة والموحشة في العقل، بمصابيح الجنون التي صنعها لنفسه وللنّاس، مستنداً على عُكازة الوعي المحظور في عوالمنا العربيّة..
لم يثق صاحبي بهذا المستوى من العقل السّائد، ولم ينتسب إليه يوماً ما، وكان دائماً ما يُكرّر بأنّه: ما من جنونٍ ليس على حقٍّ، إنّما العقل وحده الذي يخطئ ويُصيب..
وهكذا غادرنا صاحبي المجنون لسببٍ وجيه، بينما ما زلنا نحن العقلاء عالقين هنا من دون أيّة أسباب..
***
علاء البغداديّ - باحثٌ وكاتبٌ من العراق
..........................
* خصيّر ميري: كاتبٌ وشاعرٌ وفيلسوف عراقيّ، كَتَبَ في الفلسفة والنَّقد والشّعر والتّاريخ. تمّ اعتقاله وتعذيبه بوحشيّةٍ في عهد الحكم الصّدّاميّ. تظاهر بالجنون وتمّ حجره في مستشفى المجانين لسنواتٍ عِدّة.