أقلام ثقافية

صابر مولاي أحمد: نبـش في الذاكــرة.. ذاكرة الواحة

وأنت قاعد على طاولتك المفضلة في المقهى تستمتع بشرب ملكة السواد. وإذا بالرشفة الأولى منها تلقي بك في أحداث ووقائع الماضي الذي ولى وانتهى. تلقي بك وأنت بين جداول الواحة تمشي بين زحام صفوف النخيل، و-أعراشه- تطل عليك من الأعلى وهي تناديك وتجذبك إليها بلونها الأحمر والاصفر والبني... موسم جني التمور في واحة درعة يبدأ مع مطلع شهر شتنبر الشهر التاسع من كل سنة، ويمتد حتى آخر أيام شهر نونبر الشهر الحادي عشر من كل سنة.

تدبير جني التمور يحتاج إلى جهد وتنظيم وتقديم وتأخير بين أنواع النمور المعلقة على أعناق أشجار النخيل. فالأولوية تكون لنوعية التمور التي توجه إلى الأسواق الأسبوعية... بعض التمور يفضل جنيها في الصباح الباكر، لأنها من النوع اللين واللزج، والبعض الآخر بالإمكان جنيه في أي وقت لكونه من النوع المتماسك، فحرارة الشمس لا تأثر في طبيعة تماسكه.

السوق حينها تحكمه عادات ولغة تواصلية بين البائع والمشتري... يعرض المنتوج معبأ في صناديق خشبية. في ساحة ما يسمى برحبة التمر، بدءا من طلوع الفجر إلى المنتصف الأول من النهار. طيلة هذا الوقت المزايدة والمناقصة بين التجار سارية المفعول هناك من التجار من يكون سخيا في الرفع من قيمة الثمن ومنهم من يتصف بالبخل ويعرض أثمان بخسة ويبادر للحط من قيمة المنتوج ويصفه بأوصاف عديدة... والغريب أن البائع يستمع له ويعرض عنه بقوله (هذا ما أعطاه الله) وتكون هذه الكلمة خاتمة الكلام.

وقد تتعالى الأصوات عندما يقبل على البائع مشتر يلح كثيرا على شراء ما يرغب فيه ولكن البائع لا يرضى بالسعر المقدم له، حينها يتدخل رجال آخرون من جهة البائع أو من جهة المشتري من أجل خلق فرصة التراضي بين الطرفين، وهي عملية اقناع للطرفين بثمن معقول حتى لا تضيع فرصة البيع أو الشراء. وعند التراضي يتصافح الطرفين بشكل علني وتستبدل حبات التمر بالأوراق النقدية مصحوبة بعبارة، (الله يربحك) عند الواحدة زوالا يكون مجمل الفلاحة بائعي التمور قد استبدلوا صناديقهم بأوراق نقدية، حينها تجدهم في ازدحام داخل جنبات مجزرة السوق لشراء لحم الخروف أو الماعز أو البقر، الكل يرغب في استبدال أوراقه النقدية بكتل من اللحم، وقد يتجه آخرون لشراء انواع من الشاي والسكر والزيت والفواكه والخضروات ويتجه البعض الآخر عند بائعي قطع الثوب...

داخل السوق يجلس البائعين جلسة القرفصاء أو واقفين، أما المشتري فهو يسير ذهابا وإيابا يترصد المدخل الرئيسي الذي يأخذ بائعي التمور إلى وسط مكان البيع لعله يجد فرصة ثمينة...  الجالسين القرفصاء وصناديق تمورهم تنظر إليهم ولعلها تعاتبهم أو تبتسم إليهم. تقرأ في وجوهم ولحاهم الكثة وعمائمهم تعلوا رؤوسهم وجلاليبهم... محن الزمن وصعابه واحتياجاته...الشباب منهم هجروا الجلباب والعمامة إلى جاكيت وسروال دجينز.

بعد الزوال تجد بائعي التمور خاصة من كان مستعجل في قضاء كل متطلباته من السوق الاسبوعي. متجهين نحو فندق الدواب الذي يتمركز حوله أصحاب حدادة الصفائح الحديدية التي يتم تركيبها على حوافر الحمير والبغال بواسطة مسامير خاصة لتجعل حوافرهم أكثر قوة على المشي والجري... فالمختص في تركيب الصفائح الحديدية على حوافر الدواب في مقام بيطري يفهم جيدا في أمراض الحمير والبغال فمنها ما يداويه بالكي والنار ومنها ما يداويه بوصفات أعشاب خاصة.

وأنت في عين المكان يبدوا لك أنه يعج بالحركة وبائعي التمور يساعد بعضهم البعض الآخر في رفع حمولاتهم على ظهور البغال والحمير وينطلقون جماعات جماعات في العودة إلى قراهم، وعلى طول الطريق يتبادلون الاخبار فيما بينهم ويتمنون غدا أفضل وقد تطول الرحلة إلى ساعتين وأكثر، وهو وقت كافي لمن يجيد متعة الكلام ونقل مختلف الأخبار، التي يتعلق الكثير منها بوقائع وأحداث أهل القرية بين، من أقبل على الزواج وبين من طلق زوجته، وبين من دخل في خصام مع أهله، وبين من خسرت تجارته... ومتعة في الوقت ذاته لمن يجيدون الاستماع، ويلقون بين الحين والآخر بكلمة أو بضعة كلمات، بهدف إثراء الحديث و اتساع مساحو الكلام. وفي طريقهم لا يغفلون وتبادل مختلف الأخبار التي سمعوا بها عبر الإذاعة، حول ما وقع عبر العالم.

وقد تستغرق الرحلة ربع أو نصف ساعة إن كانت على سيارة الأجرة التي يتكدس بداخلها جمع كبير بين الناس بين الجالس والواقف والمنحني، أما سطح السيارة فعليه بضاعة كثيرة من مختلف حاجيات وأغراض المتسوقين، ويركب إلى جانبها من ليس من حظه ان يجد مكانا له داخل السيارة... أهل الواحة من بائعي التمور لا يعرفون الادخار، إلا فيما هو نادر، ففي الأعم أن ما يجلبونه من بيع التمور، لا يغطي مختلف حاجياتهم اليومية، ولهذا فالتقشف عندهم ليس عيبا من عيوب الحياة.

ما يخشاه رجال الواحة على طول حياتهم، وقد يعدون العدة من أجله، لأن الزمن علمهم بأنه سيحل بينهم دون إذن منهم وهم في غفلة من أمرهم، إنه قدر الزيارة المحتومة والتي لا مهرب منها، فالزيارة لزائر غير مرغوب فيه وغير مرحب به إنه الجفاف. فأهل الواحة استيقنوا بأن الجفاف قد يحل لسبعة أعوام ويرحل، أليست هذه تأويلية يوسف لما رآه الملك1.  إنه القدر المحتوم، أنه قانون يعم كل فيافي الصحراء، ولهذا من الطبيعي أن يفكر رجل الصحراء في الواحة وخارجها في الماء قبل التفكير في الطعام.

الآن وأنت في رشفتك الثانية من فنجان قهوتك السوداء، وقد عدت إلى مكانك تحدق بعينيك إلى سطح الطاولة التي أمامك، تمتد يدك إلى مكعبات السكر الأبيض، تتركها جانبا، ترفع برأسك وإذا بصور متتابعة على التلفاز...يمر النادل بالقرب منك ويبتسم في وجهك تبادله نفس الابتسامة، أحدهم بالقرب منك اشتعل سيجارته... كراسي المقهى جلها فارغ... وأنت في رشفتك الأخيرة لا شيء يجذبك ويشجعك على البقاء هنا ما بين جدران هذا المقهى.

***

بقلم/ د. صابر مولاي أحمد

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية

........................

١- قال تعالى: " وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)"(يوسف)

قال تعالى: "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)"(يوسف)

في المثقف اليوم