أقلام ثقافية
لمى ابوالنجا: البومة.. يوميات موظفة مطحونة (1)
إحدى المنشآت التي عملت بها سابقاً، كنت تحت إدارة مشرفة وتعد هذه كارثة بالنسبة لي أن تترأسني "امرأة" والكارثة الأخرى أن يرأسني "رجل" كذلك!، لعل الكارثة الحقيقية في أنا..
المهم أنني قرأت شخصية هذه الإنسانة منذ اليوم الأول قرأت لغة جسدها، نظراتها، تصرفاتها لمست مايفيض منها من حقد وكراهية وشر محتمل وفوراً رسمت الشخصية التي سوف أكون عليها عند التعامل معها منذ تلك اللحظة..
علمت أن ردود الأفعال المباشرة لا تجدي نفعاً مع من هم على شاكلتها ولا يجب أن يُرَد لها الصاع صاعين على الإطلاق، بعض الشخصيات يجب أن لا تتوقع ردود أفعالنا وعلينا التعامل معها بإستراتيجية الغموض يقتلها عدم الرد عن الرد، يحرقها الصمت والبرود الشديد والطاعة العمياء وذلك بحد ذاته يتطلب مقدرة كبيرة على ضبط النفس ومراقبة كل كلمة وكل تصرف وقد إستغرقني الأمر سنوات حتى تعلمت هذه المهارة.
مشرفتي هذه كانت تفعل كل شيء لتخرج مني رد فعل واحد متوقع، غضب، إحباط، بكاء، فرح، امتنان أي شيء..
لكنها لم تقابل إلا جداراً خشناً رمادياً لا شيء فيه ملفت لأي إنتباه..
للدرجة التي جعلتها تكلفني بأربع تقارير مفترض أن ينجزها أربعة موظفين كحد أدنى، كلفت بإدخال بيانات يصل عددها إلى ١٨٠٠ قبل بداية كل شهر وعلي إنجاز هذا التقرير خلال ثلاثة أيام.
كنت أبقى بالمكتب إلى ما بعد وقت الدوام الرسمي الذي يمتد من السابعة صباحاً إلى الساعة الخامسة عصراً لأغادر المكتب الساعة العاشرة والنصف مساءً ثم أستيقظ الخامسة فجراً، بقيت على هذا الوضع لقرابة العام..
أعمل بطريقة غير طبيعية، في يوم قال لي أحد زملائي أشعر إنك تعيشي على التمثيل الضوئي أتمنى أن أراكِ تأكلي، تشربي شاي، قهوة ماء أي شيء !عمل عمل عمل لا يصح أن تضغطي نفسك لهذا الحد..
كنت أفعل ذلك لأختبر حدودي بهذه الحرب الصامتة، كيف لي أن أحرقها غضباً وإظهار أسوأ ما لديها بدون أي ردة فعل مني وواجهت ضغطاً كبيراً من قبل جماعة التبرع بالنصائح والتدخل بحياة الآخرين دون طلب بضرورة تقديم شكوى رسمية، ربما كانت معظم تلك النصائح منطقية ولكن كما أسلفت من خلال تحليلي لتلك الشخصية ولتلك البيئة الموبوءة لم تكن المواجهه المباشرة خياراً جيداً بل هي الحرب الباردة والتكتيكات بعيدة المدى هي ما أطاحت بهم جميعاً، ولأنني كنت مضطرة أن لا أكشف شخصيتي الحقيقية تحملت إتهامي بالسلبية والضعف والخضوع
لم يجدي تنمرها معي نفعاً فقررت تحريض المدير ليبدأ هو الآخر تلك الحرب التي لا مسبب حقيقي لها سوى أنها لا تستسيغ شخصيتي!
كنت أحياناً أدخل المكتب وأقطع حديثاً عني بين زملائي والذي على ما يبدو كان مثيراً للشفقه..
في مرة دخلت المكتب ولم ينتبه لي أحد وسمعت مديري يتكلم عني عند مجموعة من أعوانه يخبرهم برغبته بطردي وأنه لا يستطيع نكران الكفاءة الإستثنائية التي أقدمها لكني "بومة" وأسد النفس ويفضل إستبدالي بسكيرتيرة غنوجة تفتح له نفسه..
لا أدري ماهو مفهومه الحقيقي للسكيرتارية عدا عن حقيقة كونه إنسان فاشل سواء فُتِحت نفسه أم سُدت؟
المهم أحد الزملاء كان يدافع عني بإستماتة قائلا: "اذا طردتها سوف تندم فلن تجد من يأخذ العمل بكل هذه الجدية والتفاني ويحتمل كل المهام دون شكوى أو تذمر" كان متحمس جداً بالكلام ولم ينتبه لدخولي، فجأة إلتفت خلفه ووجدني جالسة بمكاني، إصفر وجهه من الصدمة وقال:
- بسم الله ..! منذ متى وأنتِ بالمكتب؟
- رددت: منذ أن كنت بومة
فاجئه الرد وحاول طوال ذلك اليوم رفع معنوياتي بمدحي وإحضار قهوة وحلويات وغداء
بعد إنتهاء الدوام قال: كنت أراقب تصرفاتك أحاول أن أرى دمعة، كتمة، زعل أي شيء معقول لم تتأثري بالكلام؟
أنا رجل لكن إذا حصل وسمعت كلام عني بهذا الشكل ربما أختنق"
رددت عليه بكل برود: "تعتقد إني فعلاً ممكن اتأثر من هذا الإمعه؟ خيشة البصل الجالسة بالمكتب؟" ضحك وأطلق علي إسم "حديد" تعبيراً عن القوة والصمود..
اليوم التالي دخلت لمديري هذا لمناقشة مهمة عاجلة كلفني بها
وقبل أن اخرج من مكتبه قلت له على فكرة حتى أنا أكرهك وأحمل هم ضغط العمل ورؤية وجهك لكن دعنا نحتمل بعض إلى أن تجد الغنوجة وتفتح لك نفسك وإلى ذلك الوقت يخلق الله ما لا تعلمون..
بعد سنة وشهرين نقلت إلى قسم آخر وفي حفلة توديعي قالت مشرفتي: سمعنا إن عندك هوايات ومواهب كلمينا عنها
قلت: الفنون القتالية والكتابة والقراءة والتمثيل والصيد
قالت إحدى الزميلات: صيد ؟ كيف؟
قلت لها: "في الموية العكرة"
ضحكوا كلهم وقاطعتنا المشرفة قالت بما إن هوايتك التمثيل مثلي لنا مشهد، تحمس الجميع: وأصرّوا على تمثيل مشهد صغير أمامهم
لكني نظرت إليها وقلت:
غريبة .. ألم يعجبك آدائي سنة وشهرين!؟
***
لمى أبوالنجا – كاتبة وأديبة سعودية