أقلام ثقافية
علي الجنابي: بَغداديات؛ تَحْتَ مَوْسِ "عَادِلَ" الحَلاق
(النصُّ توثيقاً بلا تنقيص ولا تمحيص لحوارٍ دارَ بيني وبين "عادلَ" الحلاق)
لا سَمَرَ أسمى من سَمَرٍ بَسَقَ في أماسيِّ أُناسِ بغدادَ وَأَنَاسِیِّ العراقَ، فأولاءِ هُمُ المَجمعُ للحَرفِ والمَنبعُ للأعراق.
وما كانَ أهلُ العراقِ قطُّ عبرَ تأريخِهم أهلَ شقاقٍ ونفاق، وما كانَ الشِّقاقُ والنِّفاقُ إلّا للمُخنِّثِينَ على الرِّيقِ يتريَّقونَهُ كتِرْياق، ولا يزالُ أهلُ العراقِ نَخلَةُ البأسِ ونَحلَةَ الأخلاق. لكنِ المُرجفونَ قد صَبغوا العراقَ بِصبغةِ الشِّقاقِ والنِّفاقِ، من واقعةِ ضوضاءَ عابرةٍ بانغلاق، لفئةِ غوغاءَ دابرةٍ خُوطِبَت بِعينِها ساعتئذٍ بأنَّها ذاتُ شِقاقٍ ونفاق، ولو كانت صِبغةُ أهلِ العراقِ شقاقاً مُنشَقَّاً مِن نفاقٍ، لَتَشَظَّى أَهْلُوهُ في أنحائِها باحتِراق وبافتِراق، ولمَا تَقَيَّدَ سجالُهُم بِتَوحّدِ الأحسَابِ والأصهَارِ والأعناق، بل ولمَا تَسَيَّدَ رِجالُهُم أحقاباً وأحقاباً في أرجائِها والآفاق.
وكنتُ قد يَمَّمتُ وَجهي شطرَ دكان أخي وصاحبي «عادِلَ» الحلّاق، ليَحلقَ شَعرَ رأسي بحرفةٍ لأهل الصَّنعةِ فاق، وليَفلَقَ نَثرَ أُنْسي بِطُرفةٍ لصَهلٍ السَّنعَةِ سَاق، فعادلُ مهندسُ كهرباء ذو فؤادٍ حَاضرٍ وللمعارفِ تَوَّاق، بيدَ أنَّهً ما أعْمَلَ هندَسةً ولا أَشْعَلَ مِصباحاً في زقاقٍ ولا في أنفاق. وجرّاءَ مَجْلَبَةِ بَطالةٍ وخَشيَةٍ من إملاق، فقد تَخَلَّى عَنِ مَنْقَبَةِ الهندسةِ ومَا حَوتْ مِن نطاقٍ بإشراق، وتَمَلَّى مَرتَبَةَ حِرْفَةِ الحَلّاقِ وما زَوَت من أرزاق، ثُمَّ تَجَلَّى لسانُهُ بطُرفاتٍ نقيَّةٍ وَفيَّةٍ عَفَويةِ الانفلاق، فتَراهُ يَقصِفَ بها كلَّ رأسٍ مُطأطِئٍ تحتَ مَوْسِهِ ولا يبغي انعتاق.
ثُمَّ إنّي قد باغَتُّهُ القَصفَ باستباق، بقَصفِ حَسبتُهُ عاصِفاً راق وذا ذَرفٍ رقراقٍ، وبمَا يَكنُّ صَدرُ "عادلَ" من قَصفٍ حَاق؛
«لو أنَّ لذا شَعرٍ مُتساقطٍ يا عادِلَ ثَمَناً باهظاً في الأسواق، لقَبَّلتَ رأسي مُتَوسِّلاً كي أحلقَ شَعرَهُ عندكَ باستغراق»
فنَظَرَ نظرَةً في المرآةِ فقالَ باتساق؛
«إنِّي وإيَّاكَ في وفاقٍ، بل ولسوفَ يحَمِيَ وَطِيسُ المَوائدَ ملتَهِباً على كلِّ طَبَقٍ سَبَحَتْ فيهِ شَعرةٌ بانزلاق». فَقلتُ بعدما قَهقَهتُ قَهقَهةً ولدٍ قَاصِرٍ شَقيٍّ عَاق؛
«وسأقطعُ يدَاً تَنسَلُّ لغَزوِ الطَّبقِ أو اليهِ تَتَسَلَّلُ باختراق. ويحَكم فذا طَبَقي ولكم ما دونَهُ من أطباق».
ثمَّ إنهُ كانَ مِن ورائِنا فتىً لحِوارِ تِجارةِ الشَّعْرِ بيننا يَصْغَى باِسْتِرَاق، فإذ بهِ يَرغَى لعادِلَ الحَلَّاق، أن أَنْبِئْ العَمَّ عن واقعةِ السِّدرةِ في دارِكم بتؤدةٍ وإطراق، فانعطَفَ عادِلُ بِمقصِّهِ يتلو حكايةَ السِّدرةِ بلطفٍ ولذكرياتِهِ باشتياق؛
«هذا وكانَ أبي رحمهُ اللهُ قد أمَرَنيَ لأهرَعَ فأقرعَ جيشَ صبيةٍ يقذِفُ سِدرةَ دارِنا بالحِجارةِ والأَنْعُلِ والأَعذاق، فَقَفَلتُ على جيشِ الحِجارةِ مُتَأفِّفاً لكنّي ما لبثتُ ان تجحفلتُ معَ الجيشِ مُتَلَهِّفاً بالتحاق لمّا علمتُ أنَّهُ قد نطَّ فحطَّ بين الأوراق، بَبْغاءَ آسراً للُّبِّ ساحراً للأحداقِ، فعَقَدْتُ بيني وبينَ الجيشِ عهداً بميثاق، أن يَمْدُدَني بمَددٍ من حجارةٍ وأَنْعُلٍ وأَعذاق باتفاق، فاقذفُ أنا بها على الطَّيرِ تتراً بانفلاقٍ، فرَمَيتُ بنَعْلي مُعلِناً بدءَ ساعَةِ الصِّقرِ للانْطِلاَقِ، وانطلَقَ المَدَدُ حتّى بِتُّ في الجيشِ قعقاعَهُ الجهبذَ العِملاق. وإن هيَ إلّا هُنيهَاتٌ حتّى طَارَ الطَّيرُ وتَوارى الجيشُ خلفَ خيبةِ الإخفاق، فقالَ أبي رحمهُ اللهُ بعدَ مُساءَلةٍ واستنطاق؛
«يا لكَ من حكيمٍ قدِ ارتقى جُؤْجُؤَ الحكمةِ من بُؤْبُؤِ الأعماق، وما مثلي وإيّاكَ إلّا كمثلِ رجلٍ استأمَنَ هِرَّاً هبرةً حينَ ظهيرةٍ في رُواق».
***
علي الجنابي- بغداد
..................
معاني المفردات؛
[مَوْسُ: حَلْقُ الشَّعَرِ من أوسَيْتُ رأسَهُ: حَلَقْتُهُ (القاموس المحيط) ومن الخطأ أن ننطقها مُوسَاً بضم الميم. بَسَقَ الشيء: تمّ طولُهُ. السَّنَعةُ: الجَميلة والسَّنيعُ: الحسَنُ الجميلُ، وسُنَيْعٌ الطُّهَوِيّ: أَحد الرجال المشهورين بالجمال الذين كانوا إِذا وردوا المَواسِمَ أَمرتهم قريش أَن يَتَلَثَّموا مَخافةَ فتنة النساء بهم. والمَنْقَبة: طرِيقٌ ضيِّقٌ بَيْنَ دارَيْنِ لَا يُسْتطاع سُلوكُه، والمَنْقَبة: كَرَمُ الفِعْل؛ يُقَالُ: إِنه لكريمُ المَناقِبِ مِنَ النَّجَدَاتِ وَغَيْرِها. المعجم؛ لسان العرب].