تجديد وتنوير
حوار الأديان.. كيف نفهمه؟
هل يمكن أن يعيش الإنسان يغير دين؟، التجربة التاريخية تقول لا !، فقد حاول الإنسان أن يُحل العلم محل الدين وفشل، حاول أن يستغني عن ربه وفشل!، حاول أن ينكر وجوده وفشل! .. ما زالت الروح الإنسانية في قلق وتعب تبحث عن ركناً ركيناً لراحتها وهو الدين، إلا أن تعدد الأديان وتنوعها واختلافها ما يجعل بعض الناس في حيرة: أيهما الدين الحق؟، ومن الطبيعي أن الأديان تحتكر الحقيقة وتحتكر النجاة وترمي الآخرين بالكفر، فما العمل؟..
البعض يري الصراع حلاً !، من ينتصر يسود !، والدنيا لمن غلب !، البعض يري المقارنة والمناظرة والسجال صراع دون دم؛ فالبعض يضع الحجج والبراهين والحيل البلاغية والمنطق، والبعض يري الحوار- أي حوار الأديان ! .. لا من أجل تغيير المؤمن لدينه، بل لأجل مزيد من وعي المؤمنين بأديانهم، مزيد من القبول، والتفهم بغيرهم .. مزيد من التعايش، من التفاهم لا العنف، من المودة لا الكراهية، فكيف يتحاور أصحاب الأديان المختلفة؟ ولماذا يخوضون هذه المغامرة وسط مزايدات المتطرفين من مختلف الأطراف؟ وهل هو حوار مجدي وفعال؟ أم أنه محاولات لتأجيل المواجهة؟ وهل يملك كل طرف ما يؤهله لخوض حوار ندي أم أن طرفا يطغي علي الآخر؟ وما هو ماضي هذا الحوار؟ وتاريخه وما حاضره؟ والمهم ما مستقبله؟
في هذا المقال نحاول أن نجيب علي تلك التساؤلات، حيث يمكن القول بأنه: حين هاجر المسلمون إلي الحبشة هرباً من البطش القرشي، أرسل القرشيون خلفهم من يأتي بهم، ووقف الفريقان يتناظران بالحجة أمام النجاشي (ملك الحبشة) وكان مسيحياً، فحاول كفار مكة أن يكيدوا للمسلمين وادعوا كذباً أن المسلمين يسيئون للمسيحية، فقرأ جعفر بن أبي طالب علي ملك الأحباش آيات القرآن الكريم التي تتحدث المسيح وأمه مريم ( سيدة نساء العالمين) فأنصت النجاشي لما يتلي، ثم قال: إن هذا (أي القرآن) هو الذي جاء به عيسي (أي الإنجيل) ليخرج من مشكاة واحدة (أي من مصدر واحد) ..
أدرك النجاشي أن الرسالة واحدة، وأن المصدر واحد، وإن اختلفت المذاهب وتنوعت التشريعات، والمتأمل للتشريعات الإلهية في الأديان الإبراهيمية يجدها واحدة في جوهرها وغاياتها ومقاصدها، لكنها تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال والمقامات، وقد تبادل أصحاب الشرائع السماوية التأثير في بعضهم البعض ؛ تجد ذلك في التصوف والرهبنة، كما تجده في التأثير الإسلامي الواضح في صياغات التلمود وبعض التشريعات اليهودية .
وقد ساهم هذا التفاعل والتأثير والتأثر في تعزيز التعايش السلمي بين أصحاب الديانات السماوية، وعاش اليهود والمسيحيون والصابئة قروناً طويلة في ظل الحكم الإسلامي، وتركوا من الآثار الفكرية والأدبية الدينية وكتب النقاش والحوار والتناظر، بل والاشتباك الفكري مع المسلمين ما سجله التراث الإسلامي واحتفي به، وأعاد استكشاف الآخر من خلاله، بل واكتشاف نفسه وعقيدته وذاته الدينية والحضارية .
وقد جمع المستشرق الألماني "مورتس استنشيندر" معلومات عن هذه المخطوطات وأماكن وجودها في المكتبات وتعريفا بمحتوياتها ومؤلفيها وجميعها أُلفت باللغة العربية في العصور الإسلامية المبكرة، وفي مرحلة النهضة الفكرية والتدوين، ومن أمثلتها: أصول الدين وشفاء المؤمنين لدانيال بن الحطاب السرياني في القرن الرابع عشر الميلادي، ويرد فيه علي الانتقادات الإسلامية للمسيحية، وكتب عدة تعرض حوارات وأسئلة وإجابات منها: محاولة الخليفة الأموي " عبد الملك بن مروان " مع النسطوري " إبراهيم الطبراني" .
وفي العصر الحديث راهنت بعض فلاسفة التنوير علي نهاية حقبة الأديان وانتهاء دور الدين، إلا أن التجربة أثبتت فشل رهانهم وسقطت مقولات موت الإله، وعادت الأديان والبحث عن إجابات لأسئلة الحياة الكبري لتشغل العالم الأوربي بعد أن عانت القارة العجوز ويلات الحروب والدمار، وتطلع العقلاء إلي علاقة مختلفة مع الآخر الديني والحضاري، علاقة تقوم علي اكتشاف الآخر وفهمه ومحاولة استبدال التفاعل بالصدام، التعايش بالكراهية، الحوار الديني والفكري بالصراع الدموي الصفري، وعادت فكرة حوار الأديان لتكون احدي إمارات هذا التصور، تبنتها مؤسسات ومنظمات وهيئات، ورصدت لها الميزانيات والتمويلات والدعايات، واختلفت التقديرات بين الفرقاء حول طبيعة الحوار، ومعناه، ومبناه ودلالاته الدينية والسياسية، وما إذا كان حواراً حقيقياً علي غرار سابقيه في التجربة الحضارية للمسلمين أم إعادة تدوير ذكية أنتجتها ذهنية الاستعمار .
ونعود إلي سؤالنا مباشرة: هل هناك من جدوي للحوار بين الأديان؟
اعتقد أن الحب بين الأديان قد يزحف ولكن لا يموت، وهذه حقيقة، لأن الله سبحانه وتعالي خلقنا لكي نتوحد ونعيش حالة من الحب، ولذلك أقول لكل الذين يتوحمون علي لحن التسامح ما بين الأديان لمن يتوحمون لغرس الكثير من الخناجر في خاصرة الأديان، سواء كانوا مسيحيين متطرفين أو يهود متطرفين، نقول لهم إن خيارنا أن نغرس شجرة الياسمين، مهما كانت الظروف لا يهمنا المشاريع السياسية، ولكن ما نريده الأديان، فالأديان شئ والمشاريع السياسية شئ آخر .
ولذلك إذا كان هناك أنيميا في التسامح، أو فقر دم في التعايش، فهو بسبب السياسيين، وكما يقول أنيس منصور:" السياسة فن السفالة الأنيق"، فالسياسيون هم أساس تدمير العلائق بين الأديان، وإلا ما المانع من أعيش المسيحية في قلبي، وأن يعيش المسلم في قلبي، إننا نعشق المعتدلين من هؤلاء وهؤلاء ممن يقفون مع حقوق الإنسان .
ولذلك فإنني اعتقد أن تحالف الشيطان مع مافيا الدين ومافيا السياسة هي وراء ما نعيشه من تذمر وما نعيشه من ضعف وتفكك، ولهذا فإن دورنا كرجال فكر ودين أن تُتزع الألغام المتكدسة علي الخطاب الديني، وإذا صفينا القلوب، نستطيع أن نتحرك .
ولذلك فإنني أدعوا هنا من موقع صحيفة المثقف الزاهرة إلي حزب الإنسان، لأن حزب الإنسان هو الذي يجنب هذه الخريطة من عرائس الدم .. ما الفائدة من أن تهدم الكنائس في العراق؟، أو تهدم المساجد في العراق؟، أو تهدم المآذن في سوريا؟ .. ولذلك فإنني أقول أن الضحايا ليسوا فقط من المسلمين، والمدرعة الإسرائيلية تقتل المسيحي وتقتل المسلم أيضا، وهناك العشرات والعشرات من المسيحيين ومن المسلمين ضحايا المشاريع في شارع الاحتلال وما إلي ذلك .. فهل معني هذا ألا نعيش الحب تجاه المسيحي أو تجاه الأديان السماوية الأخري .
وهنا أقول لا صراع حضارات كما قال هينتجتون، أو ولا نهاية التاريخ كما قال فوكاياما، وإنما نقول صراع التفاهات، وليس صراع الحضارات، ولذلك أقول المتطرفون هم جينات مختلفة ولكن الحمض النووي واحد، أما الذين يريدون الحفاظ علي الشخير العام لكي تعيش الأمة ضعفا وجهلا وتباعدا، فإنهم يرفضون الحوار بحجة إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية، فهؤلاء شئ، والحوار شئ، فأنا أحترم صاحب الدين، ولكن لست مسئولا بكل هؤلاء، ولذلك أقول فلتسقط نظرية أن الإسلام إرهابي أو فاشيستي، فاليمن المتطرف لا يميز بين مسلم ولا غير مسلم، فالمتطرفون يريدون القضاء علي الجميع، ولذلك أقول أيضا وتسقط مقولة " لعن الله اليهود والنصارى أحفاد القردة والخنازير"، ونقول فليحيا الحب بين الأديان، وأن أحترم المسيحية واليهودية التي تحافظ علي الخصوصية الإسلامية .
إنّ التخلص من عقدة الاختلاف هي الخطوة الأولى في كل عمل منهجي، مهما كانت مقاصده بعد ذلك. والخطوة الثانية المطلوب تحقيقها اليوم، هي التخلص من الرؤية الأحادية للحقيقة، والعقلية الكلامية برمتها، كي ننتقل إلى عصر حوار الأديان والحضارات.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط
................
حوار الأديان .. كيف نفهمه؟│قراءة ثانية (يوتيوب).
الاتجاه المعاكس- حوار الأديان (يوتيوب).
محمد الحدّاد: حوار الأديان وعقدة الاختلاف (مقال).