دراسات وبحوث
محمد بنيعيش: التاريخ الروحي والقياس النفسي لمعرفة النفس في القرآن
أولا: الاعتبار التاريخي كميدان للملاحظة والتجربة
حينما نقرأ القرآن الكريم بتدبر وحضور فكري وروحي نجده يحدد مسار السلوك الإنساني على مستوى واقعي متسلسل يحدد نوعية وحدة توجه الأشخاص العقدي أو السلوكي، أعرض لنموذج منه في قول الله تعالى: "المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون، وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم، ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلافهم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا. أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون. ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والموتفكات، أتتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"[1].
فلقد تضمنت الآيات، علاوة على وحدة المواقف الجماعية الشاردة، إشارة إلى امتداد هذه المواقف على المستوى التاريخي وتشابهاته، وبهذا يدخل القرآن الكريم عنصر التاريخ في مناهج معرفة النفس كأهم الوسائل الاستكشافية لها ومعرفة قوانينها وخلفيات سلوكها.
هذا العنصر التاريخي من بين مقاصده أن يوحد القواعد التي ينبغي أن تخضع لها الدراسات النفسية وتحليلاتها، وذلك بفسح المجال لضرب الأمثلة الواقعية والمجربة حتى تأخذ الأحكام التي أصدرها القرآن الكريم على بعض الظواهر السلوكية والنفسية طابع التقرير وطابع البرهان في آن واحد.
فعلى عكس هذه الظواهر المؤسسة للوحدة الشرودية في النفس الإنسانية كنموذج المنافقين ومن في صفهم يطرح القرآن الكريم مظاهر الوحدة السليمة والموافقة لأصل الفطرة وعناصرها وهي المناقضة الكلية للمظاهر التي ميزتها الوحدة الشرودية لا على المستوى العقدي فحسب، بل على المستوى السلوكي والإجرائي أيضا.
وفي هذا يقول الله تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله. أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم"[2].
وأما عن الوحدة التاريخية في موافقة الفطرة والتوظيف السليم للقواعد النفسية فنجد أيضا قول الله تعالى:"وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين"[3].
يستشف من خلال الآيات الخاصة بالمنافقين والآية الخاصة بالمؤمنين أن التحديد السلوكي والنفسي هو تحديد عقدي. ولهذا فالصحة أو المرض النفسي سببه بالدرجة الأولى عقدي، مما يترتب عنه سلوكيات فردية واجتماعية تتميز ظواهرها بحسب المبنى العقدي للشخص .
وعند هذه الخصوصية التي يؤسسها الجانب العقدي في التصور الإنساني وطبيعته النفسية تتحدد نوعية التقسيم والاستجابة لنداء الفطرة .
فأما الموافقون للفطرة فتكون استجابتهم موفقة بحسب المناسبة الروحية التي سبق وأشرنا إليها.
وأما المناقضون لها فإنه سيترتب لديهم قياس فاسد يمكن الاصطلاح عليه بقياس الأدنى أو قياس المثل في غير محله، وذلك لأنهم سيرفضون كل نداء بالعودة إلى الصحة النفسية الأصلية بدعوى أن الشخص الداعي إليها هو من جنس مستواهم، ويشترك معهم في وحدتهم الوهمية الشاردة .
ولهذا فقد كان أغلب الرفض لدعوة الرسل والأنبياء وورثتهم من الأولياء والعلماء يتأسس على هذا الوهم، وهو المماثلة والتشابه الجماعي الذي تمتد عناصره على مستوى السلوك الذاتي والتسلسل الاجتماعي والتاريخي.
وفي هذا نجد قول الله تعالى:"ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون؟ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين"[4].
وقوله:"وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون "[5].
فخلفيات هذا الوهم بالمماثلة واضحة في الآيات السابقة، إذ أن غياب الصحة الروحية وصرفها عن فطرتها الأصلية لم يبق إلا الهيكل الجسماني في التصور الإنساني والذي هو عنصر مادي يقاس بالمقياس ذاته المشترك بين سائر الكائنات العضوية عاقلة كانت أم غير عاقلة.
ومن ثم فالتقسيم النفسي من خلال هذا الطغيان المادي على التصور سوف لن يكون إلا بحسب القياس إلى الذات المرئية، وذلك يعني الإسقاط الذاتي المخالف للحقيقة والموضوعية بكل عناصرها.
وللحيلولة دون الوقوع في وهم المماثلة الخاطئة يقرر القرآن أنه لا سبيل إلى معرفة النفس وإدراك تفوق شخصية على أخرى إلا من خلال موافقتها للفطرة والاعتماد على الأساس العقدي في الحكم والميزان .
ولهذا فقد كان نفس الدواء الذي يستشفي منه البعض قد لا يزيد البعض الآخر إلا نفورا و خسارا، لأن تقبله لا يتم إلا بحسب موافقته والتكيف معه ومناسبته كما تدل على ذلك الآية الكريمة في قول الله تعالى:"وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا، وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونآى بجانبه، وإذا مسه الشر كان يؤوسا، قل كل يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا"[6].
فالشاكلة قد تقتضي المشاكلة والمناسبة كما تقول القاعدة النفسية المتداولة"الشكل إلى الشكل أميل"، إلا أن الشكل النفسي له أدوات وشروط وضعها الإسلام في الاعتبار، وذلك لتسهيل معرفة النفس والوصول إلى مستوى التحكم فيها بالأسلوب العلمي المتأسس على القواعد الشرعية التي تحدد خريطة النفس الإنسانية ووظيفتها.
ثانيا: قانون المشكلة والقياس النفسي
وبمقتضى هذه الوحدة النفسية والمشاكلة حسب التوجهات الفردية قد يتأسس مبدأ القياس النفسي للتحفيز والعمل والحفاظ على سلامة الوحدة الفطرية، وهذا القياس سيرتكز على معطيات واقعية تجريبية يوظف عندها في أغلب الأحيان ما يعرف إما بقياس الأولى أو قياس الأدنى.
وكل الأقيسة تعتمد بالدرجة الأولى على العنصر العقدي الذي: إما أن يوحد النفس على مستوى الفطرة وإما بغيابه قد تتوحد على مستوى الشرود كما اصطلحنا عليه، وتتجلى هذه المقايسة النفسية في عدة مجالات، منها ذات الطابع الجماعي التكتلي، ومنها ذات الطابع الفردي ذي الصبغة العقدية المحضة والمرتكزة إما على الاعتبار النفسي أو الاعتبار المادي الغريزي.
فأما المقايسة الأولى فقد نجد نماذج منها في القرآن الكريم في قول الله تعالى: " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين"[7].
و"ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين"[8].
و"ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا، هل يستوون؟ الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون، وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم"[9].
و"وحاجه قومه قال أتحاجونني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"[10].
فالملاحظ على هذه الآيات هو أن القياس وارد في أغلب الأحيان لصرف الخوف الوهمي وتعويضه بالخوف الحقيقي الذي هو حالة صحية للنفس وليست بمرضية.وبهذا فقد يستعمل القرآن الكريم قياس الأولى لتثبيت النفوس وتأسيس سلوكها على عقيدة حقة قد تطرد الأوهام عنها وتعطيها شخصية صحيحة ترى ذاتها من خلال معتقدها، الذي هو أهم غذاء فطري لها.
أما المقايسة المؤسسة على الموازنة الغريزية لتحفيز الباعث وتنشيط الإرادة فنجدها في قول الله تعالى:"زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب.قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله.والله بصير بالعباد"[11].
وهذه المقايسة على مستوى الغريزة، سواء تعلق الأمر بغريزة البقاء أو النوع نظرا لملازمتهما لتكوين الإنسان، لن يلغيها الإسلام من تحديد سلوكه، بل سيحيلها على ميزان الاعتدال لكي تصبح وظيفتها فطرية متناسبة مع وظيفة الروح الأصلية، وذلك بالتقليل من قيمتها الذاتية بالاعتبار إلى القيمة النفسية التي تعبر حقيقة عن شخصية الإنسان وسمو تكو ينه.
ولتحقيق هذا الاعتدال فقد جاء الخطاب الشرعي بهذه المقايسة لتحقيق بعد نفسي يستطيع من خلالها الإنسان أن يضبط نفسه ويعرف بواعث إرادته ونواياه، فنجد مثلا الحديث "عن حكيم قال:سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: إن هذا المال وربما قال سفيان:قال لي: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى"[12]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس"[13].
ومن خلال الآيات والأحاديث هاته سيتضح لنا المرتكز الأساسي في الدلالة على النفس وأحوالها، وهو الأصل العقدي بالدرجة الأولى. والذي قد تتشخص آثاره ميدانيا في السلوك الداخلي والخارجي للإنسان، إما على المستوى الفردي أو الجماعي -كما مر بنا- أو على المستوى الغريزي.
وعلى هذا التقسيم الأخير أيضا سيركز الإسلام الدلالة على أسرار النفس الإنسانية بحسب تعلقاتها الفطرية العقدية والسلوكية، ومن ثم سيصوغ لنا الثوابت النفسية على ما يمكن صياغته بالصور الجزئية والصور الكلية للنفس الإنسانية.
بحيث أن الأولى قد تدخل أعراضا وضمنا في دائرة الصور الكلية من جهة أنها تمثل مجموعات أحوال نفسية وظواهر نفسية وظواهر سلوكية تنتمي إلى هذه الظاهرة الرئيسية أو تلك ...
***
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر الإسلامي والحضارة
وجدة، المملكة المغربية
...............................
[1] سورة التوبة آية 67-70
[2] سورة التوبة آية 71
[3] سورة هود آية 126
[4] سورة المؤمنون آية 23-24
[5] سورة المؤمنون آية 33-34
[6] سورة الإسراء آية 82
[7] سورة آل عمران آية 140
[8] سورة العنكبوت آية 1-2
[9] سورة النحل آية 75-76
[10] سورة الأنعام آية 80-82
[11] سورة آل عمران آية 14-15
[12] رواه البخاري في كتاب الرقاق
[13] رواه البخاري في كتاب الرقاق