تجديد وتنوير
التعصُّب الثقافي (من الفسيخ إلى الشَّربات)!
كنتُ توقَّفتُ في معارضةٍ شِعريَّةٍ نقديَّةٍ أمام بعض ما جاء في بائيَّة (أبي تمَّام) الشهيرة(1)، التي يسمِّيها بعض المعجبين "ملحمة". وهي كذلك بالفعل، لا بمعنى الجِنس الشِّعريِّ المعروف، ولكن بمعنَى ما تضمَّنته من عُنفٍ لُغويٍّ ضِدَّ المرأة، مسبيَّةً، منتهكةَ الإنسانيَّة، باسم الإسلام والعروبة والثأر والنَّصر المبين! ونحن عادةً لا نقرأ الأبعاد الثقافيَّة والحضاريَّة وراء النصوص، ولا نلتفت إلى مقدار البشاعات الملبَّسة بغُلالات البطولة القوميَّة أو الدِّينيَّة؛ فإذا هي تطغَى العواطفُ الهمجيَّةُ على العقلانيَّة، والحماسيَّاتُ العنصريَّةُ على الحساسيَّات النقديَّة. لقد جاء في قصيدة أبي تمَّام تمجيد السَّبي للنساء، بل جعل ذلك غاية (المعتصم) وجيشه من الحملة على (عمُّوريَّة)، 223هـ= 838م، وهو ما لا مسوِّغ له، مهما كان من فِعل الإمبراطور البيزنطي (ثيوفيلوس أو توفلس، -842م) وأتباعه، وإلَّا تساوت القِيَم والرؤوس في جاهليَّاتها، وإنَّما هي فُرَص القَنصِ تدور في سباسبها:
كَــــمْ نِـيْــــلَ تَحْـــتَ سَـــناهــــا مِنْ سَــنا قَمَــرٍ ... وتَحْتَ عارِضِها مِنْ عارِضٍ شَنِـبِ
كَمْ كـانَ في قَطْــــعِ أَسْبـــابِ الرِّقــــــابِ بِهــــا ... إِلى الـمــُـــخَـــدَّرَةِ العَــذْراءِ مِـنْ سَــــبَــــبِ
كَـمْ أَحْـرَزَتْ قُضُـــبُ الهِنْـدِيِّ مُصْلَتَـــــةً ... تَـهْـــــتَـزُّ مِنْ قُـضُـــــــبٍ تَـهْـــــــتَـزُّ في كُــــثـُــبِ
بِـيْضٌ إِذا انتُضِيَتْ مِنْ حُجْبـِها رَجَعَتْ ... أَحَـقَّ بِالبِـيْـضِ أَتْرابـًا مِنَ الحُجُـبِ
فما القول في هذا الفتح العظيم لنَـيْلِ أقمار النِّساء، كما يُصوِّر أبو تمَّام، لا فُضَّ فوه، مغريًا غرائز جماهيره الذُّكوريَّة بأوصافٍ جسديةٍ حسيَّة "ملحميَّة"؟!
لو جاء هذا في غَزَلٍ، لعُدَّ شِعرًا ماجنًا فاحشًا، ولكان للمدافعين عن سفاهات الشاعر الحربيَّة مواقف أخرى. وهكذا يذهب شاعرنا الفحل إلى أنَّ قتل الرجال كان سببًا في الوصول إلى العذارَى في خدورهن، وإلى انتهاك أعراضهن، مقدِّمًا خلال ذلك معرضًا جسديًّا، يذكِّر بأسواق النخاسة الداعشيَّة، وما ذاك منَّا ببعيد! ها هي القصيدة شاهدةٌ على نفسها، وعلى ثقافتها المريضة. فماذا نقول؟! وبِمَ نُغطِّي شمس سيوفها التمَّاميَّة؟!
- لا، لا ينبغي أن تنتقد هذا الخطاب!
...
وهذا مؤشِّرٌ واضحٌ على أنَّنا نُقدِّس الآباء والأجداد، ونَخِرُّ على نصوصهم صُمًّا وَعُمْيَانًا، وبُكمًا أيضًا، على طريقة أجدادنا من كفَّار قريش! نرفض انتقادها، مهما كانت واضحةً فاضحةً في نُبُوِّها عن الذَّوق الدِّينيِّ والحضاريِّ والإنساني. وهنا يأتيك مَن يَفِحُّ في وجهك:
- كيف تنتقد حماسةَ (أبي تمَّام)- قدَّس الله شِعره!- لحملة (المعتصم) على الرُّوم؟
وهذا سؤالٌ ينفث الكذب والمغالطة من سجائر مغشوشة! يدلُّ- كما رأينا في مقالٍ سابق- على أن المدافعين عن التُّراث بهذه الحماسة، وعن أصنامه بتلك الاستماتة، منافحين عن صريح خطابٍ غير سَوِيٍّ فيه، هم أنفسهم في حاجةٍ إلى علاجٍ قرائيٍّ قبل دراسة التراث أو الحِوار معه. والأغرب أن تكون تلك البطولة الدفاعيَّة عن البطولة البربريَّة آتية من قِبَل المرأة، التي كثيرًا ما كان الخطاب الذي تُدافع عنه لا يتوانَى في قتلها، أو التشجيع على وأدها، وانتهاك إنسانيَّتها، عربيَّة كانت أو غير عربيَّة. ولا تفسير لهذه الحُمَّى الحضاريَّة إلَّا أحد أمورٍ ثلاثة، كما أشرنا في مقالٍ سابق: إمَّا أنَّنا لا نقرأ تراثنا، وإمَّا أنَّنا نقرؤه ولا نفهمه، وإمَّا أنَّنا نقرؤه ونفهمه، لكنَّنا لا ننظر منه إلًّا إلى ما ننتقي ونهوَى، على منهاج "ويلٌ للمصلِّين..."، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى لا ننظر منه إلًّا إلى ما لا يتصادم مع تقديسنا المطلَق للسَّلف، الصالح والطالح معًا، على منهاج "إنَّا وجدنا آباءنا...".
ولقد يأتيك آخَر من آخِر الصفِّ صارخًا، إلى جانب صرخة (أبي تمَّام):
- ربما خفي على الشاعر أن الدُّوَل العُظمَى اليوم تفعل بالشعوب الضعيفة أضعاف ما فعل العَرَب؛ فهم يقتلون بالآلاف ويجوِّعون الملايين ويدمِّرون الحضارات!
موقنًا صاحبنا أنه بهذا التهافت في الاحتجاج قد أقنعك، بل قد أفحمك، ولاتَ حينَ مناص! فلا ينبغي عند صاحب هذا الخطاب أن تنتقد التراث، وإلَّا فأنت تنتقد العَرَب والمسلمين كافَّة، ولا أن تنتقد بعض ما وَرَدَ في كتب التاريخ، وإلَّا فأنت عدوٌّ لتاريخ الأُمَّة! ثمَّ بعد المغالطة تلك ينتقل بك إلى أرجوحة التبرير، محتجًّا بأنَّ الأُمم الأخرى تفعل وتفعل وتفعل، فلماذا تنتقد أن نفعل نحن كفعلهم؟ وهذا بابٌ شعبيٌّ عتيق، ينزع إلى تبرير الخطأ بالخطأ. وإلَّا لو كان ثمَّة منطقٌ سليمٌ، لكان: ما دُمْتَ تنتقد ما يفعله الآخَر بك وبالشعوب المستضعفة، فلماذا لا تنتقد نفسك وقومك وتاريخك أوَّلًا، لكيلا تفعل مثل تلك الأفعال المشينة، ولا تَسُنُّها للناس، بالقول أو الفعل أو الإقرار، بحالٍ من الأحوال؟ وإلَّا صدقَ عليك بيت (أبي الأسود الدؤلي):
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأتيَ مِثلَهُ ... عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتُ عَظيمُ!
ومنطق "مَن يَنْهَى عَن خُلُقٍ ويَأتي مِثلَهُ " هو منطق الإرهابيِّين المعاصرين وقاعدتهم، ومنطق وَرَثَتهم فِكريًّا. فهم- وإنْ لم يكونوا بالضرورة من أتباع القاعدة عمليًّا، بأحزمة الديناميت الناسفة- أتباعهم نظريًّا بأحزمة الفِكر الناسفة، الأكثر خطورة. هذا المنطق يقول، ببلاهة:
- هم يفعلون، وينبغي أن نفعل مثلَهم، والبادئ أظلم!
إن الأزمة الثقافيَّة التاريخيَّة، إذن، تبدو أخطر بكثير من الأفعال الإرهابيَّة الطارئة، التي لا تمثِّل سِوَى أعراضٍ لأمراض مزمنة، متغلغلة في النسيج الثقافي، ومن ثَمَّ في النفوس والعقول، وما برح بيننا مَن يُحامي عنها، ويُحرِّم انتقادها، أو المساس برموزها وأعلامها. وهذا يؤكِّد الكَمَهَ الثقافيَّ المطبق، الذي لن ينقشع دون مراجعاتٍ عِلْميَّة، متجرِّدةٍ من العواطف العشائريَّة، والتبعيَّات التاريخيَّة، وجوقات الاصطفاف والترديد؛ مراجعات جديدة وجادَّة، تسمِّي الأشياء بأسمائها، بلا غمغمةٍ ولا مداجاة، فتَقبل الصواب لصوابه، وتردُّ الخطأ لخطئه، كائنًا ما كان مصدره، وَفْقَ معايير إنسانيَّة، من الحقِّ والخير والجمال، لا بمعايير التعصُّب والهوَى والقوميَّة والإديولوجيَّة وتقديس التاريخ والتراث.
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
...................................
(1) انظر: صحيفة "الجزيرة"، السبت 19 ربيع الأوَّل 1441هـ، ص16:
http://www.al-jazirah.com/2019/20191116/cm48.htm