دراسات وبحوث
خليل الحمداني: الأوليغارشية العراقية ومنظومة حقوق الإنسان

قراءة في الأبعاد المعيارية والمؤسساتية والسياساتية
المقدمة: ليست الأنظمة السياسية كالأشجار التي تنمو طبيعيًا، تمتد جذورها في الأرض وتتعاقب عليها الفصول. بل هي أقرب إلى الكائنات الهشّة، التي مهما بدت متجبّرة فإنها تحمل في جسدها بذور فنائها.
تاريخ الشعوب يبرهن أن لا ديكتاتورية أبدية، وأن سلطة الفرد المطلق، أو الحزب الواحد، أو الطغمة العسكرية، إنما تبني أسوارها من الرمل.
ففي أوروبا الشرقية، التي بدت شمولياتها راسخة لعقود، لم تحتج الشعوب إلى أكثر من صدعٍ صغير في جدار برلين حتى انهارت المنظومة كلها. وفي أمريكا اللاتينية، حيث "الجنرالات" حكموا بالنار والحديد، كانت أولى أزماتهم الاقتصادية كافية لتفجير ثورات ديمقراطية (هنتنغتون، الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، ترجمة محمد العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1993، ص. 45). وهكذا فإن الاستبداد ليس إلا حالة طارئة، مهما طال زمنها.
لكن كيف تسقط الأنظمة الدكتاتورية؟
التاريخ يقدّم لنا ثلاث صيغ كبرى:
1. التغيير الداخلي الطبيعي: حين يفرض التطور الاجتماعي والاقتصادي تحولات تدريجية (كما في التحول البريطاني من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية).
2. الثورات والانتفاضات: حين يصل القهر إلى درجة تنفجر فيها المجتمعات (كما حدث في الثورة الفرنسية 1789 أو في بعض بلدان "الربيع العربي" 2011).
3. التغيير القسري عبر الاحتلال الخارجي: وهو مسار استثنائي لا يعكس إرادة المجتمع، بل يُفرض بالقوة، فينتج غالبًا أشكالًا مشوّهة من السلطة السياسية. العراق بعد 2003 هو المثال الأبرز على هذا النمط
(UN Human Rights Council, Report of the Special Rapporteur on the promotion of truth, justice, reparation and guarantees of non-recurrence, A/HRC/34/62, 2017, p. 11).
وهنا ينهض سؤال سجالي:
هل كان نظام صدام حسين قادرًا على الاستمرار لولا الاحتلال الأمريكي؟
من حيث أدوات السيطرة الأمنية، نعم، كان النظام محكمًا. ومن حيث الاقتصاد الريعي، كان يملك ما يكفي من موارد لإدامة زبائنيته. لكن في العمق، كان الحصار الدولي قد مزّق نسيج المجتمع، وأضعف شرعية الدولة، وخلق أجيالًا لا تعرف سوى الحرمان. أي أن النظام، رغم صلابته الظاهرية، كان يحمل في داخله عناصر التآكل. الدكتاتورية حين تُفرط في العنف تصنع أعداءها في كل بيت، وحين تحتكر الثروة تشعل جوعًا لا يمكن إخماده (فالح عبد الجبار، الدولة والمجتمع المدني في العراق، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010، ص. 72).
غير أن النهاية لم تأتِ عبر ثورة داخلية أو تحوّل تدريجي، بل عبر الاحتلال؛ ذلك المسار "غير الطبيعي" لتغيير الأنظمة. الاحتلال أسقط الدكتاتورية الفردية، لكنه لم يفتح الباب لديمقراطية حقيقية، بل أقام مكانها أوليغارشية حزبية–طائفية. لقد استبدل العراق حكم الفرد المطلق بحكم الطغمة الجماعية، حيث توزّعت الدولة غنيمة بين قوى محدودة، احتكرت القرار السياسي والاقتصادي، وأعادت إنتاج الاستبداد بوجه جديد.
وهنا يتجلى التناقض الأعمق: أن الاحتلال جاء بشعارات "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية"، لكنه أسس بنية تعيق هذه المنظومة ذاتها. فالأوليغارشيا العراقية صارت طبقة اجتماعية–سياسية متكاملة، تعيش على اقتصاد الريع والفساد، وتحوّل المؤسسات الحقوقية والقانونية إلى أدوات حماية لمصالحها.
من هنا تنطلق هذه الورقة لتفكيك العلاقة بين الأوليغارشيا العراقية ومنظومة حقوق الإنسان، عبر ثلاثة مستويات متداخلة:
1. الجوانب المعيارية: كيف تُفرغ النصوص الدستورية والالتزامات الدولية من مضمونها.
2. الجوانب المؤسساتية: كيف تتحوّل الأجهزة الرقابية والقضائية والحقوقية إلى واجهات شكلية.
3. جوانب السياسات: كيف تدار الثروة والموارد على أساس الولاء الحزبي لا على أساس العدالة الاجتماعية.
وتسعى الورقة في الختام إلى مساءلة الاحتمالات:
هل يمكن تكييف هذه الأوليغارشيا وتحويلها تدريجيًا نحو نظام ديمقراطي يضمن التداول السلمي للسلطة؟ أم أن العراق عالق في حلقة مفرغة بين استبداد الفرد واستبداد القلّة؟
الفصل الأول: الإطار المفاهيمي والنظري
1. الأوليغارشيا: حكم القلة بين النظرية والتجربة: حين نتأمل في كتب الفلسفة السياسية منذ أرسطو، نجد أن الأوليغارشيا كانت دائمًا مرادفة لاحتكار السلطة من قِبل قلة ضيقة تتحكم في المال والسلاح والقرار. أرسطو ميّز بين حكم الشعب (الديمقراطية) وحكم الفرد (الملَكية/الطغيان)، وبين حكم القلة الذي يتذرّع غالبًا بامتلاك الثروة أو "الجدارة" (أرسطو، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1947، ص. 211). هذه القلة قد تكون عسكرية كما في أنظمة أميركا اللاتينية، أو مالية–تجارية كما في جمهوريات البحر المتوسط، أو حزبية–طائفية كما في الحالة العراقية بعد 2003. الجامع بين التجارب أن الأوليغارشيا دائمًا ما تتطفل على جسد الدولة؛ فهي لا تسعى إلى بناء مؤسسات قوية محايدة، بل إلى توزيع الغنائم بين أطرافها، وتحويل جهاز الدولة إلى وسيلة حماية لمصالحها.
2. منظومة حقوق الإنسان: ثلاثة أبعاد متشابكة: لكي نضع العراق ضمن خارطة التحليل، لا بد أن نستحضر منظومة حقوق الإنسان ككلّ متعدد الأبعاد:
أ) البعد المعياري (Normative Framework):
أي النصوص الدولية (الإعلان العالمي 1948، العهدان الدوليان 1966، اتفاقية مناهضة التعذيب، سيداو، اتفاقيات منظمة العمل الدولية…) التي تشكل إطارًا ملزمًا للدول. العراق التزم بمعظمها، لكنه لم يحوّلها إلى التزامات فعلية.
ب) البعد المؤسساتي (Institutional Framework):
يشمل المؤسسات الوطنية (المفوضية العليا لحقوق الإنسان)، البرلمان، القضاء، وهيئات الرقابة. المفترض أن تعمل كضمانة، لكنها في حالة العراق أصبحت جزءًا من لعبة المحاصصة. لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة وصفت العراق مرارًا بأنه يعاني من "ضعف استقلال القضاء وغياب آليات مساءلة حقيقية"
(Human Rights Committee, Concluding Observations: Iraq, CCPR/C/IRQ/CO/5, 2015, p. 3).
ج) البعد السياساتي (Policy Dimension):
حيث تُترجم الحقوق إلى سياسات عامة: التعليم، الصحة، العدالة الاجتماعية، مكافحة الفقر. هنا بالذات يظهر التناقض بين النصوص البراقة والممارسة الفعلية، إذ تحكم الأوليغارشيا عبر توزيع الريع النفطي على شبكات الزبائنية بدل بناء سياسات عامة عادلة (فالح عبد الجبار، الطبقة الوسطى في العراق: تشكلها وانحدارها وإعادة إنتاجها، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015، ص. 133).
3. الاحتلال كآلية "غير طبيعية" للتغيير: من حيث علم الاجتماع السياسي، التغيير السياسي إمّا أن يكون نتاج تراكم داخلي (ثورة، إصلاح تدريجي) وإما أن يُفرض من الخارج. التجربة العراقية تنتمي إلى الصنف الثاني: الاحتلال الأميركي 2003. هذا ما يجعلها استثناءً في المنطقة، إذ لم يكن التحول إلى ما سُمّي بالديمقراطية نتيجة حراك مجتمعي، بل بفعل قوة عسكرية خارجية (UN Security Council, Report of the Secretary-General on the situation concerning Iraq, S/2004/625, p. 5). ، النتيجة أن النظام الجديد حمل في جيناته الأولى بذور التشوه: لم ينشأ كعقد اجتماعي، بل كـ "تسوية فوقية" بين أحزاب ما بعد الاحتلال. تلك التسوية أعطت الأوليغارشيا شرعية شكلية، لكنها لم تُنتج مؤسسات راسخة ولا سياسات قائمة على حقوق الإنسان.
4. العراق بين الدكتاتورية والأوليغارشيا: نظام صدام حسين كان ديكتاتورية فردية تُديرها أجهزة أمنية وعسكرية مركزية ، بعد 2003، سقط الفرد وبقيت آليات الاستحواذ والاستبداد، لكن هذه المرة بيد قلة موزعة على خطوط طائفية–حزبية ، بهذا المعنى، انتقل العراق من "استبداد الفرد" إلى "استبداد القلة"، وهو تحول من دكتاتورية إلى أوليغارشيا.
5. المفارقة الكبرى: حقوق الإنسان كراية وشكل بلا مضمون: الاحتلال رفع شعار حقوق الإنسان والديمقراطية، لكن الواقع المؤسسي والسياساتي كشف تناقضًا:
- في البعد المعياري، الدستور العراقي 2005 مليء بالحقوق (المواد 14–46)، لكنه ظل نصًا بلا ضمانات.
- في البعد المؤسساتي، المفوضية العليا لحقوق الإنسان خضعت لتقاسم حزبي عطّل استقلالها
(Global Alliance of National Human Rights Institutions, Chart of the Status of National Institutions, Geneva, 2024, p. 17).
- في البعد السياساتي، الحقوق الاجتماعية تحولت إلى "مكرمات" من أحزاب السلطة لا إلى سياسات دولة.
وهنا نصل إلى فرضية الورقة: أن الأوليغارشيا العراقية لم تكن مجرد عرض جانبي، بل نتيجة طبيعية لآلية التغيير غير الطبيعية (الاحتلال)، وأنها اليوم تقف كعائق رئيسي أمام تحويل التزامات حقوق الإنسان إلى واقع.
الفصل الثاني: الجوانب المعيارية لحقوق الإنسان في ظل الأوليغارشية
1. النصوص الدستورية كمرآة مشروخة: حين وُضع دستور العراق عام 2005، بدا للوهلة الأولى وكأنه نصّ مفعم بالحقوق: مساواة، حريات، ضمانات. من المادة (14) التي تنص على أن "العراقيين متساوون أمام القانون" إلى المواد (37–46) التي تفيض بحديث عن حرية التعبير والخصوصية والحق في المحاكمة العادلة. لكن هذه النصوص ظلت مرآة مشروخة؛ تعكس صورة مثالية على الورق، لكنها عاجزة عن تجسيد نفسها في الواقع.
الأوليغارشيا تعاملت مع الدستور لا كعقد اجتماعي، بل كـ ساحة تقاسم غنائم. فالمواد الحقوقية لم تُترجم إلى تشريعات ضامنة أو مؤسسات حامية، بل ظلت أسيرة التأويل السياسي. كما أن المادة (2) التي نصّت على أن "الإسلام دين الدولة الرسمي" وظّفت لاحقًا كذريعة لتعطيل حقوق المرأة والحرية الدينية، على الرغم من التزامات العراق الدولية في مجال المساواة (CEDAW Committee, Concluding Observations on Iraq, CEDAW/C/IRQ/CO/7, 2019, p. 5).
2. ازدواجية المرجعيات: الكونية في مواجهة المحليّة: العراق صادق على معظم الصكوك الدولية الأساسية: العهدين الدوليين 1971، اتفاقية مناهضة التعذيب 2011، اتفاقية حقوق الطفل 1994، وغيرها. لكنه لم يوفّر منظومة تشريعية وطنية تتواءم مع هذه المعايير.
هنا يظهر جوهر الإشكال: ازدواجية المرجعية.
- مرجعية كونية تستند إلى الإعلان العالمي والعهدين.
- ومرجعية محلية تُعيد تفسير الحقوق عبر منظور طائفي–ديني أو حزبي.
هذه الازدواجية أنتجت "حقوقًا انتقائية": حق يُحترم في منطقة، ويُقمع في أخرى. حق يُقرّ على الورق، ويُلغى في التطبيق. لجنة حقوق الإنسان أعربت صراحة عن قلقها من "الاستخدام الانتقائي للقوانين لتقييد حرية التعبير تحت ذريعة الأمن أو النظام العام"
(Human Rights Committee, Concluding Observations: Iraq, CCPR/C/IRQ/CO/5, 2015, p. 4).
3. الالتزامات الدولية كأدوات للخطاب لا للتنفيذ: الأوليغارشيا العراقية وجدت في تقارير حقوق الإنسان أداة للتجميل الخارجي، لا للإصلاح الداخلي. فهي تقدّم تقاريرها الدورية للجان المعاهدات، لكنها نادرًا ما تضع خططًا وطنية لتنفيذ التوصيات.
- مثلًا: العراق قبِل في الاستعراض الدوري الشامل 2019 أكثر من (200) توصية، بينها توصيات جوهرية تخص مكافحة التعذيب وضمان استقلال القضاء (Human Rights Council, Report of the Working Group on the Universal Periodic Review: Iraq, A/HRC/40/14, 2019, p. 7).
- لكن هذه التوصيات بقيت كلمات معلقة، لأن الطبقة الأوليغارشية لا ترى مصلحة في تطبيقها، إذ قد تهدد امتيازاتها الأمنية والسياسية.
4. الاقتصاد الريعي وتعطيل المساواة: الحقوق ليست شعارات فقط؛ بل تحتاج إلى قاعدة اقتصادية عادلة. لكن الاقتصاد العراقي ريعي بامتياز: أكثر من 90% من موازنة الدولة يأتي من النفط (البنك الدولي، تقرير العراق الاقتصادي, واشنطن: البنك الدولي، 2020، ص. 19). هذا الريع صار أداة في يد الأوليغارشيا لتوزيع العطايا على شبكات الولاء، بدل أن يكون قاعدة لضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
النتيجة: أن الحقوق المعيارية التي يقرّها الدستور والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (1966) تُفرغ من مضمونها، لأن الريع يوزَّع زبائنيًا لا وطنيًا.
5. النصوص كقناع للسلطة: المفارقة أن العراق اليوم يبدو على الورق واحدًا من أكثر الدول التزامًا بالمواثيق، لكنه في الواقع أحد أكثرها انتهاكًا. النصوص الدستورية والقانونية تحولت إلى قناع تُخفي به الأوليغارشيا وجهها الحقيقي. ما يجعل المنظومة المعيارية لحقوق الإنسان أداة للخطاب السياسي الخارجي، لا للعدالة الداخلية.
الفصل الثالث: الجوانب المؤسساتية
1. الدولة كغنيمة: في الأنظمة الديمقراطية، المؤسسات هي عماد الضمانات: البرلمان للتشريع، القضاء للحكم العادل، الهيئات الرقابية للمساءلة، والمفوضيات المستقلة لحماية الحقوق. لكن في العراق ما بعد 2003، تحولت هذه المؤسسات إلى غنائم في سوق المحاصصة. لم تعد مؤسسات الدولة كيانات حيادية بل أقسامًا موزعة بين أحزاب الأوليغارشيا: وزارة لهذا الحزب، هيئة لذاك، وقضاء يتقاسمه اللاعبون الكبار.
فبدل أن تكون مؤسسات الدولة وسيطًا بين المواطن والدولة، أصبحت جسرًا بين الحزب وموارده. هنا يتجسد جوهر الأوليغارشية: السيطرة على المؤسسات لا من أجل المصلحة العامة بل من أجل تكريس الامتيازات.
2. البرلمان: شرعية شكلية: البرلمان يفترض أن يكون صوت الشعب، لكنه في العراق صار انعكاسًا للكتل السياسية نفسها. الانتخابات الدورية لم تُنتج تداولًا حقيقيًا للسلطة، بل أعادت تدوير نفس النخبة. تقارير بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) أشارت إلى ضعف النزاهة الانتخابية بفعل التزوير والمال السياسي والتأثير المسلح
(United Nations Assistance Mission for Iraq, Electoral Assessment Report, Baghdad: UNAMI, 2021, p. 12).
هكذا بات البرلمان مؤسسة مفرغة من جوهرها الديمقراطي، وظيفتها أن تضفي مظهر الشرعية على صفقات النخبة.
3. القضاء: رهينة الولاءات: القضاء هو ميزان العدالة، لكن الأوليغارشيا العراقية جعلته رهينة الولاءات.
- لجنة حقوق الإنسان (CCPR) أعربت بوضوح عن قلقها من "الافتقار إلى استقلال القضاء والضغوط السياسية الواسعة"
(Human Rights Committee, Concluding Observations: Iraq, CCPR/C/IRQ/CO/5, 2015, p. 3).
- تقارير لجنة مناهضة التعذيب (CAT) لاحظت استمرار الإفلات من العقاب على انتهاكات التعذيب، مما يعكس قضاء عاجزًا عن ردع الأجهزة الأمنية
(Committee against Torture, Concluding Observations: Iraq, CAT/C/IRQ/CO/1, 2015, p. 2).
إنه قضاءٌ يختار معاركه بعناية: يحاكم الضعفاء والمتظاهرين، ويتجنب الاقتراب من ملفات الفساد الكبرى أو المليشيات النافذة.
4. المفوضية العليا لحقوق الإنسان: مؤسسة مُفرغة: المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق أنشئت عام 2008 لتكون مؤسسة وطنية وفق مبادئ باريس. لكنها ما لبثت أن تحولت إلى ساحة صراع بين الأحزاب.
- التحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان (GANHRI) خفّض تصنيف المفوضية العراقية من الفئة "A" إلى الفئة "B"، بسبب "غياب الاستقلالية والتسييس"
(Global Alliance of National Human Rights Institutions, Chart of the Status of National Institutions, Geneva, 2024, p. 17).
- بدل أن تكون المفوضية عين الشعب، غدت عين الأحزاب: تتجنب الملفات الحساسة، وتُصدر بيانات بلا أثر.
5. المجتمع المدني: بين التهميش والاحتواء: المجتمع المدني في العراق شهد انتفاضات قوية، خصوصًا في احتجاجات 2015 و2019. لكنه وُوجه بثنائية: التهميش حين يكون مستقلاً، والاحتواء حين يخضع لتمويل أو وصاية حزبية. تقارير المفوضة السامية لحقوق الإنسان (OHCHR) وثقت "الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين السلميين، وقتل مئات المحتجين وإصابة الآلاف"
(OHCHR, Human Rights Report on Demonstrations in Iraq: October 2019 – April 2020, Geneva: UN, 2020, p. 3).
هذه الانتهاكات أظهرت أن السلطة ترى في المجتمع المدني خصمًا يجب إسكاته، لا شريكًا يجب تمكينه.
6. مؤسسات الرقابة والشفافية: ديكور بلا سلطة:ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة وهيئات مكافحة الفساد، كلها مؤسسات تبدو على الورق أدوات محاسبة. لكنها عمليًا ديكور في مسرح الأوليغارشيا. فهي لا تملك استقلالًا حقيقيًا ولا قدرة على الوصول إلى الملفات الكبرى. ونشير هنا الى ان البنك الدولي وصف الفساد في العراق بأنه "مؤسسي ومنهجي"، يعكس ضعف كل آليات الرقابة
(World Bank, Iraq Economic Monitor: Navigating the Perfect Storm, Washington: WB, 2020, p. 29).
7. النتيجة: مؤسسات بلا مؤسسية: المشهد العام يُظهر تناقضًا مريرًا: العراق يملك مؤسسات بأسماء رنانة (برلمان، قضاء، مفوضية، نزاهة)، لكنه يفتقد إلى المؤسسية. كل هذه الكيانات تعمل كامتداد للأوليغارشيا، لا كحامٍ لحقوق الإنسان. النتيجة أن المواطن يقف وحيدًا، بين دستور يعده بالمساواة، ومؤسسات تبيعه للصفقات.
الفصل الرابع: جوانب السياسات
1. السياسات العامة بين المبدأ والواقع: في أي دولة حديثة، تُفترض السياسات العامة أن تكون ترجمة عملية للنصوص الحقوقية: الحق في التعليم يتحول إلى ميزانيات ومناهج، الحق في الصحة يتحول إلى مستشفيات وأدوية، الحق في العمل يتحول إلى برامج تشغيل وتنمية. لكن في العراق، ما بعد 2003، تحولت السياسات العامة إلى مسرح للزبائنية. الأوليغارشيا لم ترَ في السياسات أداةً لإشباع الحاجات المجتمعية، بل وسيلة لتعزيز الولاءات. وهكذا، لم تعد السياسة العامة "عقدًا اجتماعيًا"، بل "غنيمة موزعة".
2. التعليم: من الحق إلى الامتياز: التعليم وفق العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966) حق أساسي، يتطلب إتاحة ومجانية وجودة. لكن العراق، رغم موارده الهائلة، يعيش انهيارًا في هذا القطاع:
- تقرير اليونسكو أشار إلى أن "أكثر من 3.2 مليون طفل خارج المدارس" عام 2019 (UNESCO, Out-of-School Children in Iraq, Paris: UNESCO, 2019, p. 6).
- المناهج تعكس أحيانًا انقسامات الهوية أكثر مما تعكس وحدة وطنية.
- فرص التعليم العالي توزّع عبر المحسوبية والوساطة أكثر من الكفاءة.
التعليم تحوّل إلى امتياز طبقي وحزبي: أبناء النخبة يصلون إلى الخارج أو إلى الجامعات المرموقة، بينما أبناء الفقراء يتزاحمون في مدارس متهالكة.
3. الصحة: جسد المواطن كرهينة: الحق في الصحة، المنصوص عليه في الدستور (المادة 31)، بقي حبرًا على ورق.
- منظمة الصحة العالمية وثقت أن العراق ينفق على الصحة أقل من 5% من موازنته، وهو معدل أدنى بكثير من المتوسط الإقليمي (WHO, Iraq Health System Review, Cairo: WHO-EMRO, 2021, p. 11).
- المستشفيات الحكومية تفتقر إلى أبسط التجهيزات، بينما يتضخم القطاع الخاص الذي يخدم الطبقة الميسورة.
الأوليغارشيا ربطت الصحة بشبكات الولاء: فرص العلاج في الخارج غالبًا ما تُمنح عبر "استثناءات" حزبية أو برلمانية. جسد المواطن صار رهينة في يد النخبة.
4. العمل والبطالة: الشباب المعلّق بين الهجرة والاحتجاج: العراق بلد شاب، لكن البطالة تلتهم أحلام شبابه.
- البنك الدولي قدّر معدل البطالة بين الشباب بما يقارب 27% عام 2020 (World Bank, Iraq Economic Monitor, Washington, 2020, p. 32).
- سياسة التشغيل تعتمد على التوظيف في القطاع العام، الذي تحوّل إلى خزان للزبائنية بدل أن يكون أداة تنمية.
هذا الإقصاء ولّد موجات احتجاج، أبرزها انتفاضة تشرين 2019، التي طالبت بالعمل والكرامة. ردّ السلطة كان القمع الدموي، لا الإصلاح (OHCHR, Human Rights Report on Demonstrations in Iraq: October 2019 – April 2020, Geneva: UN, 2020, p. 3).
5. البيئة والمناخ: الحق المسكوت عنه: الحق في بيئة سليمة أصبح جزءًا من حقوق الإنسان المعاصرة (قرار مجلس حقوق الإنسان 48/13، 2021). لكن العراق يواجه أزمة بيئية خانقة: التصحر، شح المياه، تلوث الأهوار.
- برنامج الأمم المتحدة للبيئة حذّر من أن العراق "يخسر سنويًا أكثر من 100,000 هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة" (UNEP, Iraq Environmental Outlook, Nairobi: UNEP, 2019, p. 8).
- السياسات البيئية تكاد تكون غائبة، لأنها لا تُدرّ أرباحًا مباشرة للنخبة.
بهذا المعنى، البيئة ضحية صامتة للأوليغارشية، التي ترى في النفط موردها الوحيد، وتتجاهل أن المناخ قد يهدد بقاء الدولة ذاتها.
6. السياسات الاقتصادية والاجتماعية: الريع كأداة ولاء: الأوليغارشية حوّلت النفط من ثروة وطنية إلى "صندوق ولاءات". الموازنات السنوية تُبنى على أساس المحاصصة: أي حزب يحصل على وزارة خدمية يستثمرها لإرضاء جماهيره، لا لإشباع حاجات المجتمع كله.
- لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة لاحظت في تقريرها الأخير عن العراق "غياب التخطيط طويل الأمد وانعدام العدالة في توزيع الموارد"
(Committee on Economic, Social and Cultural Rights, Concluding Observations: Iraq, E/C.12/IRQ/CO/5, 2015, p. 4).
النتيجة: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحولت من التزام دستوري إلى مكرمة حزبية.
7. تناقض السياسات مع أهداف التنمية المستدامة: العراق التزم بأهداف التنمية المستدامة (SDGs 2030)، لكنه بعيد عن تحقيقها:
- الهدف 4 (التعليم الجيد) متعثر مع ارتفاع معدلات التسرب.
- الهدف 3 (الصحة) متراجع مع انهيار النظام الصحي.
- الهدف 8 (العمل اللائق) غير متحقق مع تضخم البطالة.
الأوليغارشية ترفع شعارات التنمية في المحافل الدولية، لكنها على الأرض تعرقل تحقيقها. هنا يظهر التناقض: العراق يقدّم نفسه كدولة ملتزمة بالمعايير الأممية، لكنه في الواقع يبدد الفرصة التاريخية للتحول التنموي–الحقوقي.
الفصل الخامس: الأوليغارشية كطبقة اجتماعية–سياسية
1. من النخبة إلى الطبقة: الأوليغارشية في العراق لم تبقَ مجرد "تحالف عابر" بين أحزاب خرجت من رحم الاحتلال. مع مرور الوقت، ومع تراكم الموارد الريعية، تحولت إلى طبقة اجتماعية–سياسية متماسكة.
- تمتلك هذه الطبقة ثروات مالية عبر السيطرة على العقود والموازنات.
- تمتلك أدوات قسرية عبر المليشيات المسلحة.
- تمتلك شرعية شكلية عبر الانتخابات.
وبذلك صارت الأوليغارشية بنية مغلقة، قادرة على إعادة إنتاج نفسها، كما لو كانت "طبقة حاكمة" بالمعنى الماركسي، لكنها بلا مشروع وطني جامع (عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012، ص. 119).
2. اقتصاد الريع كرافعة للطبقة: النفط، بدل أن يكون ثروة وطنية، أصبح رأسمالًا سياسياً. الأوليغارشية تحوّل الريع إلى مخصصات حزبية:
- وزارات خدمية تتحول إلى صناديق تمويل حزبي.
- المناصب الإدارية العليا تُباع وتُشترى.
- الاستثمارات الخارجية تُدار عبر شبكات مغلقة.
البنك الدولي وصف هذا المشهد بـ "الاقتصاد السياسي للريع"، حيث الريع يغذي النخب بدل أن يغذي التنمية (World Bank, Iraq Economic Monitor, 2020, p. 28).
3. التمأسس عبر المحاصصة: المحاصصة التي بدأت كآلية لإدارة التنوع تحولت إلى قاعدة لتكريس الأوليغارشيا. فكل حزب يمتلك "حصة" في الدولة، وهذه الحصة تتحول إلى موارد اقتصادية ورمزية.
- البرلمان يوزَّع على الكتل.
- القضاء يُدار عبر التوازنات.
- الوزارات والمفوضيات تخضع لمعادلات دقيقة بين الطوائف والأحزاب.
بهذا الشكل، أصبحت المحاصصة "دستورًا غير مكتوب" يعلو على الدستور المكتوب.
4. المليشيات كجناح موازٍ: الطبقة الأوليغارشية لا تعيش على السياسة وحدها، بل تستند أيضًا إلى قوة مسلحة موازية. المليشيات التي نمت بعد 2003 وفّرت لهذه الطبقة ذراعًا ردعيًا:
- تُرهب الخصوم السياسيين.
- تسيطر على الشارع عند الحاجة.
- تضمن حماية شبكات الفساد.
هذا التداخل بين المال والسياسة والسلاح جعل من الأوليغارشيا قوة معقدة التركيب، لا مجرد نخبة مدنية. تقارير بعثة الأمم المتحدة (يونامي) وثّقت مرارًا "تغلغل الجماعات المسلحة في مؤسسات الدولة وتقييدها للحريات" (UNAMI, Human Rights Report: Iraq, Baghdad, 2020, p. 14).
5. العزلة عن المجتمع:الطبقة الأوليغارشية خلقت فجوة شرعية بينها وبين المجتمع. فهي لا تستمد شرعيتها من المواطنين، بل من توازناتها الداخلية ومن الخارج (الاحتلال سابقًا، والتحالفات الإقليمية لاحقًا). هذا جعلها طبقة معزولة:
- لا تشارك المجتمع همومه اليومية.
- تستثمر الأزمات (كالكهرباء والماء) لمزيد من السيطرة.
- تضع المواطن في موقع المتلقي السلبي.
النتيجة: انعدام الثقة بين الدولة والمجتمع، وهو ما ظهر جليًا في احتجاجات تشرين 2019 التي رفعت شعار "نريد وطن".
6. الأوليغارشية والفساد كآلية بقاء:الفساد لم يعد مجرد ظاهرة، بل آلية حكم. الأموال المنهوبة تُعيد تمويل الأحزاب، تُشتري بها ولاءات انتخابية، وتُدار بها وسائل إعلام تلمّع الصورة.
- هيئة النزاهة أعلنت عام 2021 أن "حجم الأموال المهدورة والمهربة منذ 2003 يفوق 300 مليار دولار" (هيئة النزاهة، تقرير سنوي 2021، بغداد، ص. 7).
- لكن هذه الأرقام تبقى بلا محاسبة لأن الطبقة نفسها تملك أدوات الحماية القانونية والسياسية.
7. الأوليغارشية كأفق مسدود: بهذا المعنى، الأوليغارشية ليست مجرد نخبة سياسية فاسدة، بل أفق مسدود أمام التحول الديمقراطي. فهي بنية مكتملة: مال + سياسة + سلاح + محاصصة + فساد. هذه العناصر تجعلها قادرة على مقاومة كل محاولات الإصلاح.
لكن السؤال يبقى مفتوحًا: هل هذه الطبقة قدَر محتوم، أم أنها، مثل الدكتاتوريات السابقة، تحمل بذور فنائها في داخلها؟
- تناقضاتها الداخلية بين أحزابها.
- عجزها عن تلبية حاجات مجتمع شاب.
- أزماتها المتكررة مع المجتمع الدولي.
كلها عوامل قد تجعل الأوليغارشية طبقة "مؤقتة"، مهما بدت راسخة.
الفصل السادس: المآلات والتحديات
1. هشاشة منظومة حقوق الإنسان: الأوليغارشيا لم تُنتج مؤسسات حامية للحقوق، بل أنتجت مؤسسات ضعيفة تابعة. هذا يعني أن أي التزام حقوقي يظل هشًا وعرضة للانهيار مع كل أزمة سياسية.
- لجنة مناهضة التعذيب لاحظت في 2015 أن "استمرار الإفلات من العقاب يقوّض أي إمكانية لترسيخ ثقافة حقوق الإنسان" (CAT, Concluding Observations: Iraq, CAT/C/IRQ/CO/1, 2015, p. 2).
- المفوضة السامية لحقوق الإنسان أعربت عن قلقها من "ضعف حماية المتظاهرين وغياب ضمانات المحاكمة العادلة" (OHCHR, Annual Report on Iraq, Geneva, 2021, p. 4).
هشاشة المنظومة تجعل المواطن العراقي يعيش بين وعد النصوص وخذلان الممارسة.
2. التداول السلمي للسلطة كواجهة
من المفترض أن التداول السلمي للسلطة هو جوهر الديمقراطية. لكن في العراق، الانتخابات مجرد آلية لتدوير نفس الطبقة الأوليغارشية.
- المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، رغم اسمها، خضعت لضغوط سياسية متكررة.
- تقارير يونامي أكدت أن "المال السياسي واستخدام العنف أثّرا على نزاهة العملية الانتخابية" (UNAMI, Electoral Assessment Report, 2021, p. 15).
بهذا المعنى، التداول السلمي للسلطة يبقى واجهة شكلية، بينما السلطة الحقيقية ثابتة بيد القلة.
3. مخاطر استمرار الأوليغارشية: استمرار الأوليغارشية يعني استمرار أزمة الشرعية. ومعه تتفاقم التحديات:
أ) تفكك اجتماعي: إذ يشعر المواطنون أن الدولة لا تمثلهم، فيلجأون إلى الولاءات البديلة (الطائفة، العشيرة، المليشيا).
ب) اقتصاد هش: الريع وحده لم يعد قادرًا على امتصاص البطالة أو تحقيق التنمية.
ج) عزلة دولية: العراق يواجه انتقادات متكررة في مجلس حقوق الإنسان واللجان التعاهدية، ما يضعف صورته الدولية.
النتيجة أن الأوليغارشية قد تقود إلى انفجار اجتماعي جديد إذا لم تُفتح آفاق الإصلاح.
4. احتمالات الانفجار الاجتماعي: انتفاضة تشرين 2019 كانت جرس إنذار. لقد بيّنت أن جيلًا جديدًا يرفض قواعد اللعبة. لكن الرد الدموي كشف أن الأوليغارشية مستعدة لحماية نفسها بالعنف.
- تقارير الأمم المتحدة قدّرت عدد الضحايا بأكثر من 600 قتيل وآلاف الجرحى (OHCHR, Human Rights Report on Demonstrations in Iraq, 2020, p. 2).
إذا استمر القمع مع انسداد الأفق، قد يتحول الغضب الشعبي إلى ثورة مفتوحة، تهدد بانهيار النظام السياسي كله.
5. خطر عودة الاستبداد الفردي: في المقابل، قد تفتح فوضى الأوليغارشية الطريق أمام عودة الاستبداد الفردي. فحين يعجز المواطن عن تحمل فوضى القلة، قد يقبل بعودة "الرجل القوي" الذي يعد بالأمن والاستقرار. هذا السيناريو تكرر في دول عديدة بعد فشل تجارب ديمقراطية انتقالية.
6. فرص الإصلاح والتكييف
رغم كل العتمة، ثمة فرص للتغيير:
- الضغط الشعبي: المجتمع المدني، الشباب، والنقابات يمكن أن يشكلوا قوة دفع.
- الضغط الدولي: عبر آليات الأمم المتحدة (UPR، معاهدات، مجلس حقوق الإنسان).
- الإصلاح الداخلي: بعض الأصوات داخل النخبة نفسها باتت تدرك أن استمرار الوضع الحالي خطر على الجميع.
هذه العوامل قد تفتح الباب لتكييف الأوليغارشية تدريجيًا نحو وضع أكثر ديمقراطية، شرط أن يُعاد بناء المؤسسات على أسس استقلالية وعدالة.
7. التحدي الأكبر: عقد اجتماعي جديد: في النهاية، لا يمكن للأوليغارشية أن تستمر إلى ما لا نهاية. إما أن تنهار تحت ضغط أزماتها، أو أن تتحول إلى ديمقراطية حقيقية عبر عقد اجتماعي جديد، يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس المواطنة لا المحاصصة.
- هذا العقد يتطلب إصلاحًا دستوريًا يزيل الغموض ويكرّس المساواة.
- ويتطلب مؤسسات مستقلة فعلًا، لا واجهات حزبية.
- كما يتطلب سياسات تنموية تعيد توزيع الثروة بعدالة.
الفصل السابع: إمكانات التكييف نحو الديمقراطية
1. بين الاستحالة والإمكان: قد يبدو الحديث عن تكييف الأوليغارشية نحو الديمقراطية ضربًا من التناقض؛ كيف يمكن لطبقة تأسست على الريع والفساد والقمع أن تتحول إلى ضامنة لحقوق الإنسان؟ لكن التجارب التاريخية تعلمنا أن النظم المغلقة ليست أبدية، وأن التغيير ممكن حين تتقاطع الإرادة الشعبية مع ضغوط داخلية وخارجية.
في أوروبا الشرقية، تحولت أحزاب شمولية إلى قوى ديمقراطية بعد سقوط الستار الحديدي. وفي أميركا اللاتينية، قبلت الأوليغارشيات العسكرية التنازل التدريجي تحت ضغط المجتمع المدني والاقتصاد (هنتنغتون، الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993، ص. 77).
2. الإصلاح المعياري: إعادة صياغة الدستور والقوانين: التغيير يبدأ من النصوص:
- مراجعة المواد الدستورية التي تسمح بالتأويل الطائفي أو تشرعن المحاصصة.
- مواءمة القوانين الوطنية مع الالتزامات الدولية: خصوصًا في مجالات حرية التعبير، حقوق المرأة، مكافحة التعذيب.
- ضمان أن لا تكون النصوص مجرد شعارات، بل آليات قابلة للتنفيذ (CESCR, General Comment No. 9: The domestic application of the Covenant, E/C.12/1998/24, p. 5).
3. الإصلاح المؤسساتي: استقلال وبناء جديد: لا ديمقراطية بلا مؤسسات مستقلة. وهذا يقتضي:
- تحرير القضاء من الولاءات الحزبية عبر آليات شفافة للتعيين والمساءلة.
- إعادة هيكلة المفوضية العليا لحقوق الإنسان وفق معايير باريس بعيدًا عن المحاصصة (GANHRI, Chart of the Status of NHRIs, 2024, p. 17).
- تمكين المجتمع المدني والنقابات، ومنحهما الحماية القانونية الفعلية.
4. الإصلاح السياساتي: من الزبائنية إلى العدالة: تحتاج الدولة إلى سياسات جديدة تقوم على العدالة لا الولاء:
- تبني سياسات تعليمية وصحية وطنية شاملة.
- توزيع الثروة النفطية عبر خطط تنمية عادلة بدل تخصيصات حزبية.
- إدماج أهداف التنمية المستدامة (SDGs) في خطط وطنية فعلية، لا شعاراتية.
5. التداول السلمي للسلطة: إعادة الاعتبار للانتخابات: الانتخابات هي البوابة، لكنها بحاجة إلى إصلاحات:
- قوانين انتخابية تقلل من هيمنة الكتل الكبيرة وتفتح المجال أمام القوى الناشئة.
- ضمان نزاهة العملية عبر إشراف دولي مستقل.
- تجريم المال السياسي والضغط المسلح.
بدون هذه الإصلاحات، سيظل التداول السلمي للسلطة مجرد وهم يُعيد تدوير الأوليغارشيا.
6. دور الضغوط الدولية والإقليمية: العراق لا يعيش في فراغ. الضغوط الأممية (UPR، لجان المعاهدات) يمكن أن تكون رافعة، إذا ما استثمرها المجتمع المدني والقوى الإصلاحية داخليًا.
- تقرير المقرر الخاص المعني بالحق في حرية التجمع (A/HRC/44/50/Add.1, 2020, p. 6) أوصى العراق بإصلاح قوانينه المتعلقة بالتظاهر.
- تقارير مجلس حقوق الإنسان المتكررة تضع العراق تحت دائرة الرقابة، ما يمكن أن يتحول إلى أداة دعم للإصلاح.
7. العقد الاجتماعي الجديد كأفق: في النهاية، تكييف الأوليغارشية نحو الديمقراطية يتطلب عقدًا اجتماعيًا جديدًا. عقد يقوم على:
- المواطنة لا المحاصصة.
- المؤسسات لا الزعامات.
- الحقوق لا الامتيازات.
قد يبدو هذا العقد حلمًا بعيدًا، لكن بدونه ستبقى الأوليغارشية أفقًا مسدودًا. أما معه، فيمكن أن تتحول إلى مرحلة انتقالية نحو دولة حديثة، تضمن التداول السلمي للسلطة وتحمي حقوق الإنسان.
***
خليل إبراهيم كاظم الحمداني
باحث في مجال حقوق الانسان
.....................
قائمة بالمراجع
أولًا: الوثائق والتقارير الأممية والدولية
- Committee against Torture. Concluding Observations: Iraq. CAT/C/IRQ/CO/1. Geneva: United Nations, 2015, p. 2.
- Committee on Economic, Social and Cultural Rights. Concluding Observations: Iraq. E/C.12/IRQ/CO/5. Geneva: United Nations, 2015, p. 4.
- CEDAW Committee. Concluding Observations on Iraq. CEDAW/C/IRQ/CO/7. Geneva: United Nations, 2019, p. 5.
- CESCR. General Comment No. 9: The domestic application of the Covenant. E/C.12/1998/24. Geneva: United Nations, 1998, p. 5.
- GANHRI (Global Alliance of National Human Rights Institutions). Chart of the Status of National Institutions. Geneva: GANHRI, 2024, p. 17.
- Human Rights Committee. Concluding Observations: Iraq. CCPR/C/IRQ/CO/5. Geneva: United Nations, 2015, p. 3–4.
- Human Rights Council. Report of the Working Group on the Universal Periodic Review: Iraq. A/HRC/40/14. Geneva: United Nations, 2019, p. 7.
- Human Rights Council. Resolution 48/13: The human right to a clean, healthy, and sustainable environment. Geneva: United Nations, 2021.
- OHCHR. Annual Report on Iraq. Geneva: United Nations, 2021, p. 4.
- OHCHR. Human Rights Report on Demonstrations in Iraq: October 2019 – April 2020. Geneva: United Nations, 2020, p. 2–3.
- Special Rapporteur on the promotion of truth, justice, reparation and guarantees of non-recurrence. Report. A/HRC/34/62. Geneva: United Nations, 2017, p. 11.
- Special Rapporteur on the rights to freedom of peaceful assembly and of association. Report on Iraq. A/HRC/44/50/Add 1. Geneva: United Nations, 2020, p. 6.
- UNAMI (United Nations Assistance Mission for Iraq). Electoral Assessment Report. Baghdad: UNAMI, 2021, p. 12–15.
- UNAMI. Human Rights Report: Iraq. Baghdad: UNAMI, 2020, p. 14.
- UNEP. Iraq Environmental Outlook. Nairobi: United Nations Environment Programme, 2019, p. 8.
- UNESCO. Out-of-School Children in Iraq. Paris: UNESCO, 2019, p. 6.
- WHO. Iraq Health System Review. Cairo: WHO-EMRO, 2021, p. 11.
- World Bank. Iraq Economic Monitor: Navigating the Perfect Storm. Washington: World Bank, 2020, p. 19, 28–32.
- UN Security Council. Report of the Secretary-General on the situation concerning Iraq. S/2004/625. New York: United Nations, 2004, p. 5.
ثانيًا: المصادر العربية والمترجمة
- أرسطو. السياسة. ترجمة أحمد لطفي السيد. القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1947، ص. 211.
- بلقزيز، عبد الإله. الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012، ص. 119.
- عبد الجبار، فالح. الدولة والمجتمع المدني في العراق. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010، ص. 72.
- عبد الجبار، فالح. الطبقة الوسطى في العراق: تشكلها وانحدارها وإعادة إنتاجها. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015، ص. 133.
- هيئة النزاهة (العراق). التقرير السنوي. بغداد: هيئة النزاهة، 2021، ص. 7.
- هنتنغتون، صموئيل. الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين. ترجمة محمد العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993، ص. 45، 77.