أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (18): عندما تصل الرياح

في فصل الصيف، الرياح القادمة من الغرب تحمل معها قسطا من الرطوبة، لكن عندما تهبُّ الرياح القوية القادمة من اتجاه الشرق تصحب معها حرُّ دواخل الصحراء، تأتي محملة بالغبار ومسحوق الرمال، الذي يعم المكان ويحجب رؤية البصر، فأنت لا ترى شيئا إلا من هو بالقرب منك، لثامك إن لم تلفَّه من أول لحظة بشكل محكم، فقد يطير مع الرياح، إنها مشكلة كبيرة إن سحبت الرياح لثامك من فوق رأسك، وهو يتطاير إلى الأعلى وأنت تجري أسفله، كلما اقتربت منه وحاولت لتمسكه بيدك، إلا وانسلَّ منك وطار إلى الأعلى، أنت الآن تطارد الرياح، وقد أخذت منك ما يحميك من مسحوق الغبار الذي يتسرب إلى جفن أعينك...لحسن حظك أن جزءا من أطرفه قد اخترقته أشواك شجرة الطلق، وطرفه الآخر يرفرف بجنباتها، في محاولة منه لينسلَّ في استجابة لا نظير لها لهبوب الرياح، فلولا شجرة الطلح لهرولت من ورائه لوقت طويل وقد تمسك به وقد تفشل في ذلك، حاول الآن أن تفكه من الأشواك التي مسكت به، لا تجذبه إليك بقوة، فإن أقبلت على ذلك فاعلم أنك مزقته إلى نصفين، فأشواك الطلح أشواك عنيدة، حاول أن تسحبه بلطف وعناية... أنت الآن تشعر بأنك انتصرت على هبوب الرياح وقد استرجعت ما سحبته منك، لكن يأتيك شعور آخر من الداخل، بأنك لم تقم بشيء، الفضل كل الفضل لشجرة الطلح وقد تعاطفت معك في مطلبك...وأنت تلفُّ لثامك بعناية وهو يحاول أن ينسلَّ مرة أخرى من بين يديك، وإذا بك تنزل أرضا وتقف على كلتا ركبتيك وإحداها تحكم أحد طرفي اللثام والطرف الآخر تلفُّه على رأسك بخفة وإحكام...الآن استرجعت سلاحك الذي يقيك الغبار وبإمكانك المشي وأنت في طريق العودة إلى القصبة...الشيء الوحيد الذي يدلك على الطريق هي المعالم القريبة منك، وأنت في دائرة قطرها يضيق ويتسع باتساع بعد الرؤية وضيقها، جنباتها المكونة من الغبار والرمل تقترب منك حينا لتبتعد حينا آخر، معالم الأحجار الكبيرة وبعض الشجيرات والمنحدرات البارزة ... كلها تحيلك على الخريطة المخبأة بذهنك الذهنية عن المكان...وفي حالة لم تكن لديك خريطة ذهنية عن المكان، فعليك التوقف والاحتماء بشجرة من السدر حتى يزول ويخف حاجز الغبار الذي يحجب عنك الرؤية البعيدة، وإلا أنك ستتورط في حالة من التيه والضياع الذي يفقدك الاتجاه الذي تسير نحوه...وليس من الغريب أن تجد نفسك تكرِّر خطواتك نحو الوراء في اتجاه المكان الذي انطلقت منه، وأنت تظن أنك تتقدم نحو الأمام في اتجاه نقطة الوصول.

عندما تصل إلى الواحة حيث مختلف الأشجار وصفوف النخيل، يختفي الغبار ومسحوق حبات الرمل، وبإمكانك أن تزيل لثامك عنك لبعض من الوقت، النخيل يحدُّ من سرعة هبوب الرياح، فحفيفه يملأ كل أرجاء المكان، جريد النخل يحتك بعضه ببعض، يهتز يمينا ويسارا، العراجين ما بين الجريد تهتزُّ وهي لا ترغب في ذلك، لأنها تفقد بعض بلحها، وقد أقبل على النضج... فكل جنبات النخيل مليئة بالبلح والرطب...وهي فرصة ثمينة للأطفال لملئ قففهم الصغيرة، وفرصة ثمينة للنمل والفئران والقنافد والأرانب...فقد تكفلت الرياح بأن تأتيها برزقها من السماء إلى الأرض، ولله حكمة في خلقه.

 عليك الآن الحذر كل الحذر من مختلف جذوع النخل العالية، وهبوب الرياح تأخذها ذات اليمين وذات الشمال، وقد تتمكن من البقاء والنجاة، لكن توالي هبات الرياح الموسمية الهَوْجاء، تجعلها تنحني وتميل ميلة واحدة، ويأتي نصف جذعها العلوي على الأرض...وهي حالة اعتاد عليها أهل الواحة، فبعد هبوب الرياح الهَوْجاء، يتفقدون النخيل ذو الجذوع العالية، والبعض منهم راض عن الحدث، ويردد في قرارات نفسه، أيتها الجذوع العالية كم نتحمَّل من العناء ونحن متمسكين بجوانبك بالأيدي والأرجل صعودا ونزولا، وقد أرهقنا أمرك كثيرا، أيام تأبيرك وأيام جني ثمارك... وأنتِ على هذا العلوِّ الشاهق القليل منا من يتجرأ على صعودك...

في الوقت الذي يلجأ فيه أهل القصور والقصبات إلى مساكنهم هربا من الرياح وغبارها، تجد فيه القبائل الرحل في مختلف المراعي بجنبات الواحة، في شدٍّ وجذب مع خيامهم، وهم يتأكدون من غرس الأوتاد التي تحكم مختلف الخيام، وبالرغم من ذلك فالرياح في غفلة منهم، تهزُّ أحد الخيام في الهواء وقد انفكت حبالها من الأوتاد، المشكلة الآن لم تعد مشكلة أوتاد إنها مشكلة حبال وقد تآكلت نتيجة الاحتكاك طيلة الوقت مع رأس الوتد، تصور معي عندما تهز الرياح خيمتك و تذهب بها بعيدا عنك، وقد انكشف كل ما بداخلها، إنها خيمة إعداد الطعام...حبات الرمل اقتربت كثيرا من جنبات كيس الدقيق ولحسن الحظ أنه مغلق، ولولا ذلك لأخذته هبوب الرياح معها وتحول إلى مسحوق أبيض في السماء...كؤوس الشاي وقد تلاطم بعضها مع بعض محدثة  بذلك طنينا من زجاج...الملاعق الخشبية... قِدْر الطين لازال هامد في مكانه بالقرب من موقد النار، ولحسن الظ  أنها غير مشتعلة، ها أنت تزيل الغطاء عن القدر وإذا بك تبصر في قعره بقية شربة حساء الشعير، وتراوغ هبوب الرياح حتى لا تتسلَّل حيات الرمل إلى داخله...أنت في حيرة من أمرك، هل تقبل على نصب الخيمة من جديد في مكانها والعمود الذي يرفعها إلى الأعلى لازال منتصبا في مكانه، أم تحمل كل ما كان مستَتِرا تحتها إلى الخيمة المجاورة، طبعا أنت لا تقدر على كل هذا لوحدك حتى ولو كان الآخرون في مساعدتك، فمن الحمق أن تبادر بنصب خيمة، لحظة هبوب رياح قوية، فكلما سحبت حبالها لتحكمها بالأوتاد من كل جانب، تسحبك بدورها كأنها تريد أن تطير بك في السماء...

هناك أمر آخر بدل هشاشة الحبال جعل الخيمة تهتزُّ إلى الأعلى، فمدخلها مقابل للجهة الشرقية الجهة التي تهب منها الرياح، عندما تتسرب الرياح بشكل قوي داخل الخيمة، فهي تبحث لنفسها عن مخرج في نفس الاتجاه، وعندما لا تجد مخرجا فقد تتحول إلى قوة دائرية ترفع الخيمة نحو الأعلى، في هذه الحالة تضعف الحبال...الخبرة تقتضي فتح نافذة من داخل الخيمة تسمح لفائض هبوب الرياح بالخروج...

الرياح تنقل البذور من مكان إلى مكان آخر، ويعود لها الفضل في تكسير رتابة المناخ المتعوَّدُ عليه لوقت طيل، فهي تحجب أشعة الشمس وزرقة السماء الصافية... يعتقد أهل الواحة في الرياح بأنها مأمورة فهي لا تهب من تلقاء نفسها، إنه ملك الرياح ينتقل من مكان إلى مكان وهو يواجه الصعاب والمتاعب إذ يصطدم مع مختلف الكائنات... يُحكى أن رجلا  لا يطيق الرياح ويكثر من سبِّها وشتمها، وإذا به يوما رأى في منامه رجلا حسن الهيأة واللباس والمنظر، إلا أنه يظهر على وجهه بقع من تراب وقد كشف جسمه وظهرت عليه الكثير من الكدمات... وعندما سأله الرجل لماذا أنت على هذه الحال يا رجل؟ أجابه، أنا عدوك الذي تشتمه صباح مساء "ملَكُ الريَّاح" أنت الآن قد اطلعت عن حالتي، شتائمك لم تنفعني ولا تضرني في شيء، كدماتي هذه نتيجة ما أصطدم به، أهون من شتائمك...أنا الآن سأحملك معي هل تأذن لي... وقد تبدل حال الرجل بعد منامه ذلك، فكلما حلّت الرياح بالقرية، إلا شرع في الجري في نفس الاتجاه التي هي عليه... إنه مجنون الريَّاح... يحكى أنه يملك أسرارها فهي تحمله من مكان إلى مكان... هكذا تقول الحكاية... ومن هذا الذي يصدك هذا الحكي الفارغ...لا تهم الحكاية، هناك شيء ما من ورائها يريد الناس قوله، أنت لا تختار حالة طبيعة المناخ وتقلبات الطقس ما بين يوم وليلة... أنت جزء من نظام ودورة طبيعية...هكذا أنت أيها الإنسان في الواحة وخارجها.

الرياح لازالت تهب كما كانت الغبار هو الغبار حبات الرمل هي نفسها، لكن تغيرت أشياء كثيرة، لم تعد هناك خيام في الصحراء لتفك الرياح حبالها فجأة، ولم يعد هناك الجريد المتشابك لصفوف النخيل، قد اختفى حفيفه، واختفى معه البلح والرطب المساقط من الأعلى... بالرغم من حضور الرياح…

... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

 

في المثقف اليوم