ترجمات أدبية

عبد الرزاق قرنح: المرافق

بقلم: عبد الرزاق قرنح
ترجمة: صالح الرزوق
***

أعتقد أنه شاهدني أقترب، ولكنه لسبب ما لم يهتم ولم تصدر عنه أي استجابة. وقفت بجانب باب السيارة الخلفي وانتظرت منه أن يرفع نظره. طوى جريدته وفتح الباب، وهو يتأملني لحظة بمقت بالغ. وقفت بمكاني أرتجف لأتغلب على سوء استقباله. ربما لم يكن هذا كراهية، ولكنه مجرد تحسس من القلق الناجم عن التعب الوجودي الذي لا مفر منه، أو النفور. ولكنه كان كالكراهية. مد ذقنه إلى الامام قليلا، وسألني عن اتجاهي. حينما أخبرته باسم الفندق هز رأسه، كأن هذا هو أقل مما يظن، أو كأنه توقع أن أذكر مكانا أبعد. تجرأت وجلست بقربه على المقعد الأمامي، دون أن أنكر الأفكار السلبية التي يمكن ان يستنتجها من قيافتي - وبالجلوس إلى جانبه يمكنه أن يتأكد أنني لست كريها كما اعتقد أول الأمر. ولم أجد طريقة لتجنب مساعر سخطه ونفوره. كان مقعد السيارة صلبا وقاسيا (وأخضر)، كسوته من الفينيل ولكنها متشققة بفعل التقادم. مع زوايا حادة وأطرافها مجعدة بشكل صف من الثقوب. حتى أنها وخزتني من خلال قميصي بينما السيارة تتمايل للخروج من موقف سيارات الأجرة. وعلى الرف الأمامي رأيت فجوات فارغة تتدلى منها أسلاك متداخلة، من المفترض أنها مكان الولاعة أو المذياع أو علبة القفازات. وربما لم تكن فارغة تماما، لأنه يمكن أن تلاحظ لفات من الورق محشورة في الزوايا، ورقعة قماشية حال لونها بسبب الاستعمال. وكانت جافة ومعلقة في إحدى الفجوات. وحينما أبطأنا وسط زحام وقت الغداء، نظر إلى الحقيبة التي أضعها في حضني. ثم رفع عينيه لينظر إلى وجهي. وتظاهرت أنني لم أنتبه لنظرته.
سأل بصوت حرص أن لا يكون مباشرا، ولكنه في حدود شخير لا يخلو من قلة الاحترام: “من أين أتيت؟".
وكان سؤاله على وجه العموم كأنه يتوقع أنني لا أمنحه حق هذا السؤال. أوناتوكا وابي؟. هم بالحركة مجددا، ثم مال للخلف وأراح كوعه المتأهب على نافذة السيارة. كان منطويا ومتوترا، ووجهه مضيء بتوقعات غير ذات معنى. أو هذا ما خيل لي وأنا ألتفت لأجيب على سؤاله. شيء كئيب ومقلق بخصوص حركة وجهه جعلني أتصور أنه شخص عاش حياة خطرة، وجعله ذلك يبدو قادرا على الخشونة المتعمدة في سبيل تخفيف معاناته. وشعرت بالخوف وعدم الرضا من فضولي وتمنيت لو تنتهي الرحلة بأسرع وقت. كان علي أن أنصرف منذ أول نظرة مريبة. رمق الحقيبة مجددا وعبر وجهه ظل ابتسامة، ساخرا مما اعتبر أنه اعتزاز بالذات. كانت شيئا رخيصا من البلاستيك بيد قاسية وسحاب سخيف، ولم أتوقع أن تصمد أكثر من عدة شهور. وعليه إنها لا تستأهل مثل هذا التأمل المركز. هذه المرة سأل وهو يومئ للحقيبة كأزه يشملها بكلامه:" من أين؟".
قلت: "يونيغريزا". إنكلترا. تكلمت بهدوء، وبلامبالاة، لأبين له مقدار عدم اهتمامي بالمحادثة.
نفخ بصوت خافت وقال: “طالب؟".
كان يقصد هل أنا أحد أولئك الذين غادروا ليعيشوا كما يحلو لهم في العالم، ثم عادوا بحكايات وحقيبة رخيصة فقط. هل أنا أحد أولئك الفاشلين الذين عملوا في مجال تافه ومخجل ولم يجنوا غير حكايات عن دراسة لا تنتهي، وترتيبات حكيمة لا تجني منها غير ثروة بسيطة في فترة محدودة؟. كان وجهه مرحا ومتحفزا، وهو ينتظر ليرى كيف أخترع الجواب. وعندما تابع قيادته توقعت أنه سيخبرني عن صموده للعناية بعائلته المريضة، في حين أن الجميع هرب وترك الساحة. ولم تنفعه التوقعات المشرقة لأساتذته ومعلميه حينما كان شابا. أخبرته أنني كنت معلما، فنفخ مجددا، وهذه المرة دون مداراة على الإطلاق.
هل هذا كل شيء؟.
كان زحام استراحة الغداء بسرعته المعهودة، يتدفق في الطريق بأقل مقدار من التردد الذي قد يبدر عن سائق. وعانى سائق سيارة الأجرة من هذ التيار واتكأ على بوقه، كلما تمهلت أي سيارة أمامه وسمحت للمشاة باغتنام الفرصة. تبخترت زرافة من تلاميذ المدارس الهنود اليافعين بين السيارات، وهم يثرثرون بروح مرحة، فأطلق عاصفة من بوق السيارة مع كلمات نابية. نفايات قذرة. ماذا يدعوهم للتلكؤ؟ وكان الزحام على أشده عند مركز البريد. عبرت الحشود الأرصفة، بعضهم رجال مسرعون يرتدون القمصان وربطات العنق، مشاغل - مشاغل - مشاغل، آخرون أكثر تأنيا، توقفوا بين حين وآخر، ليتأملوا ما لدى تجار الأرصفة من بضاعة رديئة.
ترنم يقول وهو ينعطف يسارا إلى المرفأ: "يونغيريزا". وهناك كان موضع فندقي. كرر: "يونغيريزا. بلد الرفاهية".
سألته بصوت لا يخلو من الدهشة وتكذيب النفس: “هل زرتها؟".
أنت؟. بعد كل ما بذلته من جهود كي تتقدم في طريقك من خلال ثقافة معتزة ومفتونة بنفسها، تحصل على كلمة عابرة تقودك إلى خرابة بائسة. بلد الرفاهية. ضغط السائق بإلحاح على البوق لينبه عربة ماء كانت أمامه كي تخلي الطريق. ظهر عليه اليأس من عربة الماء. واستمر ذلك دقيقة تقريبا، وخلالها لوح بيمناه من النافذة وكأنه يفكر بالقفز من السيارة وإلقاء حمولة العربة على الأرض. لوح عمال المرفأ بأذرعهم لسائق سيارة الأجرة باغتباط، وكانوا يبتاعون غداءهم من أكشاك على أطراف الطريق، وهم من بين زبائن بائع الماء. ناور السائق بسيارته من حول العربة، وهو يضغط على البوق بنفير طويل.
سألته: “هل لديك أقارب في إنكلترا؟". لم أتخيل أن شخصا يعتاش بهذه الروح النزقة، ويقود سيارة أجرة بالية كالتي نتنقل بها، يمكنه ادخار أموال تكفي للحياة في بلد الرفاهية ولو لليلة واحدة وفي غرفة تقدم له السرير القذر والإفطار الفاسد.
قال: “سبق لي أن عشت هناك". ثم التفت ونظر لي وضحك. غادرنا الطريق الرئيسي، وكنا نتقدم وراء مستودعات المرفأ وباحة القطار، واقتربنا جدا من الفندق. وتوجب عليه أن يركز على الطريق المرهق، بسبب ما يتخلله من مطبات وثقوب وانحدارات حول خط القطار. وبدأ يتكلم ولكن توالت كوارث الطريق، الواحدة بعد الأخرى، بسرعة، فهز رأسه، مستاء من مقاطعة حكايته. كان يبدو أن مكان الفندق ضرب من الجنون، كان الطرف الآخر من الباحة مهملا تغطيه بقايا الآلات ونفايات العمال، ولكن كان الفندق هنا قبل هذه الأرصفة وخط القطار الذي تحول إلى قضبان مهترئة، وقبل موت الطريق.
قال: “كان معي بغي. واحدة من العاهرات الأوروبيات. أخذتني إلى هناك، ثم إلى فرنسا، ووصلنا أستراليا. ذهبنا إلى كل مكان. وكانت تدفع كل الأجور. أنت تسمع هذه القصص من الآخرين، وتعتقد أنهم يكذبون، ويحلمون بعاهرات أوروبيات لديهن النقود، لكن محرومات من العاطفة. توقعت ذلك حتى أصبح لدي بغي منهن".
كنا قد وصلنا، ووقف خارج الفندق، وسيارته ترتعش بقنوط وهي بوضعية الانتظار.
قال وهو يستلم أجره: “سلم. كانت تدعوني سلم". غطت وجهه ابتسامات نابعة من ذكرياته. ثم أضاف: “ولكن اسمي سليم. وأنا دائما أقف في طابور سيارات مركز البريد. تفضل ثانية".
كنت قد وجدت هذا الفندق بالصدفة. فقد أخبرني موظف الهجرة أنه لن يمنحني إذنا بالدخول ما لم أذكر في الاستمارة عنوان إقامتي في هذا البلد. قال ذلك بما يشبه الاعتذار، لأنه بعد أن شاهد في جواز سفري مكان الولادة تكلم بإيجابية عن زنجبار، أقله لوجود أقارب له هناك. وعرض علي قائمة بالفنادق - قال: ماذا تختار. لا يجب عليك أن تأوي إلى أي منها. اكتب الاسم في الاستمارة فقط. اخترت واحدا، وحينما وجدت سيارة خارج المطار كان هذا هو الاسم الوحيد الذي أمكنني تذكره. وارتحت لانزواء المكان، والصمت المحفز المخيم على باحة القطار، وساعات العمل في العنابر والمستودعات. هذا يعني أن أحدا لن يزعجني بزيارة، كما يمكن أن تتوقع لو أن الإقامة في مكان جذاب في الجانب الآخر من البلدة حيث الكازينوهات والمسابح.
ولكن أدهشني أن يخابرني موظف الاستقبال في الأمسية التالية ليعلن عن قدوم زائر. وطبعا كان سليم. ولم يخطر لي أنه سيأتي، ولكن بما أنه أصبح هناك، بدا الأمر وكأنني كنت متيقنا طيلة الوقت أنه سيأتي. كان يرتدي قميصا حريريا أخضر تزينه صور زهور بيض وقوارب صيد زرق - وكان بنصف كم وذراع النظارة الشمسية مطوي أمام جيب قميصه. وكان بجينز مخملي عريض حول الخصر، ولكن ثبته بحزام عريض، ترك طيات حول خصره.
أصر أن يقدم لي شرابا، وقدم شرابا آخر للساقي. كان البار فارغا تقريبا، وكان الثنائي البلجيكي الذي يمتلك الفندق مشغولين بتسلية إحدى الصديقات. عداهم لا يوجد أحد. قالت الضيفة بضيق: Ces gens sont (هؤلاء البشر) مستحيلون. ورفعت صوتها للتأكيد بلا تردد. هؤلاء الناس مستحيلون. كانت هزيلة القوام، امرأة موفورة الصحة بالأربعينات من عمرها، وطازجة وتثق بنفسها. رمق سليم الأوروبيين الثلاثة لحظة، كأنه يفهم ما يقولون، ولكن من الواضح أنهم لم يكونوا مهتمين به. ثم قال: “اشترت لي هذا، صديقتي". ولمس برقة قميصه ثم قرص الجينز المخملي الأزرق. كان مبتسما، غير متهكم، ولم يمانع أن يكون الساقي معنا. قال:”لا تريدان أن تعرفا كيف وجدتني؟". وانتظر أن نومئ أنا والساقي. تابع: “حسنا سأخبركما. كانت وحدها أمام فندق تومبيلي، في الشاطئ الشمالي. هل تعرفانه؟. رأيتها تجلس تحت شجرة قرب المدخل، كأنها
بانتظار شخص ما. بالعادة هم لا يخرجون حتى يأتي عمال الفندق لينقلونا بسيارة. هل رأيتم ماذا ألبسوا البابون؟. أتوا بهم من التلال البعيدة وألبسوهم مآزر صفراء وبابيونات عنق سوداء. ثم طالبوهم بثمن الأزياء. أنا أعلم ذلك". كان الساقي يرتدي قميصا أبيض، وبابيون عنق قصيرة سوداء، ولف مريولا أصفر حول وسطه - وربما عليه أن يدفع كذلك لقاء زيه، ولكنه ضبط نفسه ولم يظهر عليه الامتعاض. تابع سليم: “على كل حال. توقعت أنها تنتظر هناك أحدا ليرافقها. ولكن فكرت يجب أن أجرب في كل الأحوال. لم تكن صبية، ولكنها ليست عجوزا. استمعت لي لحظة، هل تفهمانني، وأنا أثرثر معها كالمعتاد عن الجولة السياحية بتعرفة الحكومة، ثم وجدتها تدخل في السيارة. قدتها بجولة طيلة اليوم، حتى بلغنا ماليندي، ووايتامو، وتاكايونغو. وعرفتها بتلك الأماكن، مع إضافات كلما سنحت الفرصة، أو إذا سألتني أسئلة صعبة. في المساء، وأنا أعود بها إلى فندقها، طلبت مني التوقف بجانب الشاطئ، وهناك فعلناها. على الرمل، في العراء، مثل كلبين. وكررنا ذلك يوميا. أحملها في الصباح، وأتجول بها في الأرجاء، وأخترع لها القصص، ثم أرافقها إلى الشاطئ بعد أن يخيم الليل. وبعد عدة أيام من هذا الطقس، طلبت مني أن أسافر معها إلى يولايا. وهي من تدبر كل شيء. التذاكر، جواز السفر. دفعت لقاء كل شيء".
قلت عفويا، فقط لأعلق بكلام ما: “لا بد أنك كنت جيدا معها عند الشاطئ". لم أصدق أن أي امرأة تلتقيها بالصدفة، وترى أمامها شخص مثل سليم، لا تتوقع المخاطر. وفي كل حال لم أكن جاهزا للاستماع إلى قصة أخرى عن امرأة شرقة تشتهي قضيبا إفريقيا. ضحك الساقي بلا صوت، ونظر سليم إلينا واحدا بعد الآخر، وكان يبدو كالمجروح قليلا.
قال له: “اسمي سليم". ثم أفرغ كأسه ودفعه قليلا نحوي قال: "لا يكلف الأمر الكثير من النقود إن كنت تستبدل عملة أجنبية. هل تعلم ذلك. وعموما كان لديها الكثير".
دفعت ثمن مشروبه وجلست أصغي للمزيد من حكايته عن المرأة المستهترة. كانت قد أنهت زواجها، وحصلت على حصتها من النقود، وقررت أن تسافر. أخذتني معها إلى ليفربول، مكان ولادتها، ولكن أبويها هاجرا إلى أستراليا وكانت حينها طفلة.
هل عانى من المصاعب؟ معها؟. نفض كتفيه. فقد اهتمت بكل شيء، وساعدته على رؤية أشياء، وكانت العاهرة تريد الجنس يوميا، وأحيانا مرتين أو ثلاث مرات في اليوم. لم يكن ذلك صعبا. رافقها لعدة أسابيع. فربح صديقين يعيشان بالجوار، وكلاهما مسلم، أحدهما صومالي والآخر من موريشوس. وعلماه كيف يحصل على النقود. ثم عاش مع المرأة حياة مرفهة. كانت الحكومة الإنكليزية بالغة الغباء. وليفربول مزدحمة بالسود، أولاد حرام لا يرحمون ويتصرفون على هواهم، ومع ذلك تمنحهم الحكومة النقود. كانت الإنكليزيات تتقربن منه دائما، تربتن على شعره، وتحشرن أنفسهن به، وتقدمن له الشراب. بعد دقائق من هذا الكلام ودعته وغادرت. قلت له: علي كتابة بعض الرسائل.
عاد في الأمسية التالية، بقميص آخر ملون. أخبرت موظف الاستقبال أن يقول إنني غير موجود، ولكن ربما لم بفعل بسبب ارتباطات أخرى. وفكرت أن أنبهه بملاحظة عابرة، وأنا أعبر من أمام المكتب، ولكن كانت نوبة العمل من نصيب الشاب الآخر.
قال لي سليم: “اشتريت هذا من أستراليا". وقرص قميصه وتابع: “ذهبنا إلى هناك بعد أيام من زيارة فرنسا. اسمها بيتي. كانت تدعى بيتي. بيثاني. اسم ديني، ولكن تسمي نفسها بيتي. هل تريد أن تذهب إلى الملهى في ليلة الغد؟ لا يزال أمامك ليلة أخرى، أليس كذلك؟ هناك مكان ممتاز في الجانب الآخر من ماجينغو. ليس شيئا يشبه السخافات السياحية. غدا يجب أن نذهب إلى هناك حتما. كانت النساء الأستراليات تردن ذلك كل الوقت، غير أن رجالهن لا يتحلون بنفس الرغبة. ولذلك النساء دائما ملتهبات. مشتعلات بالنار. ولم تمانع امرأتي إن رافقتهن". وأضاف الكثير لذلك، مع تفاصيل عن التدابير التي قامت بها النساء للانفراد به، وعن الهجران اللاحق بلا خجل.
سألته في النهاية في محاولة لوضع نهاية للقصة: “وماذا أعادك إلى هذا المكان؟".
قال دون مماطلة: “عليك أن تتوقف عن اللهو في خاتمة المطاف وأن تعود إلى أهلك. أي مكان آخر سيجعل منك مهرجا".
رأيت أن تلك اللحظة مناسبة للوداع، لكن كان سليم عمليا بعقل تجاري، ورفض أن يطلق سراحي. قبض على معصمي، ولم يفلته، ريثما يطلب دورة أخرى من المشروب على نفقتي. استجاب الساقي، ووقعت على الورقة، فتراجع، بحذر، وعيناه تغضان النظر عن يد سليم التي طوقت معصمي. كنا الوحيدين في البار. وما إن أصبح الشراب أمامنا، أفلت يدي مع ضحكة، وترك دائرة باردة على الجزء العاري الذي كانت يده تقبض عليه. وقفت لأنصرف، لاحظت أنه يفكر بقول شيء ما، ثم بدل رأيه وقال: “وماذا عن كأسك؟ لا بأس، سأشربها. أراك غدا إذا. أنت لم تنس زيارة الملهى. أليس كذلك؟".
طيلة اليوم لم أفكر كيف أتصرف حينما يأتي. فقد خصصت اليوم لكتابة الملاحظات عن بعض الزيارات والمقابلات التي تراكمت خلال الأسبوع الماضي، وكان هذا أسوا ظرف للكتابة، باعتبار أن زيارة سليم متوقعة. لا يوجد ميزة و لا مشقة في كتابة الملاحظات، لا شيء يشغلك أو يلهيك، وتحتاج فقط للتركيز على أحداث أثرت بك وانقضى الأمر.
في المساء اقتنعت أنه من السخف أن أنهك نفسي للغاية. وتوصلت قدر استطاعتي لجمع ما يلزم من معلومات عن شاعر غير مشهور يسمى باندو قاسم، كان يعيش في منعطف القرن، وحاولت أن أرى ما إذا كنت جاهزا لكتابة أي شيء عنه، غير أن ملهى ليليا في النصف الآخر من ماجينغو لا يفيد هذا الموضوع. ومع أنه لا يضره، وربما يغنيه. فبحوثي لم تسفر عن أي شيء يهم عن باندو قاسم، ولعل الملهى الليلي الذي رشحه سليم قد يساعد. لم أكن جاهزا لمشاهدة هذه الأماكن، وأنا بكل تأكيد أستطيع أن أزعم أنني أعرف هذه البلدة جيدا بدهونها المتراكمة على بطنها، ولكنه لا يمكنها أن تلحق بي أي ضرر غير الإصابة بالغثيان. لم أكن آمل أن أكون في دائرة أصدقاء سليم، والذين أتوقع أنهم مثل سليم من النمط الذي يقف له الشعر، وعموما بقي لي أقل من يومين قبل العودة إلى إنكلترا. لم يمكنني تصور إصابتي بمقدار ملحوظ من الضرر في هذه الفترة البسيطة. يمكن للملاحظات أن تنتظر، ويجب علي أن أنفق أمسيات صعبة وأنا أصغي إلى أقاصيص عن انتصارات جنسية على نساء عابثات ومستهترات. أوليس هذا أفضل من طرد سليم لأجد نفسي هدفا لغضبه وخبثه؟.
وهكذا في لحظة وصوله، كنت جاهزا له. وبدأت أفكر أنه لا يتوجب عليه أن يظهر ليعاقبني على شكي بقصصه. حينما هبطت كان يجلس بمزاج متعكر في سيارته. شغل سيارته بعد دمدمة حياني بها. جعلني ذلك الترحيب الرقيق أرتجف من الأفكار الآثمة. لماذا لم أطلب منه ببساطة أن يذهب؟. نظرت أمامي، دون أن أفكر بهدفنا، مع أنه لدي فكرة أين كنا. ولا بد أن تفكيري شرد لأنني فجأة أدركت أن سليم ابتعد عن الطريق، وكان يقود على طريق غير ممهد وممر غير مضاء. وكانت الأشجار تضغط على الجوانب من حولنا. وأضواء السيارة الأفقية جعلت مشاعري أكثر استعداء، كما لو أننا في نفق تحت الأرض. كانت أمسية بهيجة تهب عليها النسمات، ولكن في هذا النفق كان الهواء مشحونا بالبخار، وتفوح منه رائحة الأرض الرطبة. التفت سليم وتأملني، ورأيته يضحك. قال:”لا يبق الكثير". وبدأ يدندن. نبح كلب في الليل وبعد دقيقة، هاجت الأشجار السود بسبب صوت مر من هناك. في اللحظة التالية، أجبر سليم سيارته على الصعود فوق كومة تراب صغيرة، ودخل في باحة يحيط بها أشجار سود عملاقة. وقفت هناك سيارة أخرى، خارج أحد البيوتات. ولا بد أن هناك ثلاث أو أربع بيوت، ولكن يستحيل أن تجزم بسبب الليل. وقف بسيارته بجانب الأخريات، ثم غادرناها. وتبين أن الملهى هو الغرفة الأمامية من بيت طيني مدعم بألواح الخشب، وينيره مصباح كيروسين ضعيف. كان قد سبقنا رجلان، نهضا للترحيب بنا، كما لو أنهما بانتظارنا. قال سليم ضاحكا: “هذا ضيفنا من يونغيريزا".
بدا لي أحد الرجلين أنه بعمر سليم، وله نفس المظهر المتجهم. وكان الثاني أقل بالعمر وأضخم بالحجم، وحينما رمقني رأيت تقطيبة عفوية على فمه. اسمه ماجد. ولكن لم أسمع اسم الرجل الأكبر أول الأمر (وتبين أنه بودا). وقبل أن نجلس حول طاولة غليظة، نادى ماجد يطلب البيرة. ظهرت من الغرفة الخلفية امرأة في أواسط العمر، دون تحديد، وكانت بثوب ضيق تالف من الاستعمال، ومبقع بلون أسود تحت إبطيها. وتغطي رأسها بمنديل من نفس المادة، ولفت حول وسطها مئزرا. وبعد لحظات من النكات الهائجة، وبعض الصخب الإجباري، ذهبت مجددا لإعداد الطعام الذي طلبه أصدقائي الطيبون. كانت هناك زجاجات بيرة فارغة على الطاولة، وستبقى هناك كدليل على جرأة الشاربين. كان كل من ماجد والرجل الآخر قد شربا نصف زجاجة. والآن يتابعان ما تبقى، وكانا يرفعان الزجاجات إلى شفاههما بينما البيرة تغطيها الرغوة. كانت زجاجات كبيرة. وبلا أي كأس. تخيلت شيئا مختلفا حينما قال سليم سنذهب إلى الملهى، ولم أتوقع بيتا معتما في غابة يجتمع فيه الرجال لتناول الشراب سرا. قال بودا مؤكدا: “سيجلبون المزيد". كان تعبيره يراوح بين القليل من الكبت والكثير من المكر الصامت الذي لمسته عند سليم. ربما بفعل الشراب. عليك أن تكون جادا، ومهووسا، فيما يتعلق بأشياء للشراب في بلدة مسلمة مثل هذه، حيث أن السرية مستحيلة وانكشاف الأمر مؤكد. ولعل ذنب ارتكاب المحرمات يولد استهانة ساخطة بالذات، أو أن تناول السموم الضارة المتوفرة في جو ثقافة ضيقة ومحدودة هو الذي يتسبب بتلك الحالة المحتقنة بالألم. أو لعل الذل والاختناق يقود رجالا من هذا النوع، لتناول المشروبات رغم كل شيء. كيف لي أن أعلم؟.
قال سليم بمزاج متعكر وصوت مبحوح:" أرى أنكم لم تكلفوا أنفسكم الذهاب لصلاة المغرب اليوم". وأشار للزجاجات الفارغة على الطاولة. ضحك الرجلان من سخريته وابتسم سليم مكرها، وتجعد وجهه المنقبض قليلا. وبدا كأنه يحترق. كان بودا قصيرا وممتلئا، وحتى أنه بدين، ولكن كان مظهر جسمه صلبا ومضغوطا. وكأن امتلاءه لا علاقة له بميوله ولكن بشيء آخر محسوب ولا علاقة له بالمتعة فقط. تأملني قبل أن يتكلم، بعبث، ليمنح نفسه انطباعا بالرجولة والقسوة قائلا: “أخبرنا بما لديك عن يونغريزا. هل حقا لديهم هناك قطارات تسافر تحت الماء؟".
صاح سليم: “اسمع لهذا المتخلف. ألم تسمع بالأنفاق؟".
قال ماجد دون أي نبرة تدل على التعاطف: “ستجعل هذا السيد الإنكليزي يعتقد أننا كلنا طائشون مثلك".
جاءت بنت بثوب ممزق ويجلله الغبار من الغرفة الداخلية، وهي تحمل زجاجتي بيرة. كانت عيناها فارغتين تماما، تنظران عبر ما تصادف بشيء من التمعن والتركيز. وضعت إحدى زجاجتي البيرة أمامي. وحين مالت إلى الأمام رأيت من شق تحت إبطها أن جسمها شاب وممتلئ. وضعت الزجاجة الأخرى أمام سليم، فربت على مؤخرتها وجعلها ذلك تعبس.
قال ماجد بفظاظة وهو يطلق عاصفتن من العواء الضاحك: “صديقنا من يولايا يريدك يا عزيزة".
التفتت بعينيها نحوي مع نظرة تنم عن اهتمام عابر. ثم وقفت تنتظر، كما لو أنها تريد أن ترى ماذا سيجري لاحقا.
قال سليم وهو يضحك لي بتهتك: “هي لك".
رأيتها تعبس مجددا.
نظرت إليها، لوجهها الصغير والمدبب وجسمها اليافع والنحيف، ولم ألمح أي أثر للرفض. هززت رأسي فنكست نظراتها. ضحك ماجد ووقف. التفتت البنت إلى الغرفة الداخلية، ويداها تجران مسبقا ثنيات إبطيها بينما ماجد يترنح في أعقابها. ابتسم بودا بدماثة وعاود توجيه أسئلته لي عن إنكلترا. أجاب سليم على معظم الأسئلة، وهو يطلب مني بين حين وآخر تأكيد كلمة أو اثنتين. أعتقد أنني سمعت صوتا ثاقبا في إحدى اللحظات، وحينها ارتعش لسان اللهب في قنديل الزيت. مرت عليه فترة تبدو طويلة، وحينما خرج كان منحنيا، ووجهه اللماع موفور الصحة. قال وهو يمد يده لبقايا زجاجته: “مشقة تسرب العطش". وأفرغها في جوفه وأعادها مع ابتسامة المنتصر وقال: "حان دور الإنكليزي كما أظن".
نادوا عزيزة فجاءت بعد لحظة، وعيناها فارغتان ومشدوهتان كالسابق، وأطراف فمها متهدلة للأسفل. طلبت لهم البيرة، وأخبرت سليم حالما أنهى شرابه أنني أريد أن أنصرف.
سأل بودا: ماذا عن الطعام الذي طلبناه؟.
قلت: عندي واجبات لا بد منها.
نهض بودا وتبع البنت بهدوء بعد أن أحضرت البيرة.
سأل ماجد بلا ابتسامة: “ما هي طبيعة عملك؟ ألا ترغب بالنساء؟ اذهب وابذل جهدك معها. أم أنك لا تهوى النساء؟. ولكنها لن تفعلها معه؟". وأشار بحنكه إلى سليم وسأله: “ماذا فعلت بها؟".
أخذ سليم جرعة كبيرة من زجاجته وقال: “لدينا حفل زفاف. ولذلك سنتركك مع ألعابك الوضيعة".
سأله ماجد: “ماذا فعلت لها أيها المنحرف". وضحك كما لو أنه يعبر عن بهجة قصوى.
وصلنا إلى العرس في الوقت المناسب، وحضرنا طقوس مرافقة العائلة والأصدقاء للعريس حتى باب بيت عروسه. ضرب الطبول طبالان شابان ونحيلان جدا ومتشابهان وبوجهين مشدودين، وكانت عيناهما تنظران إلى الداخل في غضون هذا الضجيج. زين باب البيت أوراق نخيل، وتاج من الأضواء الملونة امتد على عرض الجدار الأمامي. ومن داخل البيت انبعثت أصوات نساء تغني، ثم فجأة تحولت إلى عاصفة من الزغاريد السعيدة وذلك حينما وصل العريس إلى الباب. تململ الموكب في المكان، وهم يصيحون بعبارات تحفيز للعريس، ثم انطلق صياح مرتفع وهو يدخل. وبدأت عيون الصغار تتلفت بقلق، بحثا عن الطعام المنتظر. نخر سليم بامتعاض وقال: “العروس واحدة من قريبات زوجتي".
لم يخطر لي أن لديه زوجة. سألته وهو يقود السيارة عائدين إلى الفندق: “هل كنت متزوجا قبل أن تسافر مع بيثاني؟".
كان اسما جميلا. وأتمنى لو تسنح لي الفرصة لاستعماله.
قال: “نعم". كنا نتقدم في الطريق قليل الإضاءة الذي يقود إلى باحة القطار، ولكن حتى في ذلك الضوء رأيت الهم والخوف يغطيان وجهه. أضاف: “تزوجتها قبل فترة طويلة".
سألته: “وهل عدت بسببها؟".
قهقه. وبعد لحظة، والسيارة تزمجر فوق طريق وعر، قال: “أعطتني شيئا في النهاية. تلك البغي. حينما رافقتها نزفت. زرت الطبيب فذهبت معي. قال إنه شيء غير ضار ولكنها قالت إنه لا يمكنني أن أبقى. ولم أعرف ما هذا النزيف. لكن كلما عاشرت امرأة أنزف".
تابعنا بصمت حتى توقفت السيارة أمام الفندق.
سألته: “هل زرت طبيبا بعد عودتك إلى هنا؟".
قال: “أي طبيب؟ وهل يوجد هنا أطباء؟".
نظر أمامه. ثم استدار نحوي مع ابتسامة خجولة ولطيفة، وقال: "خذني معك في الغد. هناك يمكنني رؤية الطبيب. خذني. وسأنفذ كل ما تأمرني به".
ومال نحوي، وابتسامته تعبر عن نفسها باستسلام وهي مطبوعة على وجهه المتألم والخائف.
جاء في اليوم اللاحق مع أنني أخبرته أنني سأعتمد على نفسي حتى أصل إلى المطار. وتكلم بأسلوبه الخبيث والعابث، منتقدا كل شيء يراه. ومع ذلك ألححت أن ينساني ويغادر، لكنه أوقف سيارته واقترب مني وفي يده جريدة ملفوفة.
قال: "كم سعر حقيبة مثل تلك؟ أحضر لي مثلها في المرة القادمة. أو أرسلها لي وسأحرص على أن أعيد لك نقودك. ليس لأنك بحاجة لنقودي في بلد الرفاهية. عموما سريعا ستتوقف عن اللهو، وتعود إلى بلدك".
ثم أضاف: “على الجميع أن يفعلوا ذلك. وإلا تحولوا إلى سخرية في بلد أجنبي".
صافحته وقدمت له كل النقود المحلية التي بحوزتي. نظر إلى الرزمة الكبيرة بدهشة.
قلت له: “أتمنى أن تتحسن أحوالك".
سألني ضاحكا: “ماذا تقول؟".
دس النقود في جيبه وقال: “في المرة المقبلة ستبقى حتما". ثم انصرف ملوحا بيده دون أن ينظر إلى الخلف.
***
...................................
* الترجمة من مجلة Wasafiri. مجلد 11. عدد 23. ص. 44-48.
* عبد الرزاق قرنح Abdulrazak Gurnah روائي بريطاني من أصول يمنية. كنيته الصحيحة باللغة العربية "قرناح" وتعني رتاج الباب.

في نصوص اليوم