دراسات وبحوث
مجدي إبراهيم: القرآن والتجربة البشرية (3)
هذا الكتاب الذي نحن بصدده، عرضاً ونقداً وتفنيداً لمحتواه، أعني (الصورة الذاتيّة للقرآن.. الكتابةُ والسُّلطة في نصّ الإسلام المقدّس)، لمؤلفه دانييل ماديغان، هو من الأهمية بمكان بحيث لا يُخالجنا الشك مطلقاً في جدوى دراسته، فإذا كنتُ أنا شخصياً لم يسعدني الحظ بوافر سعده للحصول عليه أو قراءته من قبل، فإنّ مُجرّد الحديث عن محتواه الآن يؤمِّل الباحث في الإحاطة بموضوعه وفق منهجه المعروف، وإنْ وجِدَت الخلافات الجوهريّة بين تخريجات الغربيين، وتخريجاتنا لاختلاف الأذواق والمشارب، والخلفيّة الثقافيّة والمعرفيّة، واختلاف الأهداف والمقاصد أيضاً.
وقد تبدو غريبة تخريجات الباحثين الغربيين حول القرآن وعلاقة المسلمين به، وبخَاصّةٍ في الصدر الأول. غير أنها غرابة لمن لا يألفها، ولم يضرب فيها بسهم، أمّا من ألفها واعتاد ممارستها فلن يستغرب بضاعتهم ولم يعد يتوقع غير ما جاؤوا به.
يظهر لي أنهم يُريدون التقليل من مركزيّة القرآن باصطناع مناهج ربما لا تتماشى مع طبيعة النّص المُقدَّس نفسه، أو على وجه التحديد لا تتماشى مع طبيعة القرآن كونه وحياً؛ لأن المفروض بالبداهة المُقرّرة سلفاً أن فهم القرآن مرهونٌ بمنهجه هو لا بمنهج سواه: أعني منهج التذوق والمعايشة والحياة، ومنه إلى الإشعاعة العقليّة المستمدة من كثرة التأمل في منبع الوحي، أعني في مصدر آيات القرآن على الحضور والسّعة والاتصال بالله.
إنه؛ إذا كان القرآن كلام الله؛ فإنّ نظافة العلاقة مع الله كافية لفهم كلامه من أقرب طريق، وليس من فهمٍ على التحقيق والمرءُ بعيدٌ عن منبع الوحي ومصدر النور الذي خرجت منه بداية مشكاة الأنوار بالقرآن، ومعنى أن القرآن كلام الله هو نفس المعنى الذي يقتضي الاستمرار والدوام للكتابة الإلهيّة الخالدة، وإعادة الكتابة هذه فعل مباشر ناشط بين الله والتجربة البشريّة؛ أي فعل مباشر يؤخذ على أنه: تفاعل الله الناشط مع البشريّة.
ومن أعجب العجب عندي إنك ترى دعوات الشرقيين من الذين كتبوا عن القرآن فرأوا بإزاء التقريب بين الدراسات القرآنية وبين ما وصلت إليه الإنسانية وحضارتها يحتاج منا إلى مزيد من تنحية بعض من موروثاتنا القديمة جانباً، والتي هي ليست من ثوابت الدين وقيمة الأصيلة، ثم الإفادة من الحضارة الحديثة، وما وصلت إليه من ناحية وسائل فهم الكون، ومن جوانب مردود النظر إلى ميادين النفس الإنسانية واعتماد كثير منها مّما وصلت إليه الحضارة الحديثة ومناهجها المختلفة بعد ضبطها بمبادئ الإسلام ومقاصده الكلية.
إنه؛ إذا كانت هذه دعواتنا - نحن الشرقيين - بضرورة الانفتاح على المناهج المختلفة ممّا اصطنعته الحضارة الحديثة، وكشفت عن تقدّمها، فما لنا بعد الاطلاع على ما كتبوا من مباحث عن القرآن، وما طبقوا من مناهج؛ نتخوف من دراستها ونقدها أو الاطلاع عليها بغية المعرفة أولاً ثم النقد والتمحيص ثانياً ثم الإفادة منها اذا اقتضى الأمر ثالثاً؟! حتى إذا ما بلغت الإفادة مبلغها لزم معها النقد لا محالة فلا يوجد نقد بغير تقويم للإيجابيات وفرز للسلبيات، ومن البداهة العقلية أن العقل لا يقبل كل ما يعرض عليه قبولاً كاملاً ولا يرفضه رفضاً تاماً كذلك، ولا بدّ من أخذ ورد، وقبول ورفض.
وإزاء هذه المركزيّة القويمة (مركزيّة القرآن) هم عاجزون عن تفسير قوانينها وسِر قوتها ومكمن حيويتها، وامتداداتها الوجوديّة، وبخاصّة في الصدر الأول وما بعده، وأحياناً متخبطون، يسوؤهم ثقة المسلمين في كتابهم المقدّس، لكأنهم يريدون زعزعة استقراره من قلوبهم، وما هم بمستطيعين.
ليس المهم في اصطناع تلك المناهج ولا في تطبيقاتها، وإنّما المهم، وهو موطن الخطر، هو محاولة الباحثين الراهنين تكرار نتائج أسلافهم الغابرين بإزاء القرآن؛ لتكون هذه المناهج أو تلك مُجَرّد غطاء مشروع يتسترون خلفه ولا يميطون لثاماً عما كان من قبيل أسلافهم مُجرّد دعوى لا يقوم عليها دليل؛ كمثل قولهم: إنّ القرآن نسخة مُحرّفة من الكتب السابقة عليه، من اليهوديّة والنصرانيّة، وأن محمداً عليه السلام كان مُجرد ناقل: نقله من أساطير الأولين!
ليأتينا من بعدُ من عساه لا ينسى فيذكر: أن الكتاب يكتمل فيما تقدّم على القرآن من كتب مثل التوراة والإنجيل، ولا يكاد يكتمل في القرآن الكريم بما لست أدرى ماذا عساه يكون؟ وتجيء عبارات لا يُفْهم لها معنى واضح مثلما يردد "ماديغان" كثيراً باهتمام المسلمين الغالب بالكيان المُغلق للقرآن. ولم يوضح قصده بعبارة الكيان المغلق هذه؟!
وهذا الكتاب هو: (الصورة الذاتية للقرآن: الكتابة والسلطة في نصّ الإسلام المقدّس؛ لدانييل ماديغان. المؤلف: يامنة مرمر Yamine Mermer.
والمترجم: هدى عبد الرحمن النمر. ويقصد بالمؤلف هنا مؤلف هذه الدراسة أو هذا العرض لكتاب دانييل ماديغان، أمّا المترجم فقد عرفناه. وأما المؤلف أي مؤلفة الدراسة، فهي "يامنة مرمر" الباحثة التي تقول:
(ومن أهم الكتب التي صدرت في العقود الأخيرة غربًا حول القرآن كتاب دانييل ماديغان (الصورة الذاتيّة للقرآن)، حيث لا نجد دراسة معاصرة تتناول قضايا مثل سلطة النصّ ومرجعيته وعلاقة هذا بأوصاف النصّ عن ذاته، وبالعلاقة بين النصّ حال تنزّله والمصحف المجموع، إلا وتستعيد نتائج هذا الكتاب سواء اتّفاقًا أو اختلافًا أو تعديلًا أو تطويرًا؛ ممّا يزيد أهميّة التعريف به لباحث الدراسات القرآنيّة).
بهذه القطعة من التعبير المبالغ فيه - في تقديري - قُدّم لهذا الكتاب رغم أن هناك دراسات دلاليّة سبقته ووصلت الى نتائج أهم ممّا وصل اليها ماديغان كما رأينا فيما تقدّم في الجزء الأول والثاني من دراستنا هذه، غير أننا لا نريد أن ننهج نفس المنهج في طريقة التعبير حكماً على الكتاب، بل نتابع ما كتب عن قضاياه التي طرحها ومشكلاته التي عالجها بصبر وأناة، ولنرجئ مسألة الحكم على العمل هذه في نهاية المطاف.
قَدّمت (يامنة مرمر) في دراستها إطلالة وافيّة على أهم مرتكزات الكتاب وفكرته المحوريّة حول مفهوم "الكتاب" القرآني ودلالاته، أيضاً وفق تطبيقات المنهج الدلالي، يعني دارت الفكرة المحورية بتطبيقاتها المنهجية حول مفهوم لفظة (كتاب) كما تقرّر المفهوم في القرآن.
قالت الباحثة في إستهلالة لا تخلو من نقد موضوعي من قارئ مُلم بأسباب النزول وبكتب الأديان الكتابية على وجه العموم (كثيرًا ما يُوصَف الإسلام بأنه (دين الكتاب)، ويعتبره كثيرٌ من العلماء المثالَ الأكثر تطورًا لهذا النوع من الدّين؛ ربما لأن كلمات الكتاب تشغل مكانة مركزيّة في معتقد المسلمين وممارستهم أكثر ممّا في الأديان الأخرى. ومع ذلك، لا يُوجد كتاب فِعليّ متمركز في الشعائر الإسلاميّة؛ إِذْ إن مقاربة المسلمين لكتابهم المقدّس شفهيّة بالكامل، فالكثيرون يرتِّلون النصّ المقدّس من ذاكرتهم، ومرَّت سنوات عدَّة بعد وفاة الرسول قبل أن يتخذ شكل كتاب. وبالسؤال التالي الذي سيتم طرحه نفهم المقصود بالصورة الذاتية للقرآن تخريجاً دلاليّاً لكلمة الكتاب حسب رأي المؤلف دانييل ماديغان، ووفق تطبيقات المنهج الدلالي.
فما الذي يعنيه القرآن إذن عندما يُسمِّي نفسه بإصرار: (كتاب)، والتي تُترجَم عادة لـ (Book)؟(
للإجابة عن هذا السؤال، يُعيد دانييل ماديغان النظر في هذا المصطلح الرئيس (كتاب)، كما يَرِد في وصف القرآن عن نفسه. ومن ثَمّ، فمهمَّة هذا المُصنَّف (الصورة الذاتية للقرآن) أن يُسلط الضوء على الدلالات المركّبة لـكلمة (كتاب) في القرآن ولغة كتابته، كما "يسمح بتفسير مفهومه الخاصّ ويتحدّث عن نفسه".
ولتمييز مفهوم القرآن المخصوص للكتاب، يتبنَّى ماديغان استراتيجية مزدوجة: إعادة تقييم الإجماع الذي طالما عقده علماء الإسلام والدارسون الغربيون على حدٍّ سواء عن الكيفية التي يُصوِّر القرآن بها نفسه، وتحديد مقاربة بديلة لا للخبراء في دراسة الإسلام فحسب، بل لكلّ مهتم بالدراسات المقارنة للنصوص المُقدّسة والهرمنيوطيقا.
هكذا تقول الباحثة "يامنة مرمر" عن كتاب الصورة الذاتية للقرآن لدانييل ماديغان، إذْ أرادت أن تتحدّث على لسانه لتستنطقه بما ليس يبديه مع أني لا أعتقد أن النّص القرآني - وفقاً لفكرة كتابي الذاتيّة الخاصّة للقرآن الكريم - لا يقدّم صورة عن ذاته بمقدار ما توجد فيه خصائص ذاتية توجد فيه هو، ولا توجد في سواه، فهذه الخصائص الذاتية نتاج التفاعل الحركي بين القارئ والنص، إذ النّص في ذاته صامت، لا يقدّم عن نفسه صورة ذاتية، وإنما الذي يستنطقه هو القارئ الفاعل، وإذا اختفت تلك الفاعليّة كحركة باطنة حيويّة ذهبت بالخاصّة الذاتية للقرآن في نفس صاحبها، وفي ذاته أيضاً، ومثل هذا التفاعل الحيّ بين النّص القرآني والقارئ هو الذي يخلق عالماً من المعاني واللطائف الروحيّة قلما يخلقه تفاعل آخر بين نصّ وقارئ، حتى إذا ما قلت مثلاً: القرآن كائن حي فقد وصفت الحياة للقرآن ولمن يتفاعل معه، ولمن يتجاوب ويخلق من العوالم معه كل ما هو جديرُ بالحياة، فالكلمات في ذاتها تحيى بمن يحييها ولا يسلبها الحياة سوى من ماتت فيه روافد الحياة.
إذا تقرّر لدينا هذا فأين هى السلطة في نصّ الإسلام المقدّس؟
إذا كان هناك ثمة سُلطة فهي سلطة القارئ يستوحيها من حركة التفاعل مع النّص، فهي سلطة مكتسبة بإزاء التفاعل الحركي فيما هو مشروط أمامه. ولا أعتقد أن صاحب كتاب الصورة الذاتيّة للقرآن يقصد هذا المعنى بوجه من الوجوه.
وتتابع الباحثة أن ماديغان يوضح من البداية أنه يتعامل مع النصّ القرآني بوصفه كُلًّا متماسكًا؛ "لأن هذه هي الطريقة التي يعمل بها داخل المجتمع الذي يُقدسِّه - ينظر له كمصدر للمرجعيّة والسُّلطة - ويستمد منه الهدى. إنّ مفهوم الكتاب موضوع جامع يُعلِن ويؤكد على ذلك التماسك".
وفي المجمل؛ يتبنَّى ماديغان مقاربة نقديّة، وينظر بعين الشك إلى الدلالات المباشرة للكلمات المشتقة من الجذر العربي (ك - ت - ب)، ويأخذ في الاعتبار أقصى ما يمكن تحصيله من دلائل، سواء في النصّ القرآني أو في أجزاء مختارة من التقليد الإسلامي تتعلّق بمجال معانيهم الأول.
ويبدأ بملاحظة أن القرآن يستعمل الكلمات المشتقة من الجذر (ك - ت - ب) في الغالب؛ ليشير ليس للقرآن نفسه، بل لظاهرة مختلفة، مثل إثبات كلّ ما هو مقدور مُسبقًا، في مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِۦ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَة نُؤْتِهِۦ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِى ٱلشَّٰكِرِينَ} (آل عمران ١٤٥) أو قوله تعالى: {كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ ورسلي ۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة ٢١).
أو للأحكام الإلهيّة، في مثل قوله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ قُل لِّلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } (الأنعام ١٢). أو قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًۢا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعْدِهِۦ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام ٥٤).
أو تقرير ما هو موجود، في مثل قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا۟ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ} (يونس ٦١)، أو قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ} (هود ٦). أو إثبات أعمال المرء الحسنة والسيئة في مثل قوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ۘسَنَكْتُبُ مَا قَالُوا۟ وَقَتْلَهُمُ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ}(آل عمران ١٨١).
أو قوله تعالى: { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّنۢ بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ في ءَايَاتِنَا ۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} (يونس٢١).
والكثير من الدارسين يُحمِّل تلك التصنيفات ما تعلَّمَه عن مفاهيم مماثلة في سياقات دينية أخرى، وبالتالي فهموها على أنها كتابات منفصلة. ومع ذلك، يحاجج ماديغان بأن هذه المقاربة لتصنيفات الكتابة تُخفِق في إدراك أن فكرة الكتابة المُثبَتة في القرآن تظهر عدم تحدّد بشكل استثنائي؛ فجزء ممّا يكتبه الله تشريعي، وبعضه يتألّف من أحكام، بينما باقي الكتابة وصفيّة فحسب، وقدر كبير منها يختصّ بالوحي وشرح طبائع الأشياء، بينما في أحيان أخرى، يكشف اللهُ شيئًا عن ذاته بالكشف عما (كُتب) لنفسه.
مع ذلك، وسط كلّ هذا التنوع، ثمة وحدة لا جدال فيها في فكرة الكتابة الإلهيّة. ووفقًا لماديغان، فإنّ استخدام مصطلح وحيد (كتاب) لوصف العديد من جوانب هذه الظاهرة، يشير بذاته لوحدة «تتجاوز مجرد فكرةٍ ما عن مكتبة أو أرشيف».
ومن ثَمّ، يخلص إلى أن مصطلح الترجمة المقبولة عمومًا (Book) لا تُوفي حقّ تعقيدات المصطلح القرآني (كتاب). ويقترح ماديغان أن تكون الترجمة (كتابة writing) عوضًا عن (Book)، ولو مع بعض التحسينات.
هذا كتاب يقرّر في جوهره أنه مُلْزِم ومكتمل وكذلك مبنيّ ومنظم. وتضارب هذه الدعوى الضمنيّة مع الشكل الفعلي للنصّ القرآني هو ما حَدَا بالكثير من الكُتَّاب الغربيين أن يفترضوا أن إنتاج (الكتاب) المُتخيَّل لم يُستكمَل ولا تمَّ.
تلك كانت فكرة الكاتب عن (الصورة الذاتية للقرآن: الكتابة والسلطة في نصّ الإسلام المقدّس) خلال تطبيق المنهج الدلالي على جذر الفعل (كتب) لتصبح مادة الكتاب، وهى الكتابة نفسها، هى الباقية منه.
معنى ذلك؛ أنّ النّص قابل للكتابة والزيادة والإضافة والتطور والتعديل. وعندي أنا أنه قابل لذلك من جرّاء التفاعل الحركي مع قارئه فهو وحده (أي القارئ) من يمتلك الكتابة ثم الزيادة في امتدادات المعنى، والإضافة إلى ذاته المحدودة ذوات نورانيّة يستمدها من النّص القرآني ويعتمدها في ذاته، ليصعد مع التطور في إرتقاءاته الروحيّة والوجوديّة بعد تعديل مساراته وتطوير مسالكه تبعاً لتوجُّهات الكتاب.
ومن غير المقبول لدينا بداهةً أن يُقال أولاً أن القرآن يستعمل الكلمات المشتقة من الجذر (ك - ت - ب)؛ ليشير ليس للقرآن نفسه، بل لظاهرة مختلفة، ثم يراد بتلك الظواهر المختلفة آيات كريمة من القرآن الكريم، حتى إذا ما فصلنا هذه الآيات القرآنية باعتبارها مجرد ظواهر مختلفة عن الكتاب لم نشأ أن نجعل لها جذوراً في القرآن الكريم نفسه، فهي خاصة ذاتية من القرآن لا من مصدر سواه، القران هو الذي وصف تلك الظواهر وحدد مهماتها والقران هو الذي اشار الذى خصائصها وسماتها، حتى ولو كانت الكلمة المراد منها التعقيب هى جذر الفعل كتب.
ومن غير المقبول لدينا بداهةً أن يقال ثانياً إن الشكل الفعلي للنص القرآني قاصر لم يكتمل بعد، ناقصٌ يفتقر إلى التمام؛ اعتماداً على خيال بعض الكُتّاب الغربيين الذين افترضوا أن إنتاج الكتاب المُتخيَّل لم يعد كاملاً، والقرآن يقوم على خاصة ذاتية تقول بصراحة لا مواربة فيها: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلام ديناً). ففكرة نقص التمام والانتقاص من الكمال هى فكرة فارغة من الدلالة لا يعتد بها مع تضاربها وقصور معطياتها، هذا اذا كانت لها معطيات ذات قيمة أو معنى.
تمضي الباحثة "يامنة مرمر" في عرض فصول كتاب ماديغان، ليأتي الفصل الأول، يوضح فيه ماديغان كيف أن هذا الافتراض عن البنية والشكل المناسبين للقرآن لا ينبعان من دراسة الوحي القرآني نفسه، وإنما ممّا يعلمه الدارسون عن بنية النصوص المقدّسة الأخرى ووظيفتها؛ فوفقًا لأولئك الدارسين، لكي يكون (الكتاب) بمثابة السجل الكامل للوحي ودستورًا تشريعيًّا للمجتمع، ينبغي أن تكون له بنية أكثر انتظامًا.
ومع ذلك، لا يجد ماديغان أيّ تلميح في النَّصّ أو التقليد عن أيّ نواقص في القرآن، أو أيّ إشارة إلى أنّ بنيته كانت مُشْكِلة من أيّ وجهٍ وقت وفاة الرسول.
ويقتبس ماديغان من ويلفريد كانتويل سميث الذي يقرّر أن: "المسلمين، من البداية حتى الآن، هم تلك المجموعة من الناس التي تلاحمت حول القرآن". بل ويذهب لأبعد من ذلك في ملاحظته، قائلًا: "تشير الدلائل إلى أنهم ألتحموا حوله حين لم يكن مكتملًا بعد، حين كان ما يزال شفهيًّا وسيروريًّا. لقد ألزموا أنفسهم بالإيمان بإله بدأ تواصلًا مباشرًا معهم، وتجمّعوا حول التلاوات بوصفها عهدًا يُوصّل الهدى من الله لهم، لا لكونها كيانًا نصيًّا محدّد المعالم ومغلقًا بالفعل".
يركز الفصل الثاني: على دحض القرآن نفسه لدليل قيمة الكتابات السماويّة، ورفضه للسلوك على أنه نصّ مدوّن ومغلق بالفعل، ويؤكّد أيضًا على إصرار القرآن أن يظلّ مفتوحًا ومتجاوبًا، ليصير بمثابة صوت الله مستمرًا في مخاطبة البشريّة.
علاوة على ذلك، يشدّد ماديغان على أن (الكتاب) المقصود في القرآن لا يمكن خلطه بتصوّر كتاب معتاد؛ لأن حدود معالمه ليست متبلورة قطعيًّا: فليس من الواضح تمامًا ما إذا كان النصّ (القرآن) هو (الكتاب) كلّه أم جزء منه، وما إذا كان واحدًا من بين كُتُب أم الوحيد. حقًّا إنّ القرآن لا يُعرِّف نفسه بوصفه الكتاب؛ إِذْ يستخدم ضمير الغائب عند الإشارة إليه، والتصريح به، والدفاع عنه، وتعريفه.
حتى الآن، لا يتكلم القرآن عن الكتاب ببساطة باعتباره شيئًا ثابتًا ومنفصلًا؛ لأن تلاوة القرآن هي الوسيلة الوحيدة التي ينجلي بها الكتاب ويتفاعل مع الإنسانيّة.
وهكذا ينتهي ماديغان إلى أن القرآن لا يهتم كثيرًا بالكتابة بوصفها مجرد شكل للكلمة الإلهية، بقدر ما يعنى بمصدر تأليفها وسلطتها وصحتها. ودعوى القرآن عن كونه الكتاب إنما هي مطالبة بالسلطة والمعرفة أكثر من كونها تقريرًا بسيطًا عن شكل احتوائه النهائي.
يعالج الفصل الثالث مهمّة تعيين الحقل الدلالي للغة (الكتابة) في القرآن، في ظلّ الفهم الدقيق لكيفية عمل رمز كتاب في الخطاب القرآني. يبدأ ماديغان بتوطئة تدرس خلفية تحليل (الحقل الدلالي)، وتحليل بعض من تطبيقاته في سياق الدراسات القرآنيّة.
في الفصول الثلاثة التالية، يقدّم ماديغان تحليلًا دلاليًّا مُفحمًا عن وعي القرآن بذاته. فيُحاجج بأن القرآن يرى نفسه لا على أنه كتاب أكتمل، بل عملية مستمرة من الكتابة الإلهية وإعادة الكتابة؛ أي: على أنه تفاعل الله الناشط مع البشريّة، ويبرهن كذلك على تغلغل ظاهرة الكتاب في الخطاب القرآني، ويؤكد في ذات الوقت على خاصيّة البُعد عن التحدُّد فيه. بل إن الفصل السابع في الواقع يستعرض كيف أن ذلك البُعد عن التحدُّد هو سبب عدم إمكان فهم الكتاب باعتباره كيانًا مغلقًا جامدًا.
بمجرّد أن يتم إنتاج كتاب، فإنه يتواجد بشكلٍ مستقلٍّ عن مؤلفه، إلا أن المجتمع المسلم تمتع دائمًا بشعور حيوي عن دوام اتصال المؤلف بمستمعيه، والفصل الختامي يهدف لبيان السُّبل التي من خلالها ظلّ مفهوم الكتاب الأوسع والأكثر ثراءً فعالًا في الإسلام، رغم اهتمام المسلمين الغالب بالكيان المُغلق للقرآن.
يُلاحظ "ماديغان" أنّ قبول المصطلح التقليدي (كلام الله) باعتباره المفتاح لفهم الوحي، هو على الأرجح وسيلة للهروب من مصطلح (كتاب)، الذي صار مرتبطًا في الغالب بـ (المصحف). أما مصطلح (كلام) فيوفر المرونة والتجديد والتجاوب الذي يحظى به (الكتاب) في النّصّ القرآني، وإن لم يعد كذلك في التقليد.
تشكّل (الصورة الذاتية للقرآن) إسهامًا كبيرًا في دراسة القرآن، وفهم الإسلام من داخله، وقد بنَى المؤلف دانييل ماديغان خلاصاته على قراءة مقنعة للقرآن ونصوص رئيسة أخرى، وبنى تركيزه على المصطلح الرئيس (كتاب) على أسس صحيحة، فهو يلعب دورًا مصيريًّا في تعريف طبيعة النصوص المقدّسة، وكذلك مهمّة الرسول، والطريقة المخصوصة لتواصل الله مع البشريّة، والعلاقة بين الخالق والخلق، وصلة الإسلام بالأديان الأخرى.
وعلى الرغم من القبول الواسع الآن لمبدأ أن القرآن ليس مُعتمِدًا نصيًّا على ما سبقه من نصوص مقدّسة، إلا أنه لا يزال يُفترض في كثيرٍ من الأحيان أنه أطلع على محتواها ولو جزئيًّا على الأقل، ونادرًا ما يُقترح أنّ القرآن يمكن أن يعكس الدور الذي لعبته الكتب المقدّسة الأخرى داخل مجتمعاتها في وقت ومكان ظهور الإسلام.
وهكذا، تسلط مقاربة ماديغان للقرآن الضوء على الكيفية التي بها يمكن للقرآن في حقيقة الأمر أن يوضح الطريقة التي ينظر بها لـ (أهل الكتاب) فيما يتعلق بـ (كتبهم).
وفي الملحق، يتحوّل ماديغان إلى الوحي والمصطلحات التي يُعرِّف القرآن نفسه بها، ليرى ما إذا كانت فكرة الكتاب التي نشأت من تحليله الدلالي ستكون ذات معنى لدى الآخرين الذين عرّفتهم ظاهرة الكتاب، ويؤمّل أن هذه المحاولة للقراءة (من) القرآن ما تعلَّمه المسلمون من أهل الكتاب الذين اتصلوا بهم، ستمهِّد الطريق لحوار جديد وإيجابي بين هذه الأديان.
بالإضافة لذلك، تأكيد ماديغان على فهم (الكتاب) باعتباره إمارة على الاتصال بمجمل خطاب الله للبشرية بدلًا من كتاب ساكن ومحدد غاية في الأهمية؛ لأنّ الدعوى الضمنية بالكلية والاكتمال المشمولة في كلمة (كتاب) قد تمهد الطريق أمام (الأصوليّة)، التي تحد حدود كتاب الله بحدود النصّ المُتلقَّي.
ومثل هذا الفهم قد يغدو ذا خطر؛ إِذْ لو تخيّل المرء نفسه في حيازة كاملة للحكمة والمعرفة، بدلًا من كونه متصلًا بالمعرفة من الله، فقد يدَّعِي الهيمنة على فهم الوحي.
وعلى هذا، فمقاربة ماديغان المدروسة جيدًا للقضية المعقّدة الخاصّة باصطلاحات المرجعية الذاتية للقرآن ليست في الحقيقة قراءة جديدة للنصّ، إنها بالأحرَى قراءة متأنية تستند إلى فكرة أنْ ثمة وحدة يرتكز عليها استعمال القرآن للجذر (ك - ت - ب).
قد تظهر مثل هذه القراءة على أنها خروج راديكالي عن النهج الإسلامي التقليدي، إلّا أن الأخير يؤيِّد - ضمنًا في أوجُهٍ عديدةٍ - الموقفَ الذي تبَنّاه ماديغان.
كشَف (الصورة الذاتية للقرآن) النقاب عن الوعي الذاتي المُميِّز للقرآن: فهو يلاحظ ويناقش عملية الوحي الخاصّ به؛ ويؤكِّد على سلطته ويتخذ مكانته في تاريخ الوحي. إنَّ فهم هذا البُعد الديناميكي للقرآن ضروري لفهم الإسلام والهويّة الإسلامية.
من وجهة النظر هذه أيضًا، يعدُّ كتاب ماديغان مصدراً مفيداً للغاية، ليس فقط للخبير في دراسة الإسلام، بل كذلك لكلّ مهتم بدراسة النصوص المقدّسة والهرمنيوطيقا، أي تأويل النصوص المقدّسة.
وتختم الباحثة دراستها بقولها إنّ (الصورة الذاتية للقرآن) طفرة كبيرة، لا في مجال الدراسات القرآنيّة فحسب، ولكن الأهم من ذلك في هرمنيوطيقا النصوص المقدّسة. ومضمونه يمثل تحديًا للمعرفة الغربية التقليدية حول الإسلام، وكذلك للأعمال التي كتبها علماء مسلمون (تقليديون).
تعقيب:
الدراسة مفيدة وجادة وتستحق الاهتمام، وإن كنا نختلف مع دانييل ماديغان من عدّة أوجه ذكرنا أكثرها، ونزيد عليها اختلافاً جوهريّاً قائماً منذ البداية؛ وهو إنه لم يتناول القرآن تناول إحاطة من جميع جوانبه، ليظهر لنا صورته الذاتية، عساه يعرّفنا ما المقصود من وراء هذه الصورة، ولكنه قصر نفسه على تطبيق المنهج الدلالي لمعنى الكتاب، ومن هذه الجزئية المحدودة بنى عليها نتائج تجعل للقرآن صفات ذاتية، وربما يسلب عنه صفاته الذاتية الحقيقة التي لم يكن يصل إلى معرفتها إلا المؤمنون حقيقةً. إنما الاقتصار على تطبيق منهج واحد فقط ثم الادعاء بكشف خصائص ذاتية أو صفات ذاتية للقرآن ظلم كبير ودعوى لا يقوم عليها دليل. لا يكفي الاعتماد على منهج واحد...... للمحطة بالصورة آل الذاتية للقرآن.
لكن عذره أنه يكتب للعقلية الغربية، وينزع فعل القداسة من كتاباته عن القرآن ليوليها منهجه الدلالي وكفى، فهو يقدّس ما عساه يبحث فيه ولا يرى قداسة للموضوع الذي يعانيه.
ولن يؤسفنا أن نقول إنّه ليس في الغرب السياسي، ناهيك عن الغرب الثقافي، من يتذوق معاني القرآن ودلالاته من منبع الوحي المحمديّ بمذاقاته ومشاربه، وعلى الخاصّة المحمديّة، ومعايشة القرآن كما ينبغي أن يُعاش إلا في القليل النادر مع سلامة النية وصدق الإخلاص. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
***
بقلم: د. مجدي إبراهيم