أقلام ثقافية
حاتم جعفر: حديث مع الروائية سلوى جراح
رواية صخور الشاطئ (سأقتطف منها بضعة أزهار)
* قبل القراءة، أود أن أشير الى عبارة أثيرة جاءت في رواية الثورات لكاتبها الفرنسي، الحائز على جائزة نوبل للآداب، جان ماري كوستاف لوكليزيو، يقول فيها: ما يقتلني في الكتابة أنها قصيرة جدا، تنتهي الجملة ولكن كم من الأشياء تبقى خارجها. (إنتهى الإقتباس).
أمّا أنت عزيزي القارئ فلك كل الحق في تفسير ما كان يقصده الكاتب.
* سلوى جراح: روائية وإعلامية فلسطينية، وُلِدَت في حيفا. ستحدثنا في سرديتها التي بين يدينا عن مدينة عكا، كمن تكون مدينتها إن لم تكن كذلك، فهي سليلتها من جهة الأم وربما من جهة الأب أيضا. وسنمضي معها كما اختارت ولعلها حسنا فعلت، إذ هي أرادت أن تقول أنا إبنة فلسطين، إبنة كل مدنها وكل شبر فيها.
***
من هناك من عكا ستبدأ الحكاية، حيث ساحلها الذهبي ومساءاتها الناعسة. ومن ملاعب الصغار، وهم يعبثون بطينه وغرينه، وكيف يتبارون على تطويعه حتى يمسي رهن براءة أيديهم، ليرسموا من بعد ما يشاؤون من حلم ومن حياة هانئة وديعة، آملين أن تكون بإنتظارهم ذات يوم حين يكبرون. من عكا المدينة المنيعة والعصية على أعداءها، يوم أراد نابليون أن يجعل منها ركيزة ومنطلقا لإحتلال سوريا، وإذا بالخبر اليقين ينبأه بهزيمة جيشه وليجر ذيوله ذليلا. ومن هناك أيضا، سنكون برفقة الروائية لتفتح لنا قلبها وتحدثنا عن رحلة عشقها للبئر الأولى، حيث النبع والأصل، وليعود بها الرجع بعيدا الى ذاك الشاطئ الصخري، لِمَ لا ومخيلتها لا زالت تحن الى وقت أصيله وغروبه و ساعة سحره، ولا زالت أيضا تطرب لسماع تغريدة الطيور الأليفة، حين تحطٌ رحالها بغنج على سدرة، كان الله قد حباها برحمته، بعد جولة، ربما إستغرقت من الوقت طويلا.
فالكاتبة رغم إغترابها المبكر الا أن ذاكرتها لا زالت تحتفظ بما فاتها من سنين بعيدة، فأيام طفولتها ها هي شاخصة أمامها، فهنا يقع بيتهم العتيق ومنه تشم طيبة الأهل وتسمع صدى أصواتهم. وبعد أن تستريح قليلا ستقص علينا وكما أوعدتنا أجمل القصص، مبتدأة بما كان قد إستقر في ذاكرتها من قصة حب عنيفة، طرفاها عاشقان هائمان، لم تنتهِ وللأسف الى ما يشفي غليلهما ويُسعدا. وحكايا أخرى كثيرة عن بيت فلان وبيت فلانة. ومن ثم ستتوقف على نحو مفاجئ لتسائل نفسها: هل لا زالوا هناك أم إغتربوا كما إغتربنا من قبلهم في بلاد التيه، وهزهم الشوق والحنين الى حيّهم ورائحة الزعتر البري!!.
ومن هناك أيضا ستطوف بنا أرضها، من أقصى شمالها حتى صحراء النقب، حيث مضارب الخلان والصداقات ودلال القهوة الأربعة وما يصاحبها من طقوس لا زالت الكاتبة تحن اليها وتشم نكهتها. فهذه حيفا وتلك يافا وهذا الطريق المؤدي الى مدينة خليل الرحمن التي باركها الرب. وفي القلب من أرضها تقع القدس الشريف، مدينة المدائن، ففي هذا الحي وُلِدَ الكاتب أدوارد سعيد، ومن هذا الشارع مرَّ عبدالقادرالحسيني بشموخه وكبرياءه وبرفقته كوكبة لامعة من قادة الثورة. وهذه مدينة صفد وشقيقتها جنين وعن أي جنين أحدثكم، إذ هي لا زالت على عهدها وعلى بسالتها وثباتها، فرغم كل سنين الإحتلال بعقوده السبعة وما ينيف، فها هي أخبارها تترى لتتصدر وكالات الأنباء العالمية، مرغمة حتى أعداءها على سماع صوتها وهي تشدو للرصاص المقاوم وتغني بمواويلها للثورة ولأبطالها ولتخلد شهداءها.
ــ 2 ــ
يونس، هو الشخصية الرئيسية والمحورية الذي ستدور من حوله أحداث الرواية. كذلك سيكون صلة الوصل بين أجيال ثلاثة، مشاركا في تحريكها وتثويرها فيما بعد وعلى حثها لإستعادة الأرض المغتصبة، دون هوادة أو تخاذل. ويونس هذا، كان صغير أخوته من البنين، وبين شقيقاته كان مدللهم، حاملا العهد محافظا عليه حتى الرمق الأخير، وهو الوفي الثابت على مبادئه. وما من طارئ يحصل أو يستجد أمراً، الاّ ويكون يونس حاضرا بل ومشاركا على قدر ما يستطيع بل وأكثر. وأيضا هو نقطة الجذب والإستقطاب وستتجه الأنظار اليه. لذا شَغْلهِ لموقع الحضوة والإهتمام من قبل أهل بيته، لم يأتِ بعفو خاطر أو محض صدفة، فقد مُنِحَ الصبي عدا عن نباهته ثوريته ووطنيته التي لم تعرف الحدود ولا المهادنة، مواهب عديدة ومتنوعة، من بينها إجادته للخط العربي والعزف والغناء رغم براءة صوته ويفاعة عمره. وإذا ما ضاقت نفوس أصحابه، فسيدعونه الى فاصل من الغناء وبما يجيد به وَيطرب سامعيه.
وعن هذا الموضوع، فهناك واقعة سلكت طريقها بسهولة وعفوية، وظل أبناء البيت الواحد يتداولونها ويعيدون إستذكارها بإستمرار. ففي إحدى ليالي الشتاء الطويلة، وبينما كان الأهل مجتمعين، حثَّه أخاه الأكبر على أن يتحفهم بما يجود به صوته ويديه، بعد أن تسَرَّب الى مسامعه بأنه على تمكنٍ عالٍ من الغناء والعزف وبشهادة أصدقائه. تردد الصبي في بادئ الأمر، فمهمة العزف والغناء في مثل هكذا ظرف ليست بالأمر السهل، فهو في حاضرة أخوته وسَيدَي البيت. إذن الصبي لا زال متردداً، وفي وضع لا يُحْسَدُ عليه، وواقع تحت تأثير ضغطين، لا يقل أحدهما عن الآخر حرجا، فهو أسير خجله أولا، وثانيا وبسبب صغر بنيته، فسيصعب عليه مسك العود وعل النحو الذي سيمكنه من أجادة العزف، خاصة وإن عيون آذان الأقربين متجهة اليه.
وبعد تشجيع الأهل وتحفيزهم له ومنحه جرعة عالية من الثقة بالنفس، وبعد تهيئة مناخ مريح ومعزز بالدعابات وشيء من المغريات المحببة، وجد نفسه يونس وهو مقدم على بعض الحركات الضرورية التي ستساعده على إسماع جلاّسه أعذب الألحان والمقامات، عاقدا العزم على أن يخرج من هذا الإختبار والتحدي بنجاح، وعلى إبهار الحضور وشدهم اليه.
ولتحقيق ذلك تجده مثلاً وبلغة الواثق وقد (إقترب أكثر ورفع العود من مكانه. نظر الى أوتاره، جلس على الأريكة ووضعه في حجره. إحتضنه بصعوبة.....) ثم راح يدندن بينه وبين نفسه في بادئ الأمر وبنغمة صوت أقرب للهمس أو الهسيس. تبعها بعد ذلك بخطوة أكثر تقدما وجرأة. وبعد أن شعر بحالة من الإستقرار والسيطرة، لحظتذاك سيبلغ من العطاء أجمله، ليتحفهم بأحلى وأرقى ما غنّاه طيب الثرى، صناجة الغناء العربي سيد درويش، برائعته (البحر بيضحك ليه، وأنا نازله أتدلع أملا القلل). ص25. تفاجأ الجميع بقدراته. وما كاد ينتهي من أدائه، راحت الأسئلة تنهال عليه من أفراد أسرته وأولهم والده الذي إندهش لكفاءته وَوُسع ذائقته الفنية رغم صغر سنّه، ليثني عليه بحرارة، وليخرج من تلك الأمسية مزهوا منبهرا بولده الصغير، وسيفخر ويباهي به بكل تأكيد أمام معارفه وأقربائه.
عندما أطلقت الروائية، سلوى جراح، على الشخصية الرئيسية لعملها السردي وأعطته إسم يونس، لم تكن بغافلة على ما أعتقد عما يحمله من دلالة ورمز ومن إرث وبعد تأريخي كذلك. إذ هو يُعد بين أبناء الشعب الفلسطيني الشقيق إسما شائعا ومنتشرا بكثرة. وربما يقف خلف ذلك العديد من الأسباب، لذا بات علينا أن لا نمر عليها سريعا. فالإسم يُذكِّر مثلا بخان يونس، التي تُعد واحدة من كبريات مدن فلسطين وهي الأقرب الى قطاع غزة، وقد تأتي التسمية تيمنا بها وتخليدا لها. والأهم من ذلك فالأسم يُذكٌرُ أيضا بنبي الله يونس وتلك السردية الدينية التي تتحدث عن مكوثه في بطن الحوت لأربعين يوما. وإذا أردنا أن نستخلص منها دروسا وعِبَرْ، فهي تشير الى مدى صبر النبي يونس وتحمّله. وتوظيفا لهذه الواقعة، فيمكن القول بأن الشعب الفلسطيني كما سائر شعوب الأرض المناضلة الأخرى ، هو الآخر صبورأ على بلواه وسيبقى كذلك حتى تحقيق ما يصبو اليه من أهداف مشروعة والمتمثلة بإقامة دولته الوطنية المستقلة، وإن طال الزمن.
ــ 3 ــ
تأريخ أحداث الرواية وما احتوته من تفاصيل، تعود الى عقود خلت، يوم كانت هناك دولة كاملة المعالم، بمؤسساتها وعلمها وعُملتها الوطنية ومدارسها ومستوى تعليمها، بل حتى كانت أكثر تطورا من بعض شقيقاتها العربيات. وفي لفتتة ذكية من الكاتبة وبهدف الإشارة الى تأريخ سرديتها، فها هي تنقل لنا ما دار من حوار بين أبناء البيت الواحد، والذي كان مداره يتمثل بتلك التجاذبات التي حصلت إثر قرار إبنتهم (رقية)، في رغبتها بتكملة دراستها في مدينة القدس وما سيرافق ذلك من لغطٍ وإعتراضات، حتى جائهم الرد وعلى لسان والدتها (فروغ)، لتوجه كلامها الى زوجها أبو خالد وبلهجتها الفلسطينية المحببة: إنت ناسي إنه إحنا صرنه سنة السته وعشرين وإنه البنات صارت عم تتعلم في كل فلسطين. في العبارة الآنفة، ضربت الكاتبة عصفورين بحجر واحد. أولا عكست مستوى الإنفتاح الإجتماعي الذي كان متحققا آنذاك ومن بينها ما يتعلق بأوضاع المرأة وما حصلت عليه من حقوق، وأيضا مستوى التعليم الذي بلغته الدولة الفلسطينية. فضلا عن التذكير بالفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث الرواية.
ــ 4 ــ
أثناء سرديتها ستتوقف الكاتبة عند واحدة من أخطر المؤشرات التي أنبأت بما يحاك للشعب الفلسطيني وأرضه ، وما كان يضمر له. ففي حوار داخلي بين أهل البيت الواحد سنستمع الى هذا الصوت والذي يستنتج من خلاله أن الصهاينة قد أخذوا من الإنتهازية ومنذ بدايات تأسيس حركتهم، أسلوب عمل لهم، لضمان الحصول ما يسعون من أجله: لمّا بديت الحرب كان بن غوريون يلبس الطربوش والملابس التركية الرسمية لأنه كان مفتكر أن الأتراك رح يكسبوا الحرب. مش بس هيك إقترح إنه يعملوا فرقة يهودية تابعة للجيش التركي عشان يضمن لليهود الجكم الذاتي. ص33.
وفي صفحة لا حقة من الكتاب وتعزيزا لما ذُكر وفي ذات السياق، فقد أقدم القائد العسكري العثماني جمال باشا والملقب بالسفاح حسب كتب التأريخ، وبعد تهيأة الأجواء والظروف المناسبة، عدا عن تظافر فتنهتها وإغواءها وهشاشة شخصيته وضعفه أمام جمالها، وبنوايا لا تخلو من أهداف بعيدة ودنيئة، على الزواج من إحدى اليهوديات وليست أي واحدة، إنها سارة آرونسون، الجاسوسة التي شاع صيتها آنذاك، والتي كانت تعمل لصالح الحركة الصهيونية. وعن هذا الموضوع فقد أعتبرت هذه الزيجة بأنها تمثل أكبر إختراق للمؤسسة العسكرية التركية، بل راح البعض أبعد من ذلك حين عدّو زوجة المستقبل، بأنها مسؤولة وبشكل مباشر بل ولعبت دورا كبيرا في سقوط الدولة العثمانية، فضلا عن عوامل أخرى ربما كانت أكثر خطورة وقذارة، فلمسات وخطط الإنكليز كانت جلية واضحة ولا يختلف عليها إثنان.
اللافت في الأمر أن أكثر الشعوب التي تنتمي بديانتها الى اليهودية ومن مواطني دول أوربا الشرقية، هي مَنْ شكلت النسبة الأكبر في نسبة المهاجرين الأجانب الذين إتجهوا نحو فلسطين المحتلة، ليشغلوها ويتخذوا منها وطنا جديدا لهم، خاصة بعد أن بدأ عود الحركة الصهيونية وعصاباتها يقوى بفعل أساليبها، كذلك بسبب السياسات الخبيثة التي إنتهجتها بعض الدول والمسماة بالعظمى، الداعمة لها. على الرغم من أن كتب التأريخ كلها أشارت الى أن فلسطين لم تكن (أرض الميعاد) حسب ما كان يروج له وما يزعمون. ففي البدأ وهذا ليس بخاف على أحد، راحوا يروجون لفكرة أن أوغندا هي أرضهم المنتظرة، عدا عن دول أخرى كانت مرشحة هي الأخرى لتكون موطنا جديدا لهم.
وبعد أن إستشعر الفلسطينيون حجم الكارثة والمؤامرات التي تحاك ضدهم، فقد إلتفتوا أخيرا الى ما ينبغي القيام به، خاصة وأن أعداد اليهود المهاجرين بدأت بالتزايد وبشكل ملحوظ، وإن ما يتوفر لهم من مساعدات ودعم وعلى كل المستويات، لهو يفوق الخيال والتصور. وعن هذا فستتوقف الكاتبة عند هذا الرأي الذي جاء على لسان رقية في سياق الكلام مع خالتها ولتصدق القول: بدهم فلسطين يا خالتي لأنهم بيقولوا إنها إرثهم التأريخي...... عشان هيك لازم نتعلم ونتطور ونصير أقوى منهم. إحنا أكثر من نصف شعبنا أمي لا يقرأ ولا يكتب. ص70. وفي تعليقها هذا وعلى ما أجزم فقد أصابت كبد الحقيقة.
ــ 5 ــ
نَمَت أظافر يونس ونَمَت معه مَوهِبَتي الغناء والعزف على العود. فبعد تلك الأمسية التي قضاها مع الأهل وأبدع فيها والتي زادته ألقاً وثقة، عاهد نفسه على اثرها أن يوسع من حافظته ومن مسعاه للحاق بآخر ما بلغه الغناء العربي من تطور وتجديد. وكلما خرج الى البرية حيث شجرة الجوز المباركة، سيطيب له الخطو وستتفتح قريحته لممارسة أجمل ما عنده من طقوس، بلهفة وشوق ودون حدود. وبعد أن قطع مسافة لا بأس بها، وجد نفسه وقد إستقر به المقام على مُرجٍ شديد الخضرة، سخي كريم في عطاءه وفي منحه فسحة من الخيال والإسترخاء، حتى راح مغلقا عينيه، في مؤشر يدل على وجهته في خلق جو من الإنسجام والتناغم مع الطبيعة، ليردد من بعدها آخر ما غناه المطرب الشاب آنذاك محمد عبدالوهاب: اللي إنكتب عا الجبين، لازم تشوفو العين. وعدك ومكتوبك يا قلبي كان مخبى فين. إن كان كده قسمتك، بختك أجيبو منين. ص .72.
سَعدهُ سوف لن يكتمل، قال في سرّه إن لم يسعفه بعشيقة أو حبيبة، تشاركه نشوته في الغناء وترقص على نغمات صوته. لم يَخب ظنه، فقد شعر أن هناك أمرا ما قد حصل دون أن يدرك ماهيته، وأن فسحة من الضوء بدأت تتسلل لتجد لها مكانا قريبا منه إن لم يكن قد إستظلَّ بها دون دراية منه. فإستمرأ يونس الأمر وراح يستشعر أكثر ما يمكن حصوله، حتى وجد نفسه مضطرا على التوقف عن إستكمال موّاله الذي كان غارقا فيه، وليجول (ببصره في المكان، رآها تجلس القرفصاء، تفصلها عنه ساقية الماء وقد أسندت وجهها الى كفيها، إبتسم. ظلت على جلستها) تشجَّع، تذكَّر ما قال له أخاه الأكبر خالد بأن أولى الخطوات نحو مَنْ تُحب، ينبغي أن تحمل بين ثناياها شيئا من الجرأة ومن بعدها الطوفان. لذا ووفقا تلك الوصية وذلك الدرس أقدم عليها مسلما. إسمها ريا (نهضت من جلستها وهمست: ما أحلى صوتك يا أفندي. شو كنت تغني؟ همهم بإستحياء: موال مصري). ص73.
ربما نجح في أول إختبار له فيما سمّاه بلعبة الحب، ولكن هل سَيَسرٌ لأخيه ما مرَّ به وما صادفه من هبة لم يكن يتوقعها!!! لا أحد يعرف وقد يرى أن لا ضرورة لذلك، فها هو يمتلك من الإحساس والقدرة على التصرف وعند المنعطفات الصعبة، ما يجعله أهلا لتحمل المسؤولية وبكل ما يترتب عليها من نتائج. ومما زاده ثقة وأن يندفع بإتجاه قطعه أكثر من خطوة نحو ما أسميناها بلعبة الحب، أن راح الطرف الثاني يتناغم معه ويستجيب له، حتى بديا كإنهما يعزفان على آلة واحدة وعلى إيقاع واحد.
إقتربا من بعضهما ثم راحا يستذكران سوية أجمل الأغاني الفلسطينية وأطوارها كالميجانا والعتابا. فَتَحَ لها باب الراحة أكثر حين دعاها لتغني بصوتها ما يروق لها. إعتذرت (ريا) إذ هي في حضرة مَنْ تُحب، دون أن تُفصحَ عن ذلك، مُتذرعة بعدم قدرتها على مجاراة صوته العذب. وجد يونس نفسه وقد إنغمس أكثر فيما أسميناها بلعبة الحب حتى لم يعد حذرا كما كان عليه في اللحظات الأولى حين إلتقيا. فبعد أن غرس كعب حبيبته غصنا يابسا يشبه المسمار في هيئته، شرع بمداراة الجرح كما الطبيب المداويا، مستلا من جيبه منديلاً (وجعله على شكل مثلث ثم طواه وبدأ يلف به قدم ريا)ص77، في تصرف بدت عليه الطفولة والعفوية واضحتان. بعد عودته الى البيت وحين وقت الغروب، وبينما كان جالس في شرفته وحيدا، راح مستعيدا تلك اللحظات السعيدة التي قضاها مع (ريا)، فما ألطفها وما أعذبها ويا ليتها معه لـ (يريها البحر كي تعرف الفرق بين هذا الجمال الممتد أمامه وذاك السحر. إتسعت إبتسامته. هذه هي فلسطين). ص79.
العلاقة بينهما لم تنقطع بل زادت وهجا وإندفاعا ولتأخذ شكلا أكثر تطورا. فبعد فترة من الوقت ليست بالطويلة إلتقيا مرة أخرى، ومن شدة إشتياقهما لبعضهما البعض وبعد تبادل التحايا وكلمات ليست كالكلمات، والتي كان أثرها بينا على وجنتي (ريا) حيث زادا إحمرارا، خجلا أو فرحا أو كلاهما، لِمَ لا فهذه هي ضريبة الحب. أما يونس فهو الآخر لا زال عوده طريا وردة فعله لم تكن على درجة أقل منها. وفي لحظة ما، لا يدري كيف حانت وكيف تجرأ وكيف (إقترب بوجهه منها حتى كادت شفتاه تلامسان وجهه.... هبط بقبلته الى ذقنها ثم خدها الثاني). بعد أن شعرت أن هناك جوا من التمادي والإسترخاء من قبلهما، وأنها بدت تستجيب لرغبتها، حتى بلغت مرحلة لم تكن بالقادرة على التحكم بمشاعرها، غير انها وعلى نحو مفاجئ، راحت هامسة(لا، يا أفندي لا الله يخليك).ص87.
ــ 6 ــ
بعد عودته من ترشيحا الى مدينته عكا برفقة شقيقتيه، دخل في مماحكة مع أحد الركاب، كادت أن تتحول الى مشكلة لو لم يتم تداركها بسرعة، فالرجل الختيار أراد أن يحتكر المقعد المجاور ليضع عليه سلة التين التي بحوزته، والذي من المفترض أن يشغله يونس. أخيرا حُلَّ الإشكال وإستقر الأمر. ولأنه على ما يبدو كان متعبا فقد دخل في غفوة عميقة، تذكَّرَ خلالها ما دار بينه وبين أخته صفية. كان مصغيا اليها بإهتمام كبير، فطبيعة الكلام وموضوعه، على درجة كبيرة من الأهمية. في البدأ إعتقد انها ستاخذه الى موضوع حبيبته (ريا)، وكم تمنى ذلك، إذ هي لحظة طال إنتظارها، لكنه لم يصب التقدير، فقد أرادته أن يكون في مستوى الأحداث التي يمر بها البلد وما يُحاك له.
ولكي تُقرِّب الصورة أكثر وتشجعه على التفاعل وإدراك ما تريد إيصاله، رأت أن لا مناص من أن تكون أكثر وضوحا وصراحة في قولها: أنت متابع كل اللي بتسمعه وفاهم الوضع الخطير اللي بنعيشه. حاول يونس أن يرتقي الى مستوى ما تقوله شقيقته، إذ ردَّ عليها وبحماس: طبعاً وأقرأ مجلة (الزمر) اللي بتصدر في عكا ومجلة منيف الحسيني كلما جبتيها أنتِ من القدس، وما يفوتني شي من اللي بيقوله الأستاذ عاطف في المدرسة. ص93.
حديث رقية ومخاوفها مما يجري على الأرض لم يأتِ من الفراغ، فكل المؤشرات تدلل على أن دولة الإنتداب البريطانية وبإشرافها وموافقتها وبتشجيع منها، قد فتحت باب فلسطين مشرعا لمن هبَّ ودب، ففي (الأربع سنين الماضية دخل ستة وسبعين ألف مهاجر يهودي، نصفهم من بولنده).ص98. وعن نفس الموضوع الذي بات يُشغلُ الفلسطينيين ويقلقهم، فسيدور حوار آخر بين خالد شقيق يونس، وبين أحد أصدقائه والذي يوصف بصاحب الصوت الجهوري كما أطلقت عليه الكاتبة وإسمه صادق، ليبدي هو الآخر رأيه وفيما يجب القيام به، مُركزا على ضرورة التصدي ومواجهة التغيير الديمغرافي الذي تقوم به دولة الإنتداب، ولكي ننجح (لازم يكون تحركنا منظم عشان يجيب نتيجه، وبعدين ما تنساش إنه مات أكثر من مائة فلسطيني).ص99. وللتذكير فقط فاننا نتحدث هنا عن سنة 1930، فإستشهاد هكذا عدد لهو مهول جدا في مقاييس تلك الفترة.
صحيح أن يونس باتت تشغله قضية شعبه ووطنه، غير انه في ذات الوقت وبحكم سنه لم يدرك بعد وعلى نحو كافٍ حجم المؤمرات التي تحاك خلف الأبواب الموصدة. ولأن خفقات قلبه أخذت بالتصاعد ومنسوب الهيام والشوق باتا يقلقانه، فلابد وما دام الحال كذلك من ملاذ يلجأ اليه، ليُفرغ ما في جعبته من لوعة، آملا التوصل الى أقصر الطرق التي تقربه من حبيبته. لِمَ أنت ذاهب بعيدا، قالها في سرّه، فهذا أخاك أقربهم وأكثرهم خبرة، وفعلا هذا ما جرى. ففي أحد الأيام إصطحبَه أخاه خالد معه الى أحد الملاهي ولتتوسطهما قارورة من الكونياك التي جاء بها النادل بناءا على طلبه، فصاح يونس: شو هذا؟ مشروب؟ ردَّ عليه خالد: لا مهلبية. طبعا مشروب. وفي ليلتها فتح يونس قلبه لأخيه وليدور بينهما الكلام المباح، وكان لحديث الخمر والعشق القدح المعلى، وليخترقها أحيانا ما يحلو من المزاح وتبادل النكات، تلطيفا للجو، وما أحلاها من ليلة.
في قادم الأيام، سيقع ما لم يكن يتوقعه يونس، فقد مرضت والدته على نحو مفاجئ، ولتظهر عليه علامات القلق والخوف جلية، لذا ستجده مرابطا لها، لصيقا بحبل وريدها. (جلس على الفراش. وضع ذراعه تحت رأس أمه ورفعه برفق. قرَّب قدح الماء من شفتيها. رشفت منه رشفة ثم أغلقت عينيها. أعاد رأسها الى الوسادة. همست: لا شُلَّت يداك ولا شمتت فيك عداك)ص114. إنه الدعاء واللقاء الأخير بوالدته، لتغادر أم يونس (فروغ) عالمنا، حيث مثواها، وحيث السكينة الأبدية.
بعيد رحيل والدته، سيجد الصبي نفسه أمام خيارين، أمّا أن يسلّم أمره للقضاء والقدر ويستكين ويبكي على مَنْ فقده، وأمّا التحدي والمواصلة. لم يطل كثيرا في تفكيره، إذ إستجاب سريعا لنداء قلبه وعقله ووطنه، متذكرا وصايا من فارقته وما كانت تتأمله منه وبماذا نصحته: إنها المعرفة، عليك بها ومنها إنطلق نحو العوالم الأخرى، وإستعن بها أينما ولَّيتَ وجهك أو سار بك المسار. فإستمع الصبي لها، وليمضي بأولى خطواته. صحيح أن المهمة لم تكن بالسهلة لكنها ليست بالمستحيلة. في ذات الوقت فالصبي من لحم ودم وصورة أمه وخبزها والحنين اليها لم تفارقه، بل حتى تجده أحيانا وهو في قاعة الدرس ودون إرادة منه وإذا بدموعه تُذرف بحرقة ومرارة .
ونداء آخر لم يغب عما يدور في خُلد يونس، فالمؤامرة بدأت تكبر، وشهداء فلسطين أخذت أعدادهم بالتزايد. فكما طاف على مدن فلسطين فها هو يطوف على شهدائها وعلى ثلاثة من أقمارها، كان قد تمَّ إعدامهم في سجن عكا، فما كان على الصبي الاّ أن يخط أسمائهم بحروف من ذهب ونور، متصدرة شواهد قبورهم. هنا رقدوا ثلاتهم، رافضين الإفتراق عن بعضهم بعضا حتى بعد رحيلهم. هنا وتحت هذه الأرض المباركة، رحلوا حيث الصديقين، عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، وليغني لهم أهل عكا:
من سجن عكا طلعت جنازي
محمد وعطا وفؤاد حجازي
*
المندوب السامي ربك بجازي
تصبح حريمو عليه ينعونــا
لم تُمهل المصائب والنوائب يونس كي يستريح قليلا، فها هو والده هو الآخر يلتحق بالسماء العليا. وإذا كان له من صداقات تقف الى جانبه في محنته، فلم يكن هناك مَن هو الأقرب اليه من نيقولا، المسيحيي الفلسطيني وإبن مدينة الناصرة. وهنا ستورد الكاتبة نصا ملفتاً وذكيا، في إشارة منها الى وحدة الشعب الفلسطيني وبكل أطيافه، إذ لا فرق بين هذا وذاك، ولا من أفضلية هذا على ذاك الاّ بوطنيته. فقد حضر نيقولا مجلس العزاء لأداء الواجب في وفاة والد صديقه. إنتبه اليه يونس ليسأله هامسا: هل تعرف قراءة الفاتحة؟ إبتسم نيقولا: ليس تماما ولكني كنت أقرأ شيئا من الإنجيل. ص136.
بعد تفاقم الأزمة وتصاعد حجم المؤامرات على الشعب الفلسطيني، فلم يعد أمامهم من خيار سوى التصدى. لذا شرع أهل الأرض وبكل مكوناتهم بتشكيل منظماتهم السياسية، وكان خيارهم في البدأ تأسيس ما أسموه بحزب الإستقلال العربي، ردا على ما تقوم به الحركة الصهيونية من أنشطة خبيثة. وبحسب ما جاء في رواية الكاتبة والتي أرادت من خلالها إيصال رسالة لمن يهمه الأمر وأظنها وصلت وعلى جناح السرعة، فإن من بين مَنْ نادى بتشكيل هذا الحزب هي شقيقة نيقولا، لتؤكد مرة أخرى على وحدة نضال الشعب الفلسطيني.
وإستجابة لهذا النداء فقد بدأ الشعب بالإنخراط في صفوف المنظمات الفلسطينية، وكان من بينهم خالد، متوجها الى أخيه يونس وبما يشبه الوصية (خيا أنا حطيت دمي على كفي. خلص. نويت. أنت إهتم بإخواتك وأنا رايح (حيث أرست) مش قادر أتحمل أكثر من هيك). ص219. ستأتي الأخبار فيما بعد لتؤكد إستشهاد البطل نيقولا صديق يونس، نتيجة إنفجار لغم أرضي زرعته عصابات الهاجانا الصهيونية. وليُصنع له (صليبا من من خشب الزيتون وغرزه على القبر بعد أن حفر عليه اسمه وتأريخ ميلاده ووفاته (نيقولا فريد بركه 26/10/1913 ــ 17/2/1938).ص259.
لم ينسَ يونس صديقه نيقولا. ففي بغداد حيث تَغَرَّبَ وإستقر به المقام ووسط مجموعة من الأصدقاء، راح ليستذكره بإحدى الأغاني المحببة والأقرب الى قلبه والتي كان يطلبها منه بإستمرار: أراك عصي الدمع. وعن هذه اللحظة، سيقول يونس، لقد إختنق صوتي بالعبرة عدة مرات، لكني تجلدت وتمالكت نفسي وأكملت الأغنية. أحسست أن لها طعما مختلفا. صفق الحضور وهللوا وصاح الزميل الذي أحضر لي الأوتار (عشت الله يحفظ هذا الصوت. لازم تتعلم المقام البغدادي). ص267. بهذه العبارة، أكملت الكاتبة سرديتها، لتوصل رسالة أخرى وعلى درجة شديدة الأهمية، مفادها: ان مصيرنا سيبقى واحدا، وأوتار قلوبنا ينبغي أن تعزف على نغمة واحدة، فلنكن أهلا لذلك.
***
حاتم جعفر - السويد / مالمو