ترجمات أدبية
دوريس ليسنغ: عبر النفق / ترجمة: صالح الرزوق
توقف الصبي الإنكليزي الصغير وهو في طريقه إلى الشاطئ في أول أيام إجازته، عند منعطف الدرب، ونظر إلى الخليج الصخري الهائج، ثم إلى الشاطئ المزدحم الذي يعرفه جيدا منذ سنوات خلت. تقدمته أمه مشيا، حاملة حقيبة مخططة وناصعة بواحدة من يديها. وكانت ذراعها الأخرى التي تتأرجح بحرية، بيضاء ناصعة تحت نور الشمس. راقب الولد تلك الذراع العارية البيضاء، وحرك بصره باتجاه الخليج، وهو مقطب الأسارير، ثم عاد بنظره إلى أمه. وحينما شعرت أنه ليس معها، التفتت وقالت: “آه. ها أنت هناك يا جيري". كانت تبدو قليلة الصبر، ولكنها مبتسمة. أردفت: “لماذا يا عزيزي لا ترافقني؟ هل تفضل..". وعبست بوجهها عمدا وهي تفكر بقلق بالتسالي التي يأمل بها سرا، والتي لا يمكنها تخيلها لانشغالها ولامبالاتها. كان يألف تلك الابتسامة المعتذرة والمتوترة. وأسرع خلفها تلقائيا. وحينما بدأ بالجري نظر من فوق كتفه إلى الخليج المهتاج، وطيلة الصباح وهو يلعب على الشاطئ الآمن كان يفكر بها.
في الصباح التالي، حينما حان أجل السباحة الروتينية وحمام الشمس، قالت أمه:" هل سئمت من الشاطئ العادي يا جيري؟. هل تريد أن نذهب إلى مكان آخر".
قال بسرعة مبتسما لها ومجيبا على البادرة العفوية - وبروح فارس: “آه، لا". ثم وهو يسير على الممشى برفقتها، اعترف بأعلى صوته: “أريد أن أذهب وألقي نظرة على تلك الصخور هناك". فكرت قليلا. كان مكانا هائجا، ولا يوجد أحد هناك، ولكنها قالت: “طبعا يا جيري. بعد أن تستجم تعال إلى الشاطئ الكبير. أو اذهب مباشرة إلى الفيلا، إن كنت ترغب بذلك". وابتعدت عنه، ولاحظ احمرار ذراعها العاري قليلا من شمس الأمس، وهو يتأرجح. وتقريبا أسرع وراءها، لأنه لم يقبل فكرة أن تبقى وحيدة، ولكنه لم يفعل. وكانت تعتقد طبعا أنها كبيرة وبالغة وستكون بمأمن بدوني. هل أقيده كثيرا بجواري؟ لا يجب أن يشعر أنه عليه أن يكون معي. علي أن أحذر.
فهو طفل فقط، بلغ الحادية عشرة من عمره. وهي أرملة. وقررت أن لا تكون متملكة ولا مهملة. وتابعت وهي قلقة إلى الشاطئ. أما جيري، وما أن اطمأن أن أمه احتلت مكانها على الشاطئ، بدأ بالهبوط على المنحدر باتجاه الخليج. ومن مكانه، في الأعلى بين الصخور البنية المحمرة، انتبه لمشهد أخضر مزرق زاحف يتخلله لون أبيض. وكلما انحدر، شاهد أنه ينتشر بين صخور صغيرة وفي شقوق بين صخور حادة وخشنة. وكان السطح المترجرج والرقيق يبدي بقعا زرقاء داكنة ووردية. وأخيرا وهو ينزلق ويرتطم على طول آخر بضع ياردات، شاهد حدا أبيض زاحفا وحركة ضحلة وبراقة للماء الذي يغمر الرمل الأبيض، ووراء ذلك، لون أزرق متماسك وثقيل. أسرع جريا إلى الماء وبدأ يسبح. كان سباحا ماهرا. قفز بسرعة فوق الرمل البراق، مرورا بمنطقة متوسطة ترتمي فيها الصخور تحت السطح مثل وحوش باهتة اللون، ثم وجد نفسه في البحر الحقيقي - بحر دافئ حيث صدمت أطرافه تيارات باردة وغير منتظمة من المياه العميقة. وحينما ابتعد جدا وأصبح بإمكانه أن ينظر إلى الخليج الصغير والشقوق التي كانت بينه وبين الشاطئ، صعد على سطح الطوف وبحث عن أمه. ها هي. خط أصفر تحت مظلة تبدو مثل قطعة من قشور البرتقال. عاد سباحة إلى الشاطئ، وارتاح لأنها هناك، ولكنها وحيدة تماما.
في طرف الرأس الذي يحدد طرف الخليج البعيد ويفصله عن الحيد تجد صخورا مشتتة ومتباعدة. وفوقها، بعض الصبيان ينزعون ثيابهم. أتوا جريا وعراة إلى الصخور. سبح الولد الإنكليزي نحوهم، ولكنه احتفظ بمسافة تبلغ رمية حجر. كانوا من ذلك الساحل، وكلهم احترقوا بلون أسمر خالص ويتكلمون لغة لا يفهمها. وليكون معهم، ومنهم، بذل جهده بكل جسده وبمهارة. سبح مقتربا، التفتوا وراقبوه بعيون سود وضيقة وحذرة. ثم ابتسم له أحدهم مع تلويحة بيده. وهذا يكفي. استغرق دقيقة ليصبح معهم ويكون على الصخور بجانبهم، وهو يبتسم باستسلام وقلق ويأس. حيوه بصياح مبتهج، ولكنه استمر على قلقه، وابتسامته المرتبكة، وأدركوا أنه غريب شرد عن شاطئه، ولذلك أهملوه. ولكنه كان سعيدا. وها هو برفقتهم. عادوا للغطس، مجددا، وألقوا أنفسهم من نقطة عالية إلى حفرة زرقاء من البحر كانت بين صخور جرداء مدببة. بعد الغطس والصعود، سبحوا في المنطقة، ثم استلقوا على البر، بانتظار دورهم بالغطس من جديد. كانوا أولادا كبارا - بنظر جيري هم رجال. غطس، وراقبوه، وبعد أن سبح وأخذ مكانه، أفسحوا له مجالا. وشعر أنه مقبول بينهم فغطس مجددا، وبحذر، فخورا بنفسه. وسريعا ما وقف أكبر الصبية، وألقى نفسه في الماء، ولم يخرج. وقف الآخرون بتأهب، يراقبون ما جرى. انتظر جيري ظهور الشعر البني المسترسل ثم صاح صيحة تحذير، نظروا إليه ببلادة وعادوا للنظر بالماء. بعد فترة طويلة، خرج الصبي من الطرف الآخر للصخرة السوداء الكبيرة، وأطلق سراح أنفاسه من رئتيه بشهقة قوية مع صيحة انتصار. وفورا غطس البقية. في لحظة كان الصباح يبدو مشغولا بالأولاد المشاغبين، في اللحظة التالية خلا الهواء وسطح الماء منهم. ولكن أمكن رؤية أشكال معتمة وزرقاء وثقيلة تجتمع وتتحرك. غطس جيري. وتجاوز مدرسة سباحي الغطس، وشاهد جدارا صخريا أسود يلوح له، لمسه، وخرج على السطح فورا، من مكان كان الحاجز فيه منخفضا وترى ما وراءه. لم يشاهد أحدا. تحته في الماء، اختفت أشكال السباحين الباهتة. ثم خرج صبي وتبعه آخر، وذلك من الطرف الآخر للحاجز الصخري، وأدرك أنهم مروا من خلال ثغرة أو فجوة فيه. غاص مجددا. لم يمكنه رؤية شيء في لدغة الماء المالح، سوى الصخرة السوداء. حينما خرج كان الصبية جميعا على صخرة الغطس، باستعداد لمحاولة مثيرة جديدة. صاح مرعوبا من احتمال الفشل وبالإنكليزية: "انظروا لي. انظروا". وبدأ يرش ويركل الماء مثل كلب أحمق. نظروا إلى الأسفل مقطبين بوجوم. كان يعرف التقطيبة. في لحظات الخسارة، حينما يضغط لكسب اهتمام أمه، يكون مهتما بارتباك ووجوم سوف يثمر لديها. ومع خزيه المتصاعد شعر بالتكشيرة المتوسلة المطبوعة على وجهه مثل ندبة لا يمكن إزالتها، نظر إلى حلقة الأولاد السمر الكبار على الصخرة وصاح: “سادتي مرحبا. شكرا وداعا. يا سادتي". ثم وضع أصابعه حول أذنيه وحركها فتدفق الماء إلى فمه، شهق وغطس وصعد. الصخرة التي كانت مثقلة بالصبيان، بدت لاحقا كأنها تراجعت وخرجت من الماء بعد زوال وزن الأولاد. وهؤلاء بدأوا بالطيران من جانبه نحو الأسفل للسقوط في الماء، وامتلأ الهواء بالأجسام التي تهوي. ثم فرغت الصخرة وهي تحت نور الشمس. عد: واحد، اثنان، ثلاثة... وتملكه الرعب عند الخمسين. لا بد أنهم جميعا غرقوا تحته، في كهوف الصخرة المائية. عند العدد مائة أمعن النظر بالتلال الفارغة، متسائلا إن كان عليه طلب النجدة. سارع بالعد، لاستعجالهم، ليعودوا إلى السطح بسرعة، وليهبطوا بسرعة - أي شيء ما عدا رعب العد في الفراغ الأزرق لهذا الصباح. ثم عند الرقم مائة، مائة وستون امتلأ الماء وراء الصخرة بالصبيان الذين ينفخون مثل حيتان بنية. فقد سبحوا عائدين إلى الشاطئ دون أن يمنحوه نظرة واحدة. تسلق صخرة الغطس وجلس عليها، وشعر بالخشونة والحرارة تحت فخذيه. جمع الأولاد ملابسهم وهربوا على طول الشاطئ إلى حيد آخر. غادروا ليبتعدوا عنه. بكى ويداه على عينيه. لم يكن هناك أحد يراه، وكان يبكي لنفسه. وبدا له أن وقتا طويلا انقضى، فسبح لمكان يرى منه أمه. نعم، هي بمكانها، بقعة صفراء تحت مظلة برتقالية. سبح عائدا إلى الصخرة الكبيرة، وتسلقها، وغطس في البركة الزرقاء بين الجلاميد الساخطة ذات الأنياب. وغاص، حتى لمس جدار الصخرة من جديد. لكن آلم الملح عينيه جدا وأعماه. صعد إلى السطح، وسبح إلى الشاطئ، وعاد إلى الفيلا بانتظار أمه. وسريعا ما جاءت ببطء عبر الممر، وهي تؤرجح حقيبتها المخططة، والذراع العارية والمحمرة تتدلى بجانبها. قال بشيء من التحدي والعناد: “أريد نظارات سباحة".
منحته نظرة استفهام صبورة وهي تقول بلا اهتمام: “حسنا، طبعا، يا عزيزي".
ولكن الآن، الآن، الآن. عليه أن يحصل عليها في هذه الدقيقة. وليس فيما بعد. وبدأ بالإلحاح والشغب حتى رافقته إلى الدكان. وما أن اشترى النظارة، حتى اختطفها من يدها، كأنها توشك أن تحتفظ بها لنفسها، وغادر، وهو يجري على المنحدر فوق الممر الذي يقود إلى الخليج. سبح جيري نحو الحاجز الكبير الصخري، ووضع النظارة، وغطس. ولكن تأثير الصدمة بالماء كسر الجزء المطاطي المجوف، فانفصلت عنه نظارته. وفهم أنه يجب أن يسبح من سطح الماء إلى الأسفل نحو قاع الصخرة. ربط النظارة بإحكام وقوة، وملأ رئتيه بالهواء، وجعل وجهه للأسفل نحو الماء. والآن يمكنه أن يرى. كأنه يمتلك عيونا من نوع آخر- عيون السمكة التي ترى كل شيء واضحا ودقيقا ويتلامح لك في الماء الساطع. تحته، بست أو سبع أقدام، أرض نظيفة تماما، تلمع برمل أبيض، وتشتتها بعزم وإصرار المويجات والمد. وجاء هناك شكلان مخضران، مثل قطع طويلة مستديرة من الخشب أو الألواح. كانت سمكتين. رآهما أنف الواحدة باتجاه الثانية. وكانتا ثابتتين وبلا حراك وتتحركان إلى الأمام، وتناوران، وتعودان مجددا. كأنها رقصة في الماء. وفوقهما بسبع إنشات كان الماء يبرق كأن تطريزات من القصب تتسلل وتتساقط. سمك أيضا - ملايين الأسماك الدقيقة، بطول ظفر الأصبع - وكانت تسبح في الماء، وخلال دقيقة أمكنه أن يشعر بعدد غير مقدر من لمساتها وهي تصطدم بأطرافه. كأنه يسبح بين رقائق الفضة. والصخرة الكبيرة التي مر منها الصبيان كانت منتصبة أمامه خارجة من الرمل الأبيض - ولكنها مسودة ومشرشرة قليلا بأعشاب مخضرة. ولأنه لم يشاهد فجوة فيها سبح عائدا إلى قاعدتها. ارتفع عدة مرات، وأخذ أنفاسا ملأت صدره، ثم عاد للغطس. وعدة مرات جاهد ليتمسك بسطح الصخرة، وليتحسسها، وتقريبا عانقها بدافع الحاجة الماسة للبحث عن مدخل، ثم في إحدى المرات، وهو ملتصق بالجدار الأسود، برزت ركبتاه ودفع قدمه إلى الأمام فلم يجد عائقا. وهكذا وجد الفوهة. تمسك بالسطح، وتعثرت يداه بين الحجارة التي تبعثرت على الحاجز الحجري حتى وجد حجرة كبيرة، وبعد أن أصبحت في ذراعه، أرخى نفسه نحو الطرف الآخر من الصخرة. وتساقط واضعا ثقله مباشرة على الأرض الرملية. تمسك بقوة بحجرة المرساة، واستلقى على جنبه ونظر من تحت الرف الأسود نحو المكان الذي دخلته قدماه. فأمكنه أن يرى الحفرة. كان فراغا غير منتظم ومعتم. ولم يرى ماذا في أعماقه. أفلت المرساة، وتمسك بيديه بحواف الحفرة، وحاول أن يدفع نفسه فيها. دخل برأسه، ولكن علق كتفاه، فحركهما جانبيا، وهكذا أصبح في الداخل بمستوى خصره لم يشاهد شيئا أمامه. ولكن شيئا طريا ومتماسكا لمس فمه، وشاهد سحلية تتحرك على صخرة مخضرة فغمره الرعب. فكر بالأخطبوطات، والأعشاب المتلاصقة. ابتعد إلى الخلف وفي ابتعاده لمح كتلة من الأعشاب غير المؤذية وهي تتدفق في فوهة النفق. ولكنه اكتفى بذلك. بلغ الضوء، وسبح إلى الشاطئ، واستلقى على صخرة الغطس. نظر إلى بئر المياه الزرقاء. كان عليه أن يجد طريقه عبر الكهف، أو الحفرة، أو النفق، وأن يمر من الطرف الآخر. وفكر أنه عليه أولا أن يتحكم بتنفسه. سمح لنفسه أن يهبط إلى الماء وحجرة كبيرة بيديه، ليتمكن من الاستلقاء دون جهد في قاع البحر. وبدأ العد. واحد، اثنان، ثلاثة. عد بإصرار. وأمكنه سماع صوت دمه في صدره. واحد وخمسون، اثنان وخمسون... آلمه صدره. أفلت الصخرة وصعد إلى الهواء الطلق. ولاحظ أن الشمس تغرب. أسرع إلى الفيلا ووجد أمه تتناول عشاءها. قالت له فقط: “هل استمتعت بوقتك؟". فقال لها: “نعم". حلم الولد طيلة الليل بالكهف الصخري المغمور بالماء، وما أن انتهى الإفطار حتى ذهب إلى الخليج. في تلك الليلة، نزف أنفه كثيرا. فقد استمر تحت الماء لعدة ساعات، يتدرب على التحكم بأنفاسه، والآن يشعر أنه ضعيف ويعاني من الدوار. قالت له أمه: “لو كنت مكانك ما أفرطت بالحركة يا عزيزي".
في ذلك اليوم والذي يليه، تمرن جيري برئتيه، كما لو أن كل شيء، وأن كل حياته، وكل ما سيأتي، يعتمد عليهما. في الليل عاود أنفه النزيف، وأصرت أمه أن يرافقها في اليوم اللاحق. وعذبه أن يهدر يوما من أيام التمرين الذاتي الحريص، ولكنه بقي معها على ذلك الشاطئ، والذي يبدو له مكانا للصغار، مكانا تستلقي أمه فيه آمنة تحت الشمس. ولكنه قطعا ليس شاطئه. لم يطلب الإذن بزيارة شاطئه في اليوم التالي. وذهب قبل أن تفكر أمه بمشكلة الخطأ والصواب المعقدة. واكتشف أن استراحة يوم حسنت قدرته بمقدار عشر أعداد. وشق الصبيان طريقهم وهو عند العدد مائة وستون. كان يعد بسرعة، وبخوف. وإذا حاول ربما يمكنه الآن أن يعبر من النفق الطويل، ولكنه لم يعزم على رأي بعد. وجعله إصرار فضولي وغير طفولي يتحكم باندفاعته وينتظر. وفي نفس الوقت استلقى تحت الماء على الرمل الأبيض الذي يتخلله حجارة أتى بها من الفضاء العلوي، وفكر بمدخل النفق. كان يعرف كل بقعة وزاوية منه، بمقدار ما سمحت له به رؤيته. وكأنه شعر بأطرافه المدببة وهي تلمس كتفيه. جلس قرب الساعة في الفيلا، حينما كانت أمه غير قريبة منه، وتأكد من التوقيت. كان مندهشا ثم فخورا حين وجد أنه يستطيع إمساك تنفسه دون جهد لدقيقتين. كلمة "دقيقتان" كما تثبت الساعة، قربت منه المغامرة الضرورية. بعد أربع أيام، وفي الصباح قالت له أمه عرضا إنهما عائدان إلى البيت. وقرر أن يفعلها في اليوم السابق للمغادرة، قال لنفسه بثقة تامة: سأفعلها ولو تسببت بقتلي. ولكن قبل يومين من المغادرة - وهو يوم يعتز به لأنه رفع عده مقدار خمس عشرة نقطة - نزف أنفه بغزارة وأصابه الدوار وتوجب عليه أن ينهار على الصخرة الكبيرة مثل كومة أعشاب مائية، وراقب الدم السميك والأحمر يتدفق على الصخرة ويسيل ببطء نحو البحر. أصابه الرعب. افترض أن الدوار غلبه في النفق؟ افترض أنه مات أو علق هناك؟ افترض - أن رأسه دار تحت الشمس الحارة واستسلم تقريبا. وعزم أن يعود إلى البيت ويستلقي، وربما في الصيف القادم حينما يزيد عمره عاما - سيمر من الثغرة. ولكن حتى بعد أن عقد العزم وقرر، أو اعتقد أنه صمم على قرار ما، وجد نفسه جالسا على الصخرة وينظر إلى الأسفل، نحو الماء، وأدرك أنه الآن، وفي هذه الدقيقة، وحينما امتنع أنفه عن النزيف، وأصبح رأسه محتقنا وينبض - هي اللحظة التي يجب أن يجرب بها. وإن لم يفعلها الآن، لن يفعلها مطلقا. كان مرعوبا ويرتجف من احتمال أنه لن يذهب، وكان مرعوبا يرتعش أمام النفق الطويل جدا الموجود تحت الصخرة، وتحت البحر. وحتى في فسحة الشمس المضيئة بدا الحاجز الصخري عريضا جدا وثقيلا جدا، وأطنان من الصخور تسد المكان الذي سيذهب إليه. وإن مات هناك، سيبقى هناك حتى في يوم ما - وربما ليس قبل العام التالي - سيسبح إليه الأولاد الكبار ويكتشفون أنه مسدود. وضع نظارته، وأحكم ربطها، واختبر التجويف المطاطي. كانت يداه ترتعشان. ثم اختار أكبر حجرة يمكنه حملها وانزلق من طرف الصخرة حتى احتوى الماء البارد نصفه وبقي نصفه الآخر في الشمس الحارة. نظر مرة إلى السماء الفارغة، وملأ رئتيه بالهواء مرة، مرتين، ثم غاص بسرعة إلى القاع مع الحجرة. أفلتها وبدأ العد. تمسك بأطراف الثغرة بيديه وتسلل إلى داخلها، وهو يهز كتفيه جانبيا، فقد تذكر ضرورة ذلك، وكان يدفع نفسه إلى الأمام بركلات من قدميه. وسرعان ما أصبح كله في الداخل. كان في فجوة صخرية صغيرة يملؤها ماء مصفر رمادي. دفعه الماء إلى أعلى نحو السقف. وكان السقف حادا فآلم ظهره. جر نفسه إلى الأمام بيديه - بسرعة، ثم أسرع - واستعمل ساقيه مثل عتلات. ارتطم رأسه بشيء، وأصابه ألم حاد بالدوخة. خمسون، واحد وخمسون، اثنان وخمسون.. لم يكن معه ضوء، وكان الماء يضغط مع وزن الصخرة. واحد وسبعون، اثنان وسبعون - لم يشعر بالإجهاد في رئتيه. وشعر كأنه بالون يطير، كانت رئتاه خفيفتين وبسيطتين، ولكن كان رأسه ينبض.
تعرض للضغط باستمرار على السقف الحاد، وكان مخاطيا وحادا أيضا. فكر مجددا بالأخطبوط. وتساءل إذا كان في النفق أعشاب يمكن أن تعيقه. ركل ركلة مرعوبة وغريزية نحو الأمام، ومد رأسه، وسبح. تحركت يداه، وقدماه بحرية، كما لو أنه في ماء سائل. لا بد أن الثقب يتسع، وتوقع أنه عليه أن يسبح بسرعة، وخشي من الاصطدام برأسه إذا ضاقت الثغرة.
مائة. مائة وواحد.. شحب الماء. وامتلأ بمشاعر العزة. وبدأت رئتاه تؤلمانه. ضربات إضافية ويكون في الخارج. أسرع بالعد. وصل إلى مائة وخمس عشرة، ثم بعد وقت طويل، مائة وخمس عشرة مجددا. أصبح الماء، جوهرة صافية - اللون الأخضر حوله. ثم شاهد، فوق رأسه، شقا يتخلل كل الصخرة. ومر منه نور الشمس، ليكشف صخرة النفق السوداء النظيفة، وصدفة بلح بحر، ثم عتمات. وصل لنهاية ما يمكن أن يفعله. نظر إلى الشق كما لو أنه مملوء بالهواء لا الماء، وكأنه يستطيع أن يضع فيه فمه ليستنشق الهواء. مائة وخمس عشرة، سمع نفسه يقول في داخل رأسه - ولكنه ذكر الرقم من فترة طويلة. عليه أن يدخل في غمار العتمة، أو سيغرق. انتفخ رأسه، وأزت رئتاه. مائة وخمس عشرة، تردد الرقم مائة وخمس عشرة في رأسه، وتمسك كيفما اتفق بالصخور في العتمة، وجر نفسه ألى الأمام ليترك الفضاء الضيق المضاء بالماء المشمس وراءه. وشعر أنه يحتضر. لم يعد بوعيه. وكافح في الظلام بين فترات الإغماء. ألم متورم لا يطاق احتل رأسه، ثم انفجر الألم بضوء أخضر. مد يديه إلى الأمام، ولم يلمس شيئا: أما قدماه فقد ركلتا للخلف، ودفعتاه إلى الخارج ليصبح في البحر اللامحدود. صعد إلى السطح، ورفع وجهه إلى الهواء. كان يشهق كالسمكة. وشعر أنه قد يغطس ويغرق. ولم يتمكن من السباحة والعودة إلى الصخرة. ثم قبض عليها وجر نفسه إلى الأعلى ووضع وجهه عليها إلى الأسفل، وهو يشهق. ولم يشاهد أي شيء سوى ظلام متكتل يتخلله عروق حمر. فكر: لا بد أن عينيه انفجرتا. وهما محتقنتان بالدم الآن. تخلى عن نظارته فسقطت في البحر جلطة دموية. كان أنفه ينزف، ولوث الدم النظارة. سكب حفنة ماء من البحر المالح البارد ليغسل وجهه، ولم يعرف هل ذاق الدم أم ماء الملح. بعد فترة، هدأ قلبه، واتضحت عيناه، فجلس. أمكنه رؤية الأولاد المحليين يغطسون ويلهون على مسافة نصف ميل. لم يكن يرغب بهم. ولم يكن يريد شيئا سوى العودة إلى البيت والاستلقاء. بعد قليل سبح جيري إلى الشاطئ وتسلق ببطء درب الفيلا. تداعى على سريره، ونام. واستيقظ على صوت في الخارج يأتي من نهاية الدرب. كانت أمه عائدة. أسرع إلى الحمام، كي لا ترى وجهه المغطى بالدم، أو آثار الدموع. وغادر الحمام وقابلها وهي تأتي إلى الفيلا مبتسمة، وعيناها مشرقتان. سألته وهي تضع يدها على كتفه المسمر لحظة: “هل استمتعت بصباحك؟".
قال: “آه، نعم، شكرا لك".
قالت: “تبدو شاحبا قليلا". ثم بصوت قلق وحاد: “كيف ضربت رأسك؟".
أخبرها: “آه، ارتطمت بشيء فقط".
فحصته عن مقربة كان مجهدا. وعيناه تلمعان. قلقت عليه. ثم قالت لنفسها: آه، لا تبالغي. لا شيء حدث له. وهو يسبح كالسمك. جلسا لتناول الغداء معا.
قال: “أمي. يمكنني أن أبقى تحت الماء دقيقتين - ثلاث دقائق على الأقل". كان كلامه عفويا.
قالت: “حقا يا عزيزي. حسنا. لا أفضل أن أبالغ بالأمر. ولا أرى أنه عليك أن تسبح اليوم".
كانت جاهزة لمعركة الرغبات، ولكنه استسلم فورا. ولم يعد أي أهمية بنظره للذهاب إلى الخليج.
***
..........................
دوريس ليسنغ Doris Lessing : روائية بريطانية حائزة على جائزة نوبل في الآداب.