ترجمات أدبية

ميلتون حاطوم: زهور جافة من سيرادو

بقلم: ميلتون حاطوم

ترجمة: صالح الرزوق

***

بعض الناس صامتون أو بالكاد ينطقون بكلمة، ولكن في براسيليا حتى الجدران ترسل أصواتا غريبة. الصمت، الصمت العميق، لا يوجد إلا في الأماكن النائية، في السافانا الأصلية، في السيرادو. لاحظت أن ورق جدران غرفة الفندق مصمم بأشكال هندسية مثل ورق الأورغامي، ومن النافذة أرى أشجارا عارية من الأوراق وبأغصان ملتوية، ثم المرج البني، وأخيرا الأفق المحترق بجفاف شهر أيلول. وفي وسط السهوب المحترقة، ساحة القوى الثلاثة... يقول الناس إن مكتبة براسيليا الجديدة الوطنية فتحت قبل أن يتوفر فيها أي كتاب. هل هذه استعارة تدل على عقول السياسيين؟ أم أنها ترمز لهذه الأوقات التي نحياها؟.

الوصيفة في الفندق امرأة من ميناس، وموظف الاستقبال شاب من بيرنامبوكو، وأحد مساعدي كبير الطهاة من باهيا. كل البرازيل هنا، ويبدو أن البرازيل الحقيقية غائبة من منحوتات المجلس الوطني المقعرة والمحدبة. كل مرة ألج فيها إلى المصعد الزجاجي أسمع صوت الطيور. فهي تغني ولكنك لا تراها: أين هي؟. لا يوجد. طيور في صور بانتانال وأمازونيا الملصقة على جدارين من المصعد البانورامي. وحينما أصعد أو أهبط سبعة عشر طابقا في ذلك القفص الزجاجي والمعدني، أضطر لسماع الرنين المعدني. وأتذكر قصة قصيرة لمارسيل شوب وهي "باولو أوشيلو". كان عبقري فلورنسا، في القرن الخامس عشر، مهووسا بالطيور، كما كان أيضا مهتما بالهندسة والفلسفة. أراد أوشيلو أن يفهم مساحات وعمق العالم. فرسم الطيور على جدران مرسمه، وهكذا حصل على لقبه، وأعطى لشوب عنوان القصة التي كتبها. لكن الحياة ليست متخيلة، على الأقل ليس دائما، ولا سيما حينما يقف المصعد في الطابق الأرضي، لأجلس هناك على طاولة الفطور، وأستمع لشذرات من حوارات غير سرية:

"سأعود في الأسبوع المقبل لأحصل على نتيجة المناقصة...".

"تكلمت مع السيناتور، نحن فقط بحاجة إلى...".

"تدبرت أمر موعد، والآن أسهل لي الحصول على...".

تتقاضى امرأة ميناس أدنى الأجور، وتعيش في سامامبايا، واحدة من مناطق فافيلا الفيدرالية. حينما قطنت في براسيليا لم يكن أحد معتادا على كلمة فافيلا، وكنا نطلق عليها اسم المدن الفضائية. لا يزال التعبير المتحضر موجودا، ولكن الوقت يجعل التعابير الحضارية باهتة.  تم إنجاز خطة العاصمة تحت إشراف الفقر والبؤس البرازيلي: البناؤون المحليون الفقراء، وعمال المياومة، والفنانون والعاطلون عن العمل المهاجرون من كل الزوايا، والذين استقروا في ضواحي المدينة الكبيرة.

كيف ستكون البرازيل وبراسيليا إن لم يكن هناك منع تجول عسكري، بلياليه الطويلة المخيفة؟.

أما مساعد كبير الطهاة فيتقاضى أكثر بقليل من امرأة ميناس، ويعيش في سوبرادينو.

"إن لم أتناول وجباتي في الفندق، سأجوع. ولداي هما من أبناء العاصمة".

توأم من حقبة الرئيس كولور، هذان الولدان جاءا إلى العالم وسط كابوس سياسي. سوبرادينو. لن أنسى هذه المدن الفضائية، كنا نذهب إليها لنكتب بالطلاء شعارات ضد الرقابة وخشونة الحكم العسكري. أين ذهب أصدقاء تلك الفترة؟. كان زي ويلسون الذي نعرفه باسم كوكا، لا يزال شابا حينما عبر إلى الطرف الآخر من الحاجز الزجاجي، حتى أنه لم يقل وداعا. لا زلت أتذكر حماسه للكلاسيكيات؛ قرأ كل شيء وتأملنا من وراء النظارات السميكة التي حملها وجهه الطفولي. وشيكو دوس أنخوس، ابن الكاتب سيرو دوس أنخوس، رحل أيضا عن هذا العالم نهائيا. قلت لشيكو: رواية والدك "بيلميرو الموظف" رائعة. هؤلاء المحليون يكتبون كتابة مؤثرة، وأشعر بالغيرة منهم.

لمست نوعا من الاعتزاز في نظرة صديقي. ثم أطلق ضحكة عالية. شيكو يضحك حينما يصمت الجميع. تلك الأوقات لا تنفع للضحك، ولكن كان لديه حس بالمرح، وهو ما يساعد على خلق حالة من الانسجام.  

في عام 1968 لا يوجد شيء نظيف تماما في براسيليا، فهي مدينة جنينية، وعاصمة صغيرة. وأيضا عاصمة تحت الرقابة. بعض الرجال أصحاب السلطة يرتدون البذة وربطة العنق، والعديد منهم يتأنقون بالبذة والنحاس، وتعطيهم أسلحتهم هيئة عنيفة جدا، ولكنهم أيضا خائفون، وفي ظل الخوف والعنف والوحل يحتلون قلب براسيليا. الغبار الأحمر يغطي الأبنية المتميزة، ويلوث واجهات الأديرة، والأطراف الملتوية للكاتدرائيات التي لم يكتمل بناؤها. ويبقع الغبار الموحل قصر بلانالتو؛ والآخر، قصر ألفورادو، محمر كذلك.  اعتادوا على أن يقولوا: 'الوحل القذر، الوحل اللعين".  وحتى وحل السافانا الأصلي شيوعي أيضا. ولا يتوفر كثير من الفنادق، وأتذكر ليلتين أمضيتهما في فندق داس ناسوش، ليلة للقلق، وخلالها غاص قلبي من الشوق للشمال. ثم انتقلت إلى غرفة في بيت زقاق W3  جنوبا: وهو مأوى رخيص في بيت ضيافة مأجور ولكنه غير رسمي. وكانت تمتلكه عائلة سوداء: كان الأب بناء من باهيا، معمارا أصيلا ساعد في بناء فندق داس ناسوش الذي فتح أبوابه عام 1962. وللبيوت في W-3 جنوب منصات خلفية، تتحول أحيانا إلى باحات خلفية، ولكنها حاليا غير واضحة. كان ولدان يلعبان لعبة "الغميضة" قرب شجرة بيتانغا. قدم لي أحدهما حفنة من الثمار، وهكذا بدأت أشعر بحب براسيليا. 

تعرضت الباحات لإعادة البناء مع ملحقات رخيصة، وتم تقسيمها إلى غرف صغيرة متجاورة، مثل الفافيلا (الضواحي الشعبية).  فالعائلات تزداد بالعدد، ويتراجع الدخل، ويبدأ أصحاب الأملاك بإيجار مساحات من باحاتهم الخلفية. 

ولا حتى براسيليا، المصممة بعقلانية شديدة وغير بشرية، يمكنها مقاومة فوضى العمارة الحضرية. أحاط البؤس وعشوائياته بسلطات الجمهورية الثلاثة، وعاد الخوف القديم والعنف ولكن تحت أسماء جديدة.  شيكو دوس أنخوس، كوكا، لن تعيش لترى هذا.  خويو لويز لافيتا، ناقد ممتاز عاش في براسيليا في تلك الفترة، ومات أيضا دون أن يرى تحرير البلاد من أمل لا يتنازل عنه البرازيليون. وهذه واحدة من صفاتهم. غادرنا أيضا صديق آخر هو خويو أليكساندر باربوسا، وكان ناقدا أدبيا عميقا. وقد طرد مع مئات المحاضرين من جامعة براسيليا، وأصبحوا خارج تلك المؤسسة في الستينات. ولكن قاومت الجامعة أسباب الفناء. أفكر بكم جميعا وأنا أسمع الرنين المعدني للعصافير الغائبة. سبع عشرة طابقا في ثلاثين ثانية. الأفضل أن تمشي بدون اتجاه، لتتذكر براسيليا في ظلمات الصباح الباكر، بانتظار بزوغ الفجر. أغادر القفص المعدني والزجاجي، وأشاهد امرأتين شقراوين شقرة صناعية تتكلمان مع الموجودات في الصالة. كانتا على كنبتين من الجلد وتشربان الويسكي، وربما تكسبان في ليلة ما تجنيه امرأة ميناس في شهر، وربما تكسب الموجودات في الصالة أكثر مما تجنيه كل العاهرات والنساء العاملات من أجر في عشرة أعوام. 

لا تعني صور الأوريغامي على الجدار أي شيء لي، فهي ديكور آخر في غرفة فندق يمكن أن تراها في الفليبين، وهولاندا أو جنوب إفريقيا. قمت برحلة بلا هدف عبرت بها سيرادو، أردت أن أرى مكانا من ماضيي، البركة الزرقاء، حيث يمكن أن أجد ملجأ أختبئ فيه من الخوف ومن الرجال.

رحلة عبر الأزمنة: من خلال المرئي وغير المرئي في غبش الذاكرة. هنا توجد عصافير حقيقية: تحط سانهاشو (التاناجر)  وسييرا والسيس الأزرق على ظل أشجار جاتوبا وتتغذى على ثمار كوميليا الممتلئة. وتستلقي الأجساد العارية على الصخور قرب البركة الزرقاء وترتمي الأعشاب الرطبة على الجداول. لا أرى أشجارا قزمة بأغصان ملتوية، ولا أرى الأطراف المعوجة للمخلوقات المأساوية الشبيهة بالنباتات. هنا، لا يؤلم الماضي جسدي أو روحي، ويمكنني قطاف الزهور الجافة من سيرادو وأنا أكتب هذه الكلمات في حب المدينة التي لا تفارق خيالي.

***

......................

* ترجمها عن البرتغالية أنخيل غوريا

* ميلتون حاطوم Milton Hatoum مولود في ماناوس. درس الهندسة المعمارية، وعمل في تدريس الأدب البرازيلي في جامعة أمازوناس وجامعة كاليفورنيا، بيركلي. نشر عمله الأول "حكاية شرق ما" عام 1989. له عدة روايات منها "الشقيقان" 2000، رماد الأمازون 2005، أيتام إلدورادو 2008 وغيرها. أولى مجموعاته القصصية حملت عنوان "مدينة الجزيرة".

 

في نصوص اليوم