أقلام ثقافية
دوستوفيسكي.. والاسقاطية في الليالي البيضاء
شكلت شخصية الروائى تيودور دوستويفسكي انعطافًا في تاريخ الرواية العالمية، تلك الشخصية التي مزجت بين عبقرية الأدب والكتابة وتوظيف النفس الإنسانية المركبة فيها، بكل تعقيداتها.
ورواية الليالى البيضاء، إحدى الروايات الأولى للكاتب الروسى الكبير دوستويفسكى التي أصدرها في مطلع شبابه عند القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والصادرة حديثا عن المركز الثقافى العربى، للمترجم القدير سامى الدروبى.
لا شك أن كلاسيكيات الروايات العالمية كانت منطلقا لكثير من المبدعين الذين تتلمذوا عليها. تلك الروايات التي تنوعت بطروحات مزجت الخيال بالواقع، وجدير أن نعيد هذه القراءات برؤى متوازية تارة، وتتقاطع معها تارة أخرى، فإذا كانت الرواية الحديثة قد احتكرتها المدارس الحديثة من السردية إلى غيرها، فإن عالم الرواية الكلاسيكية أو المسرح وكل الفنون الإبداعية، لا يزال ينبض قوة في روح الإبداع، وفى نفوس من يسعى إلى كتابة النص الإبداعى، فيستمد ويغرف من فيض النتاج الأدبى العالمى الإنسانى، والإرث المتوارث من التراث العربى القديم، لاستيعاب مجريات الأحداث داخل النص بفلسفة معاصرة.
إن اسلوبه الذي تميز بالتدفق الساحر في رصد عالم الإنسان، ورصد سلوكه وانفعالاته النفسية، وما يدور في خلجاته التي ينقلها لنا متمثلة في شخوص أبطاله، وكيف تتطور سلسلة الصراع وثيمة النص لديه، بقدرة قلما نجدها إلا لدى القليل من الروائيين، فنجد مستويات متعددة يتناولها، تارة تتوزع بين الدين والوجودية، وتارة قيم الإنسان والأخلاق أو الصراع بين الخير والشر في النفس الإنسانية، فهى متعددة الوجوه والتركيبات والأصوات.
لقد اختلف الكثير من النقاد في تصنيف شخصية البطل بهذه الرواية التي توزعت بين المدرسة الرومانسية، وفانتازيا الأدب الروائى، فضلا إذا ما قورنت بين المدارس النقدية المتعددة وفلسفاتها.
لقد شكلت الرواية بلياليها الأربع، وشخصية البطل المستقاة من شخصية الكاتب نفسه، والذى يعطى للقارئ أنها (الإسقاطية) التي يبطنها ويلقيها الراوى على بطل أحداثه، وهو يعيش في مدينة بطرسبورج، شخصية تعيش وحدها، تحاور ذاتها، لا علاقات ولا صداقات، لا يقاسمه الفرح إلا الحزن الذي يستوطن ذاته المتناثرة بين عالم يحيطه من كل الأركان في داخل المدينة، بطل الرواية الذي تعمد كاتبها بتقنية عالية ألا يمنحه اسماً، بقدر ما أراد أن يشوب القارئ نوعا من السعى والفضول للغور واكتشاف هذه الشخصية التي تعيش بين أروقة النص.
شخصية البطل تلك الشخصية الحالمة المتدفقة، ولكنها صامتة تغلى في داخلها بعواطف جياشة تجاه ناستينكا، تلك الفتاة التي ارتبطت بعلاقة عاطفية مع المستأجر لغرفة استأجرتها له جدتها، ثم غادرها بسفر إلى مدينة أخرى على أمل أن يعود إليها (إلى ناستينكا) التي وعدها باللقاء لاحقا. في الوقت الذي يلتقى بطل الرواية بناستينكا، حيث يبارك للقدر الذي جعله ينقذها صدفة في الطريق العام، من شخص متهور كاد يعتدى عليها.
هنا يقول الكاتب على لسان بطله (أنا خجول) وهو يحدث ناستينكا بعد ما أسعفها من الشخص المتهور في الشارع، وهى تبادر إلى سؤاله (لماذا يدك ترتعش؟) فيجيبها: (أنا خجول مع النساء، أنا مضطرب لا أنكر هذا، لم أتخيل يوماً ان أتكلم مع امرأة، نعم كانت يدى مرتعشة، أنا وحيد ولا أعرف الحديث معهن).
هنا يرى العالم الروسى إيفان بافلوف، صاحب المدرسة الاشتراطية في علم النفس، (أن شخصية كبطل دوستويفسكى في رواية الليالى البيضاء، التي تملى عليه حالة عدم التوازن في الشخصية، والتى تفرضها عليه النوازع الداخلية المتصارعة، تفرض عليه المحاولة للخروج منها، إلا أن الذات القسرية في داخله تقف حائلا بينه وبين الواقع الشرطى المفروض عليه).
فإذا كانت الليلة الأولى من الرواية هي المحطة التي يروح البطل فيها متسائلاً ذاته، وهو يردد بينه وبين نفسه كلاماً غير واضح، يشاطره الطريق وهو يتنقل قافزاً بنظراته بين الشيخ العجوز الذي يحييه كل يوم خلال مروره بالحديقة، وبين شرفات المبانى في الطرقات، لا يدرى أين تقوده خطاه في هذا العالم المضطرب، حتى يلتقى بالصدفة مع ناستينكا، ليدخل النص في الليلة الثانية وجدل الصراع النفسى عندما يتعرف على علاقة ناستينكا والمستأجر غرفة جدتها الذي وعدها يوماً بالعودة إليها، حال الرجوع من سفره الذي طال كثيراً.
وإذا كانت الليلة الثانية من الرواية تغرق في الوصف والاسترسال الذهنى الانفعالى للأحداث، وبصبغة عاطفية تعكس روح بطل الرواية أو شخصية الكاتب، وهو يوحى للمتلقى أن الإبداع المقترن بفترة زمنية تسكن حياة الإنسان في مطلع شبابه، ليس كما هو الحال وهو يكتب في مراحل متأخرة، وهذا ما نلمسه في حالة التطور الانفعالى المعقد والمركب لدى دوستويفسكى عندما كتب فيما بعد روايته (الجريمة والعقاب)، وما حملته تلك الرواية من تصوير لعمق النوازع الإنسانية، وعمق وكبر ونضج التجربة الإبداعية لديه فيما بعد، مقارنة بما كتب في (الليالى البيضاء).
إن الإبداع الإنسانى أفق مفتوح بلا نهايات، يستغرق ويستنزف وقتاً وجهداً مضنياً من المبدع، لذا تجد صورة الراوى (على سبيل المثال لا الحصر) في الليلة الثالثة للرواية، حين تبدأ ناستينكا بالحوار عن تجربتها ويبدأ الراوى وهو يغرق بين انفعاله العاطفى المكبوت تارة، وبين ضياعه بين مفردات حديثها وعلاقتها عن الشاب المستأجر الذي انتظرته طويلا.
قد يخفى دوستويفسكى حالة الحبور في ذاته، وقد تجد أن ما يملى عليه من الرقى في كيفية توظيف الشعور في النص الإبداعى، ليتناول حالات الانفعال الإنسانية، وهو يعيش حالة من حالات الجانب العاطفى الذي يختلج في ذاته، كما يسعى تصويره إسقاطياً على بطل الرواية.. إن الارتقاء إلى الغور داخل الوعى والعاطفة وانفعالاتها، ربما نجده يتوزع داخل النص الشعرى، ولكن عندما يسعى الراوى لإسقاط ذاتيته بأسلوب فنى، فلابد أن يكون قد تمكن من أدواته الفنية والتقنية والسردية، وأن توظيف الخيال في ثيمة النص، حالة خاصة ليس يسيراً على المبدع أن يبديها عملا متكاملا تقنع المتلقى، أو تتبوأ بدورها كعمل إنسانى يصارع بين الكاتب مرة وبين مخاطبة الإنسان المتلقى مرة أخرى.
وإذا كانت الليلة الرابعة والأخيرة من الرواية هي التي يسعى فيها دوستويفسكى ليختم عالمه الافتراضى والإسقاطى على لسان بطله (الراوى) فهو يقترب أكثر فأكثر من عالم الإنسان بعاطفته القلقة، وتشتت الحالة الانفعالية لديه تجاه ناستينكا، عندما تقترب لحظة المصارحة بينهما ويدلو بدلوه أخيرا ليعترف بحبه لها، وفجأة أشبه ما تكون بلحظة (ومضة الفلاش) يأتى المستأجر من بعيد لتتقاطع نظرات ناستينكا بين من أحبته بالليلة الأولى وبين من بات ينفجر بحبه لها في الليلة الرابعة.
***
د. عصام البرام