دراسات وبحوث
زهير ياسين شليبه: النثر العراقي المعاصر في الاستشراق السوفييتي
مقدمة لا بدّ منها
يهدف هذا المقال إلى استعراض لأغلب دراسات المستشرقين الروس والسوفييت عن النثر العراقي المعاصر، وبيان موقعها في النقد الأدبي السوفيتي وأهميتها. ومن المفيد أن نذكر هنا أننا ارتأينا الإيجاز والتوقف عند المسائل المهمة، مثل تحديد المدارس الأدبية التي كان ينتمي إليها الأدباء العراقيون قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، وأهم القصص الفنية ومراحل النثر العراقي وغيرها من القضايا النقدية التي لم تحسم بعد في النقد الأدبي العراقي.
اهتم المستشرقون الروس ومن بعدهم السوفييت بقضايا الأدب العربي في مصر وسوريا ولبنان بشكل خاص، بينما بقى الأدب العراقي المعاصر بعيدا عن مركز اهتمامهم. وبلا شك أن الأسباب كثيرة إلا أننا نستطيع أن نخمن العائق الرئيسي إلا وهو انغلاق العراق في تلك الفترات وعزلته الكبيرة عن العالم، لا بل عن الوطن العربي كله.
وفي الحقيقة إن حركة الاستشراق الروسية في بداية نشاطها لم تدرس الأدب العربي المعاصر لعدم توفر المصادر لديها. ولهذا اهتم المستشرقون الروس في بداية أبحاثهم الأولى بدراسة تاريخ الأدب العربي القديم بمختلف مراحله. ولم نعثر على بحث مكرس للأدب العربي المعاصر في المرحلة الأولى من حركة الاستشراق الروسية، ما عدا مقال المستشرق الروسي المعروف كريمسكي أ. ي (1942-1871) عن الشيخ علي الطنطاوي الذي كان يعمل أستاذا في جامعة بطرس بورج، وبلا شك أن عمل الأخير في هذه الجامعة هو السبب الحقيقي في اهتمام كريمسكي بأدبه(*).
وبظهور المستعرب الروسي الكبير إغناطيوس كراتشكوفسكي (1951-1883) دخلت حركة الاستشراق الروسية والسوفيتية مرحلة جديدة، غنية بالأعمال والنشاطات العلمية والتعليمية، كان نتيجتها أن ظهر جيل من المستشرقين الجادِّين مثل آنّا أرداديفنا دولينينا وفاليريا نيكولايفنا كيرييتشينكو وأولجا فرولوفا وكمال عصمانوف وغيرهم. وكان إغناطيوس كراتشكوفسكي أول من كتب عن الأدب العراقي في حركة الاستشراق الروسية كلها.
لقد تضمن مقاله الأول عن الأدب العراقي “الأدب العربي المعاصر” الذي كتبه في بداية الثلاثينات، معلومات ليست عن الشعر فحسب بل عن النثر أيضًا. وأشار الكاتب في هذا المقال إلى وجود قصاصين مثل محمود أحمد السيد، وأنور شاؤول، وذو النون أيوب من الذين يمثلون الجيل الأول من الناثرين العراقيين المعاصرين ممن أصبحت لهم مكانة وشهره كبيرة في الحياة الثقافية العراقية(1).
وتناول إغناطيوس كراتشكوفسكي الأدب العراقي في مقال آخر أيضًا ونشره بعنوان “نبذة تاريخية موجزه عن الأدب العراقي” وتطرق فيه إلى الشعر أكثر من تطرقه إلى النثر. لقد أشار كراتشكوفسكي في هذا المقال إلى علاقة الأدب العراقي الوثيقة والنثر بشكل خاص بالواقع الاجتماعي المعاش وانعكاسها في الأعمال الأدبية.
وتحدث أيضًا عن ترسخ التقاليد الواقعية في الأدب العراقي المعاصر وتأثير المحدثين المصريين على كتاب العراق آنذاك(2).
ثم حظيت القصة العراقية بنبذة تاريخية موجزه نشرها المستعرب السوفيتي دانيال يوسوبوف(3) تناول فيها أعمال الكاتب العراقي المعروف ذو النون أيوب بشكل خاص. وقدم فيها وصفا سريعًا لمراحل تطور الأدب القصصي في العراق وثبَّت أيضًا ظهور اتجاه أو مدرسة “الواقعية الجديدة” التي مثلها غائب طعمه فرمان وغيره من أدباء ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكتب الباحث الراحل يوسوبوف مقالا صغيرا آخر عن الأدب العراقي بشكل عام، ورغم أننا لا نجد شيئًا جديدًا فيه إلا أنه مع ذلك أسدى خدمة كبيرة للثقافة العراقية ولحركة الاستشراق السوفيتية من خلال مشاركته في الموسوعة الأدبية(4).
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن هذه المقالات اتسمت بالتوصيف الموجز والسريع لكنها تضمنت في الوقت نفسه أفكارًا قيمِّة عُولجت وطُوّرت فيما بعد في اطروحات المستشرقين الروس الآخرين.
وإضافة إلى هذه المقالات المذكورة أعلاه نلاحظ أن الاهتمام بالنثر العراقي أخذ يزداد في السنوات اللاحقة أيضا. ولقد تعدى هذا الاهتمام بالنثر العراقي حدود المقالات السطحية عنه، بل وصل إلى مستوى ترجمة بعض آثاره.
فقد صدرت ولأول مرة في الاستشراق الروسي السوفيتي مجاميع قصصية لكتاب عراقيين مثل “قصص الكتاب العراقيين”(5) وهي أول مجموعة قصصية عراقية مترجمة إلى اللغة الروسية. وتضمنت هذه المجموعة قصص رواد القصة العراقية مثل محمود أحمد السيد وأنور شاؤول وذو النون أيوب إضافة إلى قصص الجيل الثاني مثل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمه فرمان ومهدي عيسى الصقر وغيرهم.
نقرأ في مقدمه المجموعة التي كتبها المترجم فلاديمير شاغال عن ترسخ التقاليد الواقعية، وتأثير الواقعية الأوروبية الغربية، وتأثير الأدب الروسي على الأدب العراقي.
كذلك أشار ولأول مرة في الاستشراق الروسي السوفيتي إلى القاص المبدع الموهوب عبد الملك نوري وزميله الذي لا يختلف عنه كثيرًا من حيث الأسلوب، القاص والروائي فؤاد التكرلي، تنتمى أعمالهما إلى “الاتجاه السايكولوجي”. ويرى أن قصص المجموعة الأخرى مثل غائب طعمه فرمان، شاكر خصباك، أدمون صبرى ومهدى عيسى الصقر وغيرهم من القصاصين العراقيين “الخمسينيين” تنتمي إلى اتجاه “الواقعية الجديدة”.
ثم صدرت “عصيده وشمس”(6) وهي أيضًا مجموعة قصص عراقية مترجمه إلى الروسية وتحمل اسم إحدى قصص الكاتب العراقي، الروائي المعروف غائب طعمه فرمان المترجمة ضمن هذه المجموعة. وكررت المستعربه السوفيتية باتسييفا في مقدمتها لهذه المجموعة نفس المسائل التي سبق وأن تطرق إليها المترجم شاغال.
إلا أن المستعربة باتسييفا أكدت الطابع التشاؤمي الذي اتسم به “الاتجاه السايكولوجي” إضافة إلى الشعور بلا جدوى النضال من أجل الحياة ووصف العالم الداخلي للأبطال والعالم المحيط بهم من منطلقات تعاني من الإحباط النفسي.
وفي عام 1967 دافعت المستعربه الشابه م. عماروفا في معهد العلاقات الدولية عن أطروحتها الموسومه “حياة وأعمال ذو النون أيوب رائد القصه القصيرة العراقية”(7). غير أنها تركت النقد الأدبي بعد تخرجها حيث أخذت تعمل في مجال تعليم اللغة العربية في المعاهد.
تكمن أهمية دراستها في كونها أول اطروحة دكتوراه في الاستشراق السوفيتي عن النثر العراقي، وأول دراسة أكاديمية في النقد الأدبي العربي والسوفييتي عن ذو النون أيوب القاص العراقي الذي دوخ الحكم الملكي المباد بقصصه الكثيره والذي قام بدور ملحوظ في تطوير القصة القصيرة وفي تنشيط الاهتمام بالأنواع النثرية المعاصرة بشكل عام. وبرأينا أن تقييم أعمال ذي النون أيوب وكشف أهم خصائص ابداعه يتطلبان دراسة موضوعية لكل جوانب المجتمع العراقي ومشاكل تطوره الاقتصادي والسياسي والثقافي.
ويجب دراسة أعماله القصصية جنبًا إلى جنب مع معالجة الأنواع الصحفية التي اثرت إلى حد كبير على قصصه وبحث تطورها فمن الخطأ الكبير أن نحاكم الآن الكاتب ذو النون أيوب من منطلقات ومفاهيم نقدية معاصره كانت بعيدة عن أذهان كتاب تلك الفترة، وهذا ما انتبهت إليه المستعربه عماروفا على عكس العديد من النقاد الصحفيين العراقيين.
عالجت م. عماروفا في الفصل الأول من أطروحتها مختلف جوانب التطور التاريخي للأدب العراقي المعاصر، وبَيَّنت مكانة النثر فيه. ومن أهم المسائل التي تناولتها في الفصل الأول مسألة عدم تمكن رواد القصة الأوائل من طرح وتقديم شخصيات أدبية نموذجية حية تتسم بملموسية الحياة، وحدث هذا الأمر بسبب اسقاط أفكارهم على هذه الشخصيات الأدبية.
كذلك أشارت إلى سبب تأخر النثر عن الشعر وهو غياب المدرسة الأدبية الحقيقية وغياب التقاليد في مجال النثر الذي أثر تأثيرا سلبيا على نتاجات الرواد.
“ولهذا – والحديث للباحثه – فكثيرا ما نرى أن القصاصين الأوائل، انشغلوا بالوصف السريع لبعض الحالات الاجتماعية، أو لصور مأخوذه من الواقع المحلي”(8). والغرض من هذه “اللعبة الفنية” بالطبع هو جذب القارئ، لا بل إثارة همومه ومشاعره وأحاسيسه. إن مثل هذه القصص لا تمتلك أهمية كبيرة لا من حيث الشكل ولا المضمون.
لكنَّ هؤلاء القصاصين تناولوا بعض الموضوعات الحيوية المأخوذه من الواقع الاجتماعي، ولكن أهم ما ينقصهم هو المهاره الفنية والأسلوب الأدبي، ومع هذا فإن لأعمالهم أهمية من حيث دراسة تاريخ الأدب(9). إن هؤلاء الكتاب فعلاً عكسوا بأعمالهم النثرية مستوى تطور الأنواع النثرية في العراق والقصة خاصة.
وتطرقت عماروفا إلى العلاقة بين اللغة الأدبية واللهجات المحلية باعتبارها من أعقد المسائل التي تواجه الأدباء العرب إلا أنها لم تعالج هذا الموضوع بالتفصيل، ولهذا لابد لنا من التوقف عنده قليلا وإعطاء رأينا حوله.
لقد مارست بعض المفاهيم النقدية الكلاسيكية التي دعت إلى رفض اللهجات المحلية رفضًا قاطعًا ودعت الكتّاب إلى الالتزام باللغة الرفيعه فقط، مارست هذه الأفكار تأثيرها السلبي البالغ على بعض الأدباء العرب حتى في وقتنا الحالي. لم يميز هؤلاء الأدباء بين مستويات اللغة العربية الأدبية والفصحى ولغة الصالونات “الرفيعة” فنراهم يقدمون للقارئ شخصيات أدبية تتحدث بلغة رفيعة رسميه، متكلفه، متحذلقه بعيدة عن الواقع مما يفقدها حيويتها ويبعدها عن أن تكون نموذجيه حقا فيطلع القارئ على أبواق تصرح بأفكار الكاتب، وليس على شخصيات أدبيه.
ويحدث العكس أحيانا إذ كثيرا ما يقع بعض الكتاب وخاصة أغلب الواقعيين في أسر رومانسية اللهجة المحكية الاجتماعية الشارعية المحلية التي يتكلم بها أبطاله لدرجة أنه يطوّع الحروف العربية المطبوعة إلى اللفظ المحكي المحلي!!. وكثيرا ما يتصور قسم آخر من الكتّاب أن إغراق العمل الأدبي باللهجة المحلية من شأنه أن يرفع من قيمته بل إن بعض النقاد يتصور أن الكتابه باللهجة الشعبية اليومية موقف تقدمى والالتزام بالفصحى موقف متخلف.
إن الفارق الكبير بين اللغة العربية الفصحى ولغة الشارع كان ولا يزال من أعقد المسائل في النثر العربي المعاصر، رغم أنها ليست مقتصرة على الأدب العربي وبعض الآداب الشرقية الأخرى فنحن عندما ندعو الكتاب، بل نطالب ونحرص في الوقت نفسه على تقديم أعمال أدبية واقعية مشبعه بشخصيات نموذجية أدبيه أصليه، ندعو أيضًا إلى تقريب اللهجة المحلية ورفعها إلى مقام اللغة العربية الفصحى لا إغراق العمل الأدبي باللهجات المختلفة التي قد تعيق التطور اللغوي للقارئ وندعو إلى أن يمارس الأديب دوره في تطوير لغة القراء وثقافة المجتمع. إن العمل الدؤوب والمواصلة والدقه المتناهية في اختيار المفردات، التي يتحدث بها الأبطال يساعد الكتاب على خلق لغه وسيطه، هجينه، مزيج من العامية الرفيعه المنقحة أو المترجمة إلى الشكل اللغوي الانقى والفصيح.
إن البحث المتواصل هو الذي سيرشد الكاتب ويدله نحو تلك المفردات الفصيحه النموذجية الجمالية المستخدمة في العامية وإلى عدم الاهتمام والانشغال بالفروق اللفظية والصوتية، وفي طرق نطق مخارج الكلمات في اللهجات العربية. فمن الخطأ مثلا التأكيد على الفاظ مثل “ﭽان، ﮔلت” وغيرها من الكلمات والألفاظ العراقية والخليجية وبعض مناطق فلسطين وإلخ في حين يمكن أن نقول: “كان، قلت”، بلا شك أن القارئ العراقي مثلاً في هذه الحالة سيقرأها كما يلفظها في العامية أو بالأحرى سيتذكر لفظها العامي اليومي ولكن هذا يساعد من ناحية أخرى على فهم العمل من قبل القراء العرب وعلى رفع المستوى اللغوي وعلى تعود القراء على اللفظ الفصيح.
وذكرت الباحثه عماروفا القصص التالية: “بداي الفايز” لمحمود أحمد السيد، “مجنونان” لعبد الحق فاضل، “الرجل الصغير” لعبد الملك نورى، ومجموعة “عهد جديد” لشاكر خصباك كأفضل قصص فنيه حتى بداية فترة الخمسينات. وأشارت أيضا إلى افتقار أغلب القصص ذات المضامين الجيدة إلى أشكال فنيه متطورة. ولهذا فإن القصص الأولى أقرب إلى المقاله من النثر القصصي الفني، وفي الحقيقة هي أقرب إلى الأنواع الصحفية بشكل عام التي تعتمد على السرعة والارتجال.
أما عن سبب ضعف الأشكال الفنية فترى الباحثه أنه حدث بسبب تسرع الكتاب وانشغالهم لا بإخراج أعمال أدبية متكاملة، بل إلى إثارة القراء للاحتجاج ضد الأعمال اللاديمقراطية التي مارستها الحكومة الملكية، فظهرت أعمالهم القصصية بأشكال متعارف عليها في الكتابات الصحفية والمقالات الاجتماعية(10). وأعتقد أن هذه القصص المبكرة تنتمى قبل كل شيء إلى نوع التحقيقات الوثائقية، أو الكتابات التي تعتمد على الحقائق والمشاهد اليومية لشد انتباه القارئ ولتحقيق هذه معاً بأقصى سرعة ممكنه.
وهكذا فإنها مهدت في الفصل الأول لدراسة الحياة والنشاطات الأدبية في العراق، ثم درست في الفصلين اللاحقين من الأطروحة أعمال ذو النون أيوب.
لقد تناولت عماروفا بشكل مفصل كل أعمال ذو النون أيوب وأشارت إلى الجوانب الإيجابية والسلبية. وفي الحقيقة أنها اتبعت “المنهج الموضوعي” في دراسة ذو النون أيوب. فهي كثيرا ما تشيد بالمضامين الإيجابية وتشرحها بالتفصيل في صفحات كثيرة لكنها تخرج باستنتاج يفرغ مدحها له من محتواه، كأن تؤكد على الضعف الفني وسوء اللغة التي تتسم بالإنشائية المليئة بالتعليقات السياسية والاجتماعيه.
ومع ذلك فنستطيع أن نقول إنها وضعت النقاط على الحروف في دراسة أعمال ذو النون أيوب من مختلف جوانبه. وأسدت بعملها العلمي هذا خدمة كبيرة للاستشراق الروسي والسوفييتي من الناحيتين النظرية والتطبيقية فهي (الأطروحة) تدخل ضمن مناهج تدريس الأدب العراقي المعاصر في موسكو. ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن أهمية أطروحتها لا تقتصر على حركة الاستشراق السوفييتي والعالمي بل على الثقافة العراقية والنقد الأدبي في العراق. وكان المفروض أن تقوم الهيئات المعنية بترجمتها إلى اللغة العربية ونشرها بكتاب خاص لما فيه من فائده للقراء وللنقاد، ولا سيما في تلك الفترة، أي من عام 1967 حيث لم تنشر آنذاك دراسات عن رائد القصة “المقاتلة” ذو النون أيوب.
الدكتورة نرمين خانم سلطانلي والقصة العراقية:
ولا تقل أهمية أطروحة أخرى كبيرة وهامة هي “الواقعية الجديدة في القصّة العراقية بعد الحرب العالمية الثانية”(11) للمستشرقة الاذربيجانية الدكتورة نرمين خانم سلطانلي. وقد أشرفت على هذه الدراسة المستعربة الكبيرة آنا آركادييفنا دولينينا ولهذا يمكن للقارئ ملاحظة الأفكارالجدية والحيوية وكثرة المصادر وخاصة في الفصل الأول الذي تناولت فيه أغلب جوانب الحياة الثقافية في العراق منذ بداية القرن حتى نهاية الخمسينات. ولعل من أهم المسائل التي عالجتها سلطانلي بدقة، هي مسألة تحديد الأجيال أو المراحل الأدبية، وهي قضية معقدة تخبط بها أكثر النقاد في العراق وهي الأخرى لم توفق برأينا في حلها تمامًا. تقسم سلطانلي مراحل تطور النثر العراقي إلى ثلاث مراحل يمثل كل منها جيلاً من القصاصين:
الجيل الأول: ظهر ممثلو هذا الجيل في بداية العشرينات، وهم الرواد في مجال القصة مثل محمود أحمد السيد، ذو النون أيوب، عبد المجيد لطفي، عبد الحق فاضل، وأنور شاؤول وغيرهم.
وأما الجيل الثاني: فهو جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ويمثله عبد الملك نوري، عبد الله نيازي، أدمون صبرى، غائب طعمه فرمان، فؤاد التكرلي، جبرا إبراهيم جبرا، نزار سليم، مهدي عيسى الصقر وغيرهم.
والجيل الثالث والأخير: جيل الكتاب الشباب الذين بدأوا نشاطهم الابداعي بعد ثورة 14 تموز 1958. وتذكر الدكتورة نرمين خانم سلطاني من هؤلاء الشباب مثلاً: على سهيل، محمد كامل عارف، محمد خضير، موسى كريدي وغيرهم(12).
إن تقسيم مراحل الأدب يجب أن يعتمد على الأحداث التاريخية والتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة والتي تهز المجتمع كله وهذا ما لم يأخذه بنظرالاعتبار كل من كتب عن هذا الموضوع في النقد الأدبي العراقي، ونحن نتفق من حيث المبدأ مع الدكتورة نرمين خانم سلطانلي وسنرجع في مقال آخرإلى هذا الموضوع بتفصيلات أخرى لم تتطرق إليها الباحثة.
أما عن أزمة الشكل الفني في قصص ما بعد الحرب العالمية الأولى فلم يكن رأيها ليختلف عن وجهة نظر عماروفا. فهي أيضا ترى أن أغلب قصاصي الجيل الأول وبعض الناثرين الشباب انشغلوا في المضمون وتركوا الشكل بسبب افتقارهم إلى الممارسه والخبرة، وحدّة التغيرات السياسية والاجتماعية في العراق، فكان يهمهم أن تصل أفكارهم أكثر بكثير، من اهتمامهم بطريقة طرحها كان المهم عندهم الفكرة لا الشكل الفني. وذكرت بعض الأعمال الأدبية التي تعاني من هذا الضعف مثل قصة “جلال خالد” لمحمود أحمد السيد فاعتبرتها “بعيده عن الكمال الفني بسبب هزالة البناء ولكون شخصياتها مفترضة من وعي الكاتب لا من الواقع..”(13).
ونحن هنا لا نتفق مع الدكتورة نرمين خانم سلطانلي لأن محمود أحمد السيد لم يسقط أفكاره على الشخصية الرئيسة (جلال خالد) بقدر كونه اعتمد على السيرة الذاتية إضافة إلى سيرة أصدقائه المثقفين في بنائها وهذا يعني أنها تمثل شريحة معينة من مثقفي العراق آنذاك. ولهذا نلاحظ الشبه الكبير بين جلال خالد ومحمود أحمد السيد وحياة المثقف العراقي الأول المعروف حسين الرحال، بل حتى بالأحداث التي مر بها الكاتب.
أما فيما يخص هزالة البناء وبعدها عن الكمال الفني فهذا صحيح وهو واضح وأن الكاتب نفسه لم يرفض هذا الرأي بل أكده في أكثر من مناسبه ولهذا سماها “قصه عراقية موجزه”.
أي أنها ليست رواية حقيقية “من ذوات التحليل والصراع النفسي” على حد تعبير السيد نفسه. لا شك أن السيد كان بحاجة إلى الممارسة والخبرة وكثرة التجارب الحياتية لكن مرضه ثم موته المفاجئ ضيع على الأدب العراقي فرصة ظهور كاتب متطور في تلك الفترة، كان يمكن أن يثريها بأعمال جيده وكان يمكن أن يأخذ بيد القصاصين الشباب الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الثانية والذين تخبطوا في بداية حياتهم الثقافية وبدأوا من الصفر، فانقسم هذا الجيل إلى اتجاهين: “الاتجاه السايكولوجى” واتجاه “الواقعية الجديدة”. الأول يمثله عبد الملك نوري الذي تأثر كثيرا بالأدب الفرنسي والثقافة الأوربية بشكل عام وبالطرق التعبيرية التي استخدمها المجددون الأوروبيون فنلاحظ في الوقت نفسه أن قصصهم تضمنت طروحات عن بعض المواضيع الاجتماعية وبطلهم هو في الحقيقة نموذج للإنسان الصغير، كما هو عند غيرهم من الكتاب الواقعيين. “إلا أن هذا الإنسان الصغير ليس عضوا في المجتمع أو في طبقه ما من الشعب بل إنسان يعاني من الوحدة والتشرد وهو ضعيف يقف مكتوف الأيدي أمام القدر”(14).
وأكدت سلطانلي على “النزعة التشاؤمية التي اتسمت بها أغلب أعمال هذا الاتجاه وولعهم في التحليل السايكولوجى وهم بشكل عام لم ينشغلوا كثيرا في وصف الظروف الاجتماعية والعالم الخارجي وعلاقة هذا العالم بالبطل بل الاهتمام فقط بعالم الشخصية الأدبية الروحي.
إن ولعهم الشديد في الولوج بالعالم النفسي للبطل أعاق كثيرا من عكس الواقع المحيط به...”(15) نرى أن سلطانلي بالغت بعض الشيء في تضخيم الغربه والتشرد التي يعاني منها الإنسان الصغير في أعمال ممثلي هذا الاتجاه ولهذا أشارت إلى أن عبد الملك نوري مثلا هو أول كاتب عربي تتلمذ على يد جويس وتأثر بالذات بروايته الشهيره “عوليس” إلا أنه لم يتأثر تأثيرا مطلقا بطريقته الإبداعية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى العزلة التامة عن الواقع المعاش(16). واعتبرت قصة “مجرى الدم” من أفضل القصص العراقية شكلا ومضمونا، لكونها تتسم بالواقعية.
نرمين خ. سلطانلي وفؤاد التكرلي:
سبق وأن قلنا في هذا المقال إن سلطانلي تضخم "الخطأ" الذي وقع به الكتاب “السايكولوجيون” في بعض قصصهم ونقصد به الاهتمام فقط بالعالم الداخلي للأبطال وإسقاط إرهاصات وحالة الإحباط التي يعاني منها الكاتب وهو يمثل المثقفين، على شخصيات بسيطة لا علاقة لها بهذا النمط من التفكير.
ولهذا نراها تعطي رأيها بفؤاد التكرلي بطريقة مبالغ بها كثيرا فهي تقول عنه: “إن كل أعمال فؤاد التكرلى مليئة بالنظرة المتشائمة للعالم وعدم الإيمان بالإنسانية ولا بقدرة الإنسان على الوقوف ضد الظلم”(17).
وفي الحقيقة، إنها تعتمد في رأيها هذا على بعض الأفكار المتشائمة في قصة “العيون الخضر” بالذات(18). وترى سلطانلي أن مثل هذا النوع من التفكير لا يمكن أن يكون مصدراً للأفكار الإيجابية. وانتقدت الباحث العراقي المعروف على جواد الطاهر الذي حاول تبرير هذه الأفكار في كتابه “في القصص العراقي المعاصر” حيث أشار إلى أن هذه الأفكار لم تكن غريبه على المثقفين العراقيين.
شهدت الخمسينات ظهور الأفكار الوجودية وانتشار النزعات التجديدية في الأدب لكن هذا لا يبرر إسقاط هذه الأفكار على شخصيات همها اليومي تأمين كسرة خبز تسد بها رمقها. لقد أثبت التكرلى في “الرجع البعيد” التي صدرت مؤخرًا في العراق بأنه فعلا متمكن من الكتابة الروائية بشكل خاص، وأن شخصية المثقف الذي يعاني من كل الأزمات النفسية أقرب إلى الكاتب، ولهذا فإنّ وسائله الأدبية المتطورة في تصوير العالم الداخلي لهذه الشخصيات ساعده كثيرا على كشف العالم الرحب لمختلف الناس. ولقد أثبت فؤاد التكرلى ب “الرجع البعيد” أنه يكن حبا عميقا لشخصياته وأنه يتفاعل مع الأحداث لكنه يجيب عن أسئلة الواقع بطريقة أخرى تختلف عن غيره من الكتاب.
وبلا شك أن التكرلى أولى وما زال يولى اهتماما كبيرا لعالم البطل الداخلي ووصفه ولا ننكر وجود بعض الأفكار "المتشائمة" في قصصه بسبب "تأثره" بالفكر الوجودى، أو اهتمامه به، لكن هذا لا يعني ولا بأية حال من الأحوال أن أدبه لا ينتمي إلى التيار التقدمي القومي الديمقراطي. ولا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن مصطلح الاتجاه السايكولوجى ليس دقيقا وهو لا يمارس وظيفته بشكل مطلق ولا ينطبق تماما على أدب التكرلى وعبد الملك نورى وغيرهما من الأدباء العراقيين من ذوى النزعات الوجودية لأنهما وإلى حد ما غائب فرمان أرادوا الاستفادة منذ بداية نشاطهم الأدبي من المهارة الفنية التي اكتسبها الكتاب الروس والغربيون أمثال تولستوي و دوستوييفسكي وجويس ووليم فوكنر وغيرهم، فخرجت أعمالهم بمسحه واقعية فنية غير مباشرة بسبب تعمّقهم بوصف الإنسان والمجتمع.
إلا أن هذا الإنسان يائس ومحبط في أغلب قصص التكرلى ونورى بعكس بطل “الواقعية الجديدة” في بدايتها، الذي هو في الحقيقة أقرب إلى بطل “الواقعية الاشتراكية” عند بعض القصاصين (عبد الرزاق الشيخ علي وغائب طعمه فرمان في مجموعته الأولى “حصيد الرحى” مثلا).
ومن الضرورى أيضا الإشارة إلى أن الانغمار بالعالم الروحي للشخصية بمعزل عن وصف فاعليته في المجتمع لا يعني دوماً المهارة الفنية التي يمكن أن تُكتسب بالتجربة الحياتية ومن خلال الكتابة اليومية عن النشاطات الكبيرة. ولهذا نرى أن بعض الكتاب الواقعيين الموهوبين يتركون وسائلهم الأولى التي استخدموها في بداية حياتهم الإبداعية، فيتوغلون في العالم النفسى للفرد وهذا لا يعني ابتعادهم عن الواقعية لأن الفرد عندهم دائما مرتبط مصيريا بالمجتمع. لذلك سميت هذه الواقعية “بالواقعية السايكولوجية” من قبل بعض النقاد وهنا يكمن الفارق الجوهرى بين كتاب “الواقعية الجديدة” و”المدرسة السايكولوجية” إلا أن أدب ممثلى المدرستين صب في تيار واحد هو التيار الوطني التقدمى كما سبق وأن ذكرنا ولهذا بالذات فنحن لا نتفق مع الدكتورة نرمين خانم سلطانلى في تحميل فؤاد التكرلى “ذنوب” لا علاقة له بها فهي تقول: “أما الفلسفة التشاؤمية التي تميز بها التكرلى فقد زادت من الطين بله إذ عمقت من المصاعب التي عانى منها الشعب العراقي في تلك الفترة”(19).
ونحن نرى أن هذا اتهام خطير وغير علمي ويجب أن يوجه فقط لممثلى التيار الأدبي الرجعى إن وُجد. ثم تناولت سلطانلي أعمال أدمون صبرى وشاكر خصباك ومجموعة غائب طعمه فرمان الثانية (مولود آخر) من مختلف الجوانب الفنية، من حيث المضمون والشكل وعلاقتها بحياة المجتمع. وهي أيضاً كزميلتها المستعربة الدكتورة عماروفا اهتمت كثيرا بمضامين أعمال هؤلاء القصاصين.
وهناك أطروحة دكتوراه أخرى دافع عنها ب. ف. تشوكوف عن الرواية العراقية(20) وصاحبها لا يزال يعمل في معهد الاستشراق بموسكو ويكتب بعض المقالات والدراسات عن الأدب العراقي. ومن الجدير بالذكر أنه أصدر في الفترة الأخيرة مجموعة قصصيه لأغلب الكتاب العراقيين. وعالج هذا المستشرق في أطروحته نفس المسائل التي تطرق إليها الباحث والناقد العراقي المعروف الدكتور عبد الإله أحمد في كتابه “نشأة وتطور القصة العراقية”..
أخيرا لا بد لنا من الإشارة إلى أن بعض المستشرقين الذين كتبوا عن النثر العراقي تركوا العمل في هذا المجال (مثل عماروفا وسلطانلى) واتجهوا إلى أعمال أخرى في مجال الاستعراب لكنها لا تمس الأدب العراقي.
وإن الهدف من بعض الأطروحات التي أشرنا إليها، لم يكن ليتعدى حدود الحصول على درجة الدكتوراه، ولهذا لم تظهر كتب خاصة عن الأدب العراقي كما هو الحال بالنسبة للأدب العربي في مصر وسوريا، حيث نشرت عنه كتب قيمه قام بتأليفها مستعربات بارزات مثل دولينينا وفرولوفا وكيربيتشينكو وغيرهن.
ونود أن نشير هنا في ختام مقالنا هذا إلى ضرورة إرسال المؤلفات العربيه بمختلف الطرق إلى المكتبات الأجنبية في الخارج. ونعتقد أن هذه المهمة، تقع على عاتق الجمعيات الأدبية والمهنية في كل قطر من الأقطار العربية، لكي يستفيد منها المستشرقون ويتناولوها في دراساتهم، ولكي لا تقتصر أبحاثهم على الأعمال الأدبية القليلة، وتكون النتيجة سلبية بالنسبة لثقافتنا العربية في الخارج.
أخيرًا لا بد من الإشادة، بشكل عام بالمنهج العلمي الموضوعي الذي يلتزم به بعض المستشرقين القديرين، الذين يكنّون حبًا كبيرًا للأدب العربي. ولهذا لا بد من متابعة نشاطاتهم العلمية وتشجيعهم والعمل على ترجمة كتبهم القيمة إلى اللغة العربية لفائدة القراء والطلاب العرب. ومن الضروري أيضًا متابعة أبحاث المستشرقين ومراقبتها في كل العالم للتصدي لكل ما يسيء لثقافتنا العربية وأصالتها، وتشجيع المبادرات الإيجابية منها.
***
الدكتور زهير ياسين شليبه
...........................
* نُشرَ هذا المقال في مجلة البديل، العدد 8، حزيران يونيو 1986، بيروت
- ومن الجدير بالذكر أن كراتشكوفسيكي ألف كتابًا عن الطنطاوي أيضًا. أنظر: كراتشكوفيسكي. الشيخ الطنطاوي بروفيسور جامعه بطرس بورج. لينبنغراد 1929.
(1)- كراتشكوفسكي. الأعمال الكاملة. موسكو – لينينغراد 1956 المجلد الثالث ص65.
(2)- نفس المصدر ص 87.
(3)- يوسوبوف د/ الأدب العربي. موسكو، 1964.
(4)- يوسوبوف د/ الأدب العراقي. الانسكلوبيديا الأدبية الموجزة. موسكو 19 المجلد الثالث ص166.
(5)- قصص الكتاب العراقيين. موسكو 1961.
(6)- عصيده وشمس. موسكو 1965.
(7)- م. عماروفا. حياة وأعمال ذو النون أيوب رائد القصة القصيرة العراقية. موسكو. 1967 بالروسية.
(8)- نفس المصدر السابق. ص 430.
(9)- نفس المصدر السابق. ص 44.
(10)- م. عماروفا. نفس المصدر السابق. ص (102-101).
(11)- ن. خ. سلطانلي. "الواقعية الجديدة" في القصة العراقية بعد الحرب العالمية الثانية. باكو. 1972.
(12)- خ. سلطانلي. نفس المصدر. ص (5-4).
(13)- سلطانلي. نفس المصدر. ص 54.
(14)- سلطانلي. نفس المصدر. ص 69.
(15)- سلطانلي. نفس المصدر. ص69.
(16)- سلطانلي. نفس المصدر. ص70.
(17)- نفس المصدر. ص72.
(18)- فؤاد التكرلى. الوجه الآخر. بغداد 19 ص 97.
(19)- سلطانلى. نفس المصدر. ص 72.
(20)- ب.ف.تشوكوف. ترسخ نوع الرواية في النثر العراقي المعاصر (1954-1919). موسكو. 1970.